تهاجر كل عام مرتين مليارات الطيور مجتازةً مسافات شاسعة، لتبني أعشاشها في مناخ أدفأ. وهي تطير فوق المحيطات والصحارى، في ظروف مناخيّة شديدة القسوة، لتصل بالتحديد إلى الأماكن التي كانت فيها في رحلات سابقة. وفي أجواء المملكة وحدها، يهاجر كل عام نحو 500 مليون طائر، تنتمي إلى أكثر من 500 نوع.
ومع أننا نعرف أنماط خريطة طيرانها، إلا أننا لا نعرف تماماً بعد، كيف تتخذ الطيور المهاجرة مسارها في معارج البيئة، وتعرف بالضبط إلى أين تتجه. فثمَّة نظريات عديدة في هذا الشأن، تفسِّر كيف تسترشد الطيور في مساراتها وكيف تتخذ وجهتها نحو مقصدها. وترى هذه النظريات أن تلك المخلوقات الضعيفة، تستخدم طيفاً كاملاً من أدواتها الحسيّة وأساليبها من أجل الوصول إلى هناك.
إن رصد مراحل مسارات الطيور في هجراتها، جزء مهمّ من عوامل دراسة سلوكها. ويصف مقال في مجلّة "ذي كونفيرسيشن" نُشر في مارس 2021م، الوسائل التي يستخدمها علماء الطيور في دراسة خرائط هجرتها، وكيف تحسّنت هذه الوسائل مع الوقت.
فاليوم، يجري تعقُّب الطيور المهاجرة آلياً بواسطة شبكة مترامية الأطراف في الكرة الأرضية من أنظمة الهوائيات اللاسلكية. وهذه الهوائيات موزّعة على مسافات متساوية، مثل أبراج الهاتف الجوّال. وهي ترصد حركة الطيور التي تحمل معها أجهزة تعقُّب الأثر مثبتة في سيقانها. وهذه الأجهزة هي خفيفة الوزن لا تعوق تحليق الطائر، وتعمل بالطاقة الشمسية، وترسِل أزّة صوتية كل خمس ثوانٍ.
في الماضي كان علماء الطيور، يبحثون عنها في الحقول التي تغط فيها بحثاً عن الغذاء، ويحاولون العثور على أفراد منها رُبِطَت بسيقانها أعلام مُرمَّزة ملوّنة. وكان عليهم أن يقاربوا الطائر بحذر شديد إلى مسافة قريبة جداً تمكّنهم من قراءة المعلومات على العَلَم، بواسطة منظار، لكن لم يكن بإمكانهم الاقتراب أكثر، حتى لا تفزع الطيور. وكان ذلك يقتضي جهوداً مضنية، لقاء القليل جداً من بيانات المعلومات. أما الحلول التكنولوجية الحديثة، مثل محطات رصد الطيران، فقد وفّرت مقادير أكبر من البيانات، وسهّلت تفهُّم هذه المخلوقات المدهشة. وفيما كان العلماء يرصدون الطيور في هجراتها، لاحظوا أمراً غريباً في شأنها. فحين تحرف الرياح الشديدة أسراب الطيور عن مسارها بعيداً، فإنها تستطيع أن تصحّح طيرانها إلى مسارها الصحيح، إذا كانت قد سلكت هذا المسار من قبل. ولكن كيف تُفلِح في ذلك؟ هذا لا يزال سراً تحاول تفسيره نظريات عديدة.
خريطة باطنية
المؤكد أن لدى الطيور آلية داخلية غرضها الاستدلال في طريق عودتها إلى موطنها، من أرض لم تكن فيها من قبل. ترى إحدى النظريّات، أن الطيور تستطيع أن تستقرئ حقل الكرة الأرضية المغناطيسي وتتخذه خريطة لطيرانها. فعند الانتقال على محور الحقل المغناطيسي من الشمال إلى الجنوب، تتبدّل زاوية الخطوط المغناطيسية، بالنسبة إلى سطح الأرض.
لذا، حين نفترض أن الطيور يمكنها أن تستشعر الحقل المغناطيسي، فإنها تعلم كم أنها قريبة من الشمال أو من الجنوب. علاوة على هذا، يمكنها كذلك أن تعرف موضعها من محور الغرب-الشرق. ويتكوَّن هذا المحور من انحراف عن الحقل المغناطيسي، وهو الفارق بين الاتجاهات نحو أقطاب الشمال المغناطيسي، والشمال الحقيقي. وهذا يرسم نوعاً من "خريطة مغناطيسية" تعمل بمثابة نظام تموضع. وإذا كانت الطيور تعرف موضعها على كل من هذين المحورين (محور الشمال-الجنوب، ومحور الغرب-الشرق)، فإنها تعرف أين هي في الكرة الأرضيّة تماماً.
حتى وقت قريب، كانت هذه مجرّد نظريّة، لكنّ بحثاً جديداً نُشر في مجلّة "كارنت بيولوجي"، في فبراير 2021م، رأى أن بعض الطيور حسَّاسة للتغيُّر في الحقل المغناطيسي على الأقل. وقد أمكن معرفة ذلك بواسطة تقنية تُسمى "الانزياح الافتراضي".
فقد انتقى الباحثون عدَّة أنواع من طيرِ هازجةِ القصَب الأوراسيَّة، وأخضعوها للاختبار داخل جهاز يتيح استحداث حقل مغناطيسي موضعي، يقلّد حقل الأرض المغناطيسي، لكنه غير مُصطَفٍ معه. أي إنه يؤشّر إلى شمال غير الشمال الحقيقي. والافتراض العلمي في هذه التجربة، يخمّن أن الطيور إذا كانت بالفعل تسترشد بالحقول المغناطيسية في هجرتها، فإن تغيُّر إحداثيات الحقل المغناطيسي ينبغي أن يكون كافياً لتوجيه هذه الطيور في الاتجاه الخطأ لطيرانها.
أحرزت التجربة نجاحاً. وهذا يثبت أن هازجة القصب الأوراسية تستطيع أن تتلمَّس الحقول المغناطيسية. وثمَّة فرضيّتان في هذا الشأن، إحداهما أن الطيور تستطيع الإحساس بالحقول المغناطيسية بواسطة جزيئات أكسيد الحديد المغناطيسية، التي تعمل بمثابة أداة استقبال مخزونة في داخل خلايا أبدانها. الفرضية الأخرى هي أن الطيور تستطيع أن ترى الحقول المغناطيسية بواسطة جزيء "الكريبتوكروم" في عينيها. غير أن أياً من هاتين الفرضيتين لم تثبت بعد.
الاسترشاد بالشمس والنجوم!
ويظن بعض العلماء أن الطيور تستعين بموضع الشمس لمعرفة اتجاه طيرانها. ففي مقالة نشرتها مجلة "كل شيء عن الطيور" في أبريل 2008م، جاء أن هذه الفرضية اختُبِرَت منذ عام 1951م. وحقّق العلماء التجربة في موسم الهجرة حين كانت الطيور تحاول التوجّه جنوباً. فأخذوا عدَّة أنواع من الزرزور الأوروبي، ووضعوها في أقفاص توجيه. ثم أوهموا الطيور أن الشمس كانت في موضع مختلف، باستخدام مرايا. فحاولت الطيور أن تتوجَّه نحو الجنوب الذي أوحت به الشمس البادية في المرايا. كان هذا هو الاتجاه الخطأ في العالم الحقيقي، لكنه كان الاتجاه "الصحيح" في منظور الطيور.
فالتوجُّه البصري الذي توفّره الشمس ليس سوى أحد المكوّنين، وهو ما يسمَّى "بيكار الشمس". أما المكوّن الثاني فهو وتيرة الطيور اليوميّة. فعلى الطيور أن تحسب حساب حركة الشمس اليوميّة. ولهذا الغرض لا بد من أن تكون لديها "قدرة التعويض من الوقت".
لقد جُرّبَت هذه الفرضيّة على الحمام. فعلى مدى عدة أيام وُضع الحمام في غرف مقفلة تنيرها مصابيح تقلّد ضوء الشمس الطبيعي. وهكذا أُبدِلَت ساعات الليل اصطناعاً. وحين عُدِّلَت بذلك وتيرة الحمام اليومية، أطلِقَت في الجو في النهار. ومثلما كان متوقعاً، أخطأت طير الحمام تفسير موضع الشمس، لأن "ساعتها الباطنية" أشارت إلى الوقت الخطأ. فطارت في الاتجاه الخطأ، وأثبتت بذلك نظرية بيكار الشمس.
وليست الشمس الإشارة الكونية الوحيدة التي تتلقّفها الطيور من أجل الاسترشاد في طيرانها. فبعض الأنواع طيرانها ليلي، أي إنها تهاجر ليلاً، ولا يمكنها الاسترشاد بموضع الشمس. وبدلاً من ذلك تسترشد بالنجوم، لمعرفة اتجاهها. ويصف مقال نُشر في مجلة "ناشونال جيوغرافيك" في نوفمبر 2019م، اختبار قدرة الطيور الغرّيدة المهاجرة على الاسترشاد بالنجوم. فقد استخدم الباحثون عدَّة أنواع من فروخ الدُّرَّسات النيليَّة، ووضعوها في قبة سماوية مصغَّرة. وجُعِلَت القبة على نحوٍ يحاكي خريطة قبة السماء الليلية في داخل مختبر، مع بعض الإحداثيات المعدَّلة. في البدء، أظهرت القبة المضاءة فوق رؤوسها سماءً ليلية عادية مع حركة نجوم تدور من حول النجم القطبي. فحاولت الطيور أن تطير صوب الجنوب. وفيما بعد أزيلَت أبراج النجوم في شعاع 35 درجة حول النجم القطبي. عندئذ أخفقت الطيور في معرفة وجهتها، فأخذت تخمش جدران القفص خبط عشواء. وهكذا أثبت هذا الاختبار أن نجوماً بعينها، أو أبراج نجوم معيَّنة، ليست هي التي تهمُّ الطيور في استرشادها، بل دوران النجوم حول نقطة مركزية. وهكذا تعرف أين الشمال، فتطير في الاتجاه المعاكس.
تضاريس الأرض والروائح
علاوة على المؤشرات الفضائية والمغناطيسية، يمكن للطيور أن تعتمد على وسائل أكثر "دنيويةً" للاسترشاد في طيرانها، مثل الاستدلال بالتضاريس الأرضية. ففي بحث نُشر في "مجلة البيولوجيا الاختبارية" في يونيو 2003م، أن الطيور تستطيع أن تتوجّه وفقاً لتضاريس أرضية مألوفة، في مناطق سبق أن ألِفَتها. وهذه المؤشرات تتضمَّن الغابات، والحقول، والبحيرات، والأنهار، والجبال، والمحيطات، وحتى المصنوعات البشرية مثل الطرق، والمدن، والمباني. واستنتج العلماء ذلك بعد تجارب عديدة، بإزالة بعض الوسائل البديلة للاسترشاد في الطيران، مثل بيكار الشمس والاستدلال بالشم. وحققوا هذا من خلال تبديل الوقت، أي خداع الطيور لتظن أن الوقت غير الوقت الحقيقي في النهار، وجعلها فاقدة حاسّة الشم. لكن الطيور ظلت قادرة على معرفة الاتجاه الصحيح إلى موطنها، في بيئة مألوفة، مستخدمة، على الأرجح، مؤشّرات بصرية.
لكن، خارج المحافل الاختبارية، لا تعتمد الطيور على الحس البصري وحده حين تطير في منطقة ما. فبعض العلماء يرون أن العصافير تستخدم كذلك أعضاء الشم. فقد جاء في بحث آخر نُشر في "مجلة البيولوجيا الاختبارية" في مايو 2013م، أن الطيور ترسم خريطة عقلية تستند إلى الروائح. فهي تتعلَّم الروائح المنتشرة في جوار المنطقة التي ترتادها، ومن أي جهة تحمل الريح تلك الروائح. لذا حين تكون الطيور في موقع غير مألوف، تستدل بالرائحة للعودة إلى موطنها.
التعقُّب المناخي
إن سبب هجرة الطيور، في الأساس، هي رغبتها في أن تظل في المناخ الذي تفضِّله طول العام. وتشير بعض الأبحاث إلى أن العصافير في الواقع تتعقّب المناخ نفسه على مدى رحلتها، أي إنها تبقى في جوٍّ مناخي واحد، على الرغم من رحلتها التي قد تبلغ مسافاتها ألوف الكيلومترات، في التوجّه الشمالي-الجنوبي.
وثمَّة بحث جديد، نشرته "رسائل العلوم البيئية" في فبراير 2021م، يلقي الضوء على هجرة طير الدُّخَّلة الصفراء ، وهو عصفور غرّيدٌ مهاجر واسع الانتشار، يفقس بيضه في أمريكا الشمالية ويُمضي شتاءہ في أمريكا الجنوبية. وترى بعض الأبحاث أن بعض أنواع الطيور تكيَّفت مع ظروف مناخية ما، وهي تفضّل أن تبقى في مناطق تسود فيها هذه الظروف المناخية. وتتجاوز الظروف مجرَّد الحرارة المنشودة.
وتفضِّل بعض العصافير المناطق وفق مستوى هطل المطر. فمنها ما يفضِّل المناخ الجاف، فيما يزدهر بعضها الآخر في المناخ المطير. وبيَّنت الأبحاث أن الأهم عند الطيور هو خيارها المفضّل من حيث مستوى الجفاف والرطوبة، أكثر من مستوى درجات الحرارة. ولذا فالطيور التي تفقس بيوضها في المناطق الجافة من أمريكا الشمالية، تُمضي شتاءاتها في المناطق الجافة في أمريكا الجنوبية. أي إن التبدُّل المناخي سوف يهدّد الطيور المهاجرة، ما دامت مسارات هجرتها مضطرة للتكيّف، وهذا يعني انزياح بعض الأنواع عن مواطنها.
جينة الارتحال
السؤال الأصعب: كيف تعرف هذه الطيور كم من الوقت سيستغرق طيرانها؟
في دراسة حديثة نشرتها مجلّة "نايتشر" في مارس 2021م، أن الجواب قد يكون في علم الجينات. إذ يعتقد العلماء أنهم اكتشفوا "أرجح الأدلة حتى الآن على جينة الارتحال". فقد ربطوا أجهزة بث على بعض طيور مجموعات عديدة من الباز الرحّال، وتعقّبوها في مسارات هجراتها المختلفة، بواسطة الأقمار الاصطناعيّة. وقرنوا البيانات التي جمعوها، بخريطة التسلسل الجينومي، فوجدوا أن نسبة التردّد العالية لنوع معيّن من الجينات، سموه ADCY8، توجد أكثر في أصناف الباز التي تهاجر مسافات أطول. وقرنوا هذه الجينة بتكوُّن الذاكرة الطويلة المدّة في حيوانات أخرى، وهي ذاكرة ضرورية في هجرات المسافات البعيدة. وهذه أول مرّة تُقرَن فيها جينة معيَّنة بسلوك الطيور الرحّالة. وقد تبيّن للعلماء أيضاً أن تبدّل المناخ يؤثّر في تشكيل أنماط الهجرة لدى أسراب الباز. وهم يتوقعون أن الاحتباس الحراري قد يؤدِّي في المستقبل إلى انخفاض أعداد أسراب الباز في أوراسيا الغربية، أو إلى توقُّفها تماماً عن الهجرات السنويّة.
إن هجرة الطيور مسألة معقّدة، وهي عملية لم تكتمل دراستها بعد. وليس من باحث من الذين يدرسون هجرة الطيور وأساليبها وأدواتها، يعتقد أنها تستعين بأسلوب وحيد، أو أنها جميعاً تستخدم المجموعة نفسها من أدوات الاسترشاد.
ولعل معظم أصناف الطيور وأنواعها تستدلّ على وجهة طيرانها بالخريطة المغناطيسيّة، مقرونة بالبيكار الشمسي، أو خريطة النجوم في القبّة السماوية، وحين تكون في مواقع أليفة أكثر، تستهدي بالتضاريس والإحداثيات الأرضية والروائح المحلية. فالاعتماد على وسيلة استرشاد واحدة يجعلها عاجزة عن الاهتداء إلى طريق عودتها إلى خط طيرانها، إذا حادت عنه، أو عن الاهتداء إلى خط هجرتها، في المقام الأول.