المدن العتيدة تكتب نفسها
بواسطة : عقيلة آل حريز
18 أغسطس، 2021
بعض المدن لا تشبه غير نفسها، تمر في تاريخها سماوات وتتعاقب عليها حقب وأجيال متوالية، لكنها تظل تحتفظ بخواصها التي تشرح هويتها فلا تضمحل ولا تتنصل من تاريخها أو يتلاشى منها، لذا هي لا تقاس بتعاقب الحوادث فحسب ولا بمحطات توقف الناس ومنعطفاتهم فيها، بل بعمق المواقف التي تشهدها.
كذلك كانت كربلاء في خلودها، هي مدينة خاصة بأحداثها، وتواريخها ومشهدية الحدث فيها، فهي مدينة مرت بها كثير من الحوادث، ووفدتها الكثير من النوايا المعقودة عبر تاريخها بالشهادة، وخلدت شخوص الكثيرين فيها، بينما أحرقت ونفت آخرين وباعدتهم عنها.
وبما أن الشهداء يزدادون عمراً بشهادتهم على اعتبار أن الحياة تضحى مديدة لهم بعد الموت، فهم يتركون أثرهم في المدن التي يستشهدون فيها ويمدونها بأعمار طويلة تتركها في حالة شباب دائم ومتوهج، كموقف، وحدث، وعقيدة، لذا فهم يعطون للمدن قدسية خاصة وعمراً آخر ممتداً يضاف لتاريخها العميق.
مرت بكربلاء حقب ورجالات كثيرة، مواقف لا تزال تحكيها عبر أنفاسها كلما تمايلت بها فصول الذاكرة، وهزتها تواريخ الأيام واسترجعنا تفاصيل الأحداث فيها.
فرجال كربلاء كانوا هم من ساهم في كتابة تاريخها العتيد بحبر دمائهم، فالهوية تمثلت في قضية الحسين ومواقفه وملحمته الخالدة، لكنها اكتملت أكثر بوجود الأنصار الذين مروا في أحداث كربلاء كأعلام شاهقة، فصنعوا علاقتهم بواقعة الطف كأزلية لا تنتهي، وضوعوها بعطر دمائهم التي راحت مسفوكة في ساحة صحرائها الواسعة : “فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي”، لهذا صارت كربلاء مدينة استثنائية، استثنائية بملحمتها وقضيتها، واستثنائية ببطلها الاستثنائي، فراحت تكتب بحبر البطولة الذي سُجل بدم الأنصار، الذين استشهدوا بين يدي الحسين.
راحت تكتب تاريخها الاستثنائي وأبطالها الذين توافدوا في قلبها عبر مفرق زمني استثنائي وخاص جداً، راحوا يرسمون قدرها قبل أقدارهم، يتوجون مجدها قبل مجدهم، ويسطرون حكاياتها وحديثها العميق، الذي كلما قلت اكتفيت منه ترجع له عطشان بسحر فاضح لقلبك ومشاعرك وكل كياناتك مجتمعة، كآثم في العشق تفضحه نبضات قلبه، نظرات عينيه وفلتات لسانه وتراكض أفكاره ناحية معشوقه، وكلما توارى بعشقه، كلما خفق داخله صارخاً به مدللاً عليه.
هكذا العشاق يكتبون عشقهم، بقتربون من منابعه، يستظلون به وبوصوله، فلا خيبات ولا حسرات ولا أحزان تصيبهم، فقد وصلوا لغايتهم وأدركوا مرامهم فبه يتيهون وبه يحييون، فلما فجع الحسين بأهل بيته وولده ولم يبق غيره والنساء والاطفال نادى فيمن شهد كربلاء: “هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو ما عند الله في إغاثتنا”.
قليل أجاب وكثيرون تخاذلوا وفروا زحفاً، لا يرومون سوى الفوز الذي ظنوه، فلم يحظوا به.
وبينما هم يفعلون بقيت معركة الطف قائمة في صراع محموم يعرفه أصحاب النجدين، لم تنتهي حتى الآن، فهي ما زالت قائمة في كل العصور ومتاحة لاستقبال كل المتوافدين على قيمها، لم تنتهِ سيرتها لليوم، فهي في كل حياتنا، في كل قيمنا، في كل تعاملاتنا، ومشاعرنا وكل طرقنا التي ننتهجها، فمن تراه سفهم قيمة ما خلدته كربلاء، ويقرأ سيرة كتبت بدماء التضحيات تطيل في عمره وتقصر في عمر المعرض عنها، من تراه سيقترب من سيرة العشق ويصغي لوجيب قلبه ويستجيب لندائها، فتكتب اسمه في تاريخها العتيد.