النور الإلهي
– إن اللانهاية عندما تقسم على النهاية، يكون الجواب هو: لا نهاية.. وهذه هي معادلة الحياة، ومعادلة العمر.. فنحن نريد أن نشتري الأبدية واللانهاية، بهذه السنوات المحدودة في هذه الدنيا.. يا لها من معادلة رهيبة!.. إن متوسط الأعمار ثلاثون سنة، وأكثر من الثلث يذهب في النوم والشرب وما شابه ذلك.. والسنوات الأخيرة من العمر سنوات غير منتجة، فهي سنوات تعب ومرض.. وعليه، فإن العمر المؤثر والمفيد، حوالي الخمسين أو بعده بقليل.
– إن الأطباء في الغرب عندما يكتشفون أن الطرف المقابل، مصاب بمرض خبيث، فبلا مقدمات وبلا تهيئة نفسية، يخبرونه بذلك.. فإن منطقهم أن الصراحة راحة، وأن الإنسان يجب أن يكون منطقيا وواقعيا، ولا داعي للمجاملة.. أما في بلادنا، فإن الأطباء عادة يحاولون أن يمرروا الفكرة بشكل تدريجي.. أما نحن فيجب أن نتأسى بعرف الأطباء في بلاد الغرب، عند الحديث عن الموت.. فنحن مقدمون على الأبدية، وهذه الأبدية تباع في سوق الدنيا بسنوات محدودة، وبها نحدد المسار الأبدي.. إن تصور الأبدية يصعب على العقول؛ لأن عقولنا محدودة.. وكي نستوعب الأبد، نحتاج إلى ذهن في حدود الأبد، وفي حدود اللانهاية.. ونحن -إن شاء الله- عندما ندخل الجنة نعلم ما معنى الأبدية.
إن نعيم الجنة كله في جانب، وهذه الرسالة التي تأتي من الله -عز وجل- في جانب: (من الحي الذي لا يموت، إلى الحي الذي لا يموت).. من الحي الذي لا يموت، بنفسه، وبه، وبلا مدد الغير.. إلى الحي الذي لا يموت، بأمره، فأمْرنا إليه.. إذا أراد أن يقطع الخلود، قطع الخلود.. فإذن، إن المعادلة رهيبة ومخيفة، ومن هنا فإن الإنسان العاقل، يفكر بمنطق عقلي.
– إن من آثار استيعاب هذه المعادلة: الحيوية والنشاط في الدنيا.. مع الأسف إن الذين يغلب عليهم ذكر الموت من دون وعي، ومن دون غطاء توعوي أو تثقيفي صحيح؛ فإنه يجلس في زاوية.. وإذا كان له عمل، فإنه يترك عمله.. وبعضهم يتقاعس في سنوات التقاعد، ويؤثر حياة العزلة في المنزل، ويترك كل نشاط اجتماعي، وتجاري، وغيره.. والحال بأن ذكر الموت، يدفع الإنسان للحياة النشيطة، وللعمل التجاري.
رأى الزهري علي بن الحسين (ع) ليلة باردة مطيرة، وعلى ظهره دقيق وهو يمشي، فقال: يا بن رسول الله ما هذا؟.. قال: أريد سفرا أعدّ له زاداً أحمله إلى موضع حريز، فقال الزهري: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبى.. قال: أنا أحمله عنك، فإني أرفعك عن حمله.. فقال علي بن الحسين (ع): لكني لا أرفع نفسي عما ينجيني في سفري، ويحسن ورودي على ما أرد عليه، أسألك بحق الله لما مضيت لحاجتك وتركتني.. فانصرف عنه، فلما كان بعد أيام قال له: يا بن رسول الله!.. لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثراً، قال: بلى يا زهري!.. ليس ما ظننت، ولكنه الموت وله أستعدّ، إنما الاستعداد للموت تجنّب الحرام، وبذل الندى في الخير.
إن الإنسان عادة في الليالي المطيرة والباردة، يؤثر الجلوس إلى جانب النار الدافئة، وكان بإمكان الإمام (ع) في هذه الساعات، أن يدعو بمناجاته التي رواها أبو حمزة الثمالي.. ولكن الإمام كان في هيئة غريبة، على ظهره دقيق وحطب.. فالإمام وجود متنوع، ووجود جامع.. لهذا نقول دائماً وأبداً: إن المؤمن وجود جامع، وخريطة متكاملة: له علاقة بالله، وله علاقة بالخلق، وله سفر من الخلق إلى الحق، ومن الحق إلى الخلق… فهو إنسان متنوع كما كان النبي وآل النبي.
– إن الإنسان كلما زاد اعتقاداً بهذا السفر، وبأن هنالك مراحل مخيفة بعد هذا السفر، وأنه بحاجة إلى زاد، كلما زاد تحركاً في الحياة.. فالإمام (ع) كان يقوم بدور التكافل الاجتماعي، وللإمام أبعاد أخرى: تعليم الأمة، والجهاد، ومواكبة ركب الحسين في كربلاء، وتحمل الأغلال الجامحة، وخطبته في مسجد دمشق.. وهناك عشرات النشاطات والحركات، التي كان يقوم بها الإمام زين العابدين (ع).. وليس تحت هذه السماء منذ أن خلق الله آدم إلى يومنا هذا، مجموعة حديث مع رب العالمين بهذه الروعة، وبهذه العاطفة، وبهذا الفهم، وبهذه المواقف الفكرية والمفاهيم المكتنفة، كصحيفة الإمام، وهو زبور آل محمد (ص).. نعم إنه وجود متنوع في كل شيء.. فإذن، إن الدرس الأول هو أن الإنسان الذي يفكر في هذا السفر، يزداد إعداداً، ويزاد استعداداً.
– إن الإنسان في عالم البرزخ والقيامة له مشاكل كثيرة: الخلوة، والوحشة، والمدّاقة في الحساب.. فمن الممكن في مسألة بسيطة، أن يوقفوا الإنسان عليها سنوات طويلة، وكل سؤال يبقى عليه عشرة أو عشرين سنة.. عندئذ ما الذي ستعيشه النفس من العذاب في عالم البرزخ، حتى لو خرج منها منتصراً!..
– إن من العقبات: الظلام، ووحشة القبر.. لذا لابد من اكتساب نور من أجل ذلك اليوم.. إن الروايات تقول: إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه.. إنسان ربى فتاة إلى سن الثامنة عشر أو الثانية والعشرين، وجاء إنسان -بحسب الظاهر- يرضى دينه وأمانته، وإذا بهذا الإنسان يخطئ في المصداق.. وبعد فترة يتفاجأ أنه جعل كريمته، ومن أعطاها وجوده، مع حيوان على شكل ملك.. فهناك الكثيرون يتصنعون بعض الأمور، للحصول أو الوصول إلى مآربهم.. والإنسان غير ملزم أن يعرف الواقع، ولكن لو كان عنده نور، ورب العالمين هداه للنور الذي جعله يميز أن هذا الإنسان يصلح التعامل معه أو لا يصلح، لما وقع في كثير من الأخطاء في أموره الحياتية.
إن أحد العلماء الصالحين، أمضى حياته في تأييد لجهة من الجهات، لعل عشرين سنة وهو يتحمس أو يتحزب لجهة، ثم عرف أن تحزبه لم يكن في محله، وتراجع وأمضى باقي حياته لمهاجمة هذه الجهة.. فنصف العمر ذهب في التحزب، والنصف الآخر ذهب في اللاتحزب.. مثلاً: لو أن هذا العالم عرف طريقه من أول يوم: مع من يتعامل، وأين يسلك، وما هو أقرب الطرق الموصلة إلى الله عز وجل.. لكفاه مؤونة الخبط والخلط الذي وقع به.
– كيف يمكن للمؤمن أن يصل إلى هذا النور؟.. وهل هذا ممكن؟.. أو أنه خاص بالأنبياء؟..
إن الروايات والآيات تدل على هذا المعنى {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} فالسياق ليس سياق الأنبياء، بل هو سياق عامة الناس؛ أي أيها الناس!.. إن كنتم تريدون النور، فأنا نور السموات والأرض.. قال الباقر (ع): (اتقوا فراسة المؤمن!.. فإنه ينظر بنور الله)، ثم تلا هذه الآية:{إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين}.
وبما أن الحيرة في الحياة كثيرة، فإن البعض يلجأ إلى الاستخارة.. فيتوسل الإنسان بالله -عز وجل- قائلا: يا رب أنا وثقت بفلان عبدك الصالح.. فاجعل الخير والمصلحة على لسانه.
إن أحد الشباب قال: أنا شاب كشباب الدنيا، لي محل تجاري بسيط.. وفي يوم من الأيام دخلت المسجد، وكان الخطيب يعظ بكلمات أمير المؤمنين (ع).. يقول: هذا الخطيب قلب كياني رأساً على عقب.. فأجر محله، وانقطع إلى الله عز وجل.. فهو ينتظر الليل، ليذهب لحرم الرضا (ع) ويعيش ساعات لا توصف.. لم يكن يدخل عند الضريح، وإنما يمشي من رواق إلى رواق ويتأمل ويفكر.. كان يقول أرى الله –عز وجل- قد أحاط بي من كل مكان، أينما أذهب أراه أمامي.. فأنا كالإنسان الذي وضعته في النار، أينما يذهب يرى النار تحيطه.
لذا على الإنسان عندما يذهب للرضا (ع)، أن يطلب منه أن يصلح أمره، ويقلع قلبه عن حب الدنيا، ويفتح له الآفاق المبهمة.. وليطلب من الإمام (ع) أن يطلب من ولده المهدي (ع) أن يكون كفيلاً له.. لأنه يتيم، فكلنا أيتام.. واليتيم ليس علاجه بالمساعدات المالية، وإنما يحتاج إلى رعاية، وإلى احتواء نفسي.. فإذا صار بناء الإمام (ع) أن يحتويه في زمان الغيبة، فإنه يفعل فيه الأعاجيب!..
نحن لسنا من دعاة العزلة، فهذا أمر مرفوض في الشريعة، إذ لا رهبانية في الإسلام.. لأن الفخر كل الفخر أن تكون في جوف الليل ممن يتلون القرآن، ويقيمون الليل.. وأما في النهار، فحكما علماء يقاتلون في سبيل الله!.. إن المؤمن يحتاج بعض الأوقات إلى خلوة، بعد التوغل في بعض العوالم، فمن المناسب أن يأخذ الإنسان فترة اعتكافية.. وهذا موجود في الشريعة.
– إن من أشد أنواع العذاب في الحياة الدنيا، هي حالة بعض المؤمنين، الذين هم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، مذبذبين بين ذلك.. إن البعض وصلوا والبعض سقطوا، ولكن المشكلة بمن خرج من الدنيا ولم يصل إلى النعيم المعنوي.. فهو ليس من أهل الدنيا في لذائذهم، ولا يشارك أهل النعيم المعنوي في سكراتهم في جوف الليل.. لا سكر الخمرة، ولا سكر الوصول إلى المقامات العالية.. إن أهل الدنيا يسرحون ويمرحون، وأهل الآخرة أيضاً يسرحون ويمرحون في الدنيا.. فبك إلى لذيذ مناجاتك وصلوا.. يقول الإمام زين العابدين (ع): ومنك أقصى مقاصدهم حصلوا.. بكأس الملاطفة يكرعون..
– إن هذا النور من الممكن أن نكتسبه في هذه الحياة الدنيا.. وذلك من خلال: ترك موجبات الظلمة.. ومن موجبات هذه الظلمة، أمران: الأمر الأول الحقوق، والأمر الثاني الغفلات.. فالحقوق مشكلتها أنها ليست لها ضوابط دقيقة.. فمثلاً: الزوجة مريضة، وهي بحاجة إلى من يسعفها، ويكون بجانبها.. وإذا بالزوج مصر على الذهاب إلى أصدقائه.. فهذا ليس بحرام، ولم يرتكب معصية؛ ولكنه بهذا التصرف يكون قد كسر قلباً.. وكان بإمكانه أن يقدم إحساناً، وأن يجبر هذا الكسر أو هذا الوهن النفسي.
أحد العلماء يقول: أن أحد أولياء الله الصالحين زاره في ليلة من الليالي، ترك صلاة الليل، وجلس معه إلى الصباح، وهو يسليه بنكتة أو بقصة.. فهذا الولي يقول: أحسست بأن هذا العالم هو بحاجة هذه الليلة إلى فرفشة -إن صح التعبير- فقلت: لأترك صلاة الليل، وأدخل على أخي السرور.. انظروا إلى هذه الحالة الجامعة، وإلى هذه الشفافية في فهم الشريعة!..
إن بعض ما يصيبنا من البلايا والأمراض، وخاصة عند الأخوات المؤمنات، هو من التقصير في حقوق الخادمات في المنازل.. فهذه الخادمة ليست بأمة، إنما هي موظفة لها ساعات عمل.. وإذا طالبتها بالعمل خارج ساعات العمل، فإن هذا ظلم لها.. وكذلك في التأخير بدفع حقوقها.. فعشرات الظلامات تقع على رأس هذه المسكينة، والحجة أنها وافدة، ولا أحد يعرفها.. فإن هذا من عقبات الوصول، حتى لو كانت هذه الخادمة على غير الإسلام.
– وأما الغفلات.. أي أن يعيش الإنسان حالة السهو.. هنالك درجة يصل إليها الإنسان سميناه (س)، ومعالم (س) إجمالاً هي أن يصل الإنسان إلى درجة يكون فيها في أنس دائم: عندما يجلس مع الناس، ومع نفسه.. في الخلوات، وفي الجلوات، يعيش المعية الإلهية.. فليلة الزفاف كليلة ما قبل الزفاف، لم يتغير شيء كثير في الحياة، فقط حياة زوجية.. وساعة الاحتضار، لا تختلف كثيرا عن ساعة الفرح والسرور.. فهو يعيش حالة من حالات المعية المؤنسة جداً.. فمثلا: لو كان الإنسان في محضر مرجع من مراجع التقليد، ثم يقول له المرجع: تعال نذهب إلى غرفة أخرى، أو تعال نتعشى سوية، أو تعال نذهب للمسجد.. فإن هذا الإنسان لا يكاد يرى فرقاً في الأماكن، لأنه مشغول بهذه الهيبة، وهذا الجلال، وهذا المقام.. والمؤمن يصل إلى هذه الدرجة بعد مجاهدة!..
إن هذا البيت من الشعر من أروع أبيات الشعر في اللغة الفارسية أنا للعالم عاشق حيث منه الكون أجمع.. أي أنا عاشق الوجود، وكل ما في الوجود جميل.. فأنا عاشق لهذا الحنظل لأنه خلقة الله عز وجل، فلا فرق عندي بين الحنظل والورد.. فالورد نبتة من نباتات الله، فلأنها صنع ربي، أحب الورد.. وهذا الحنظل أيضا أحبه، لأنه من خلقة الله، وصنع ربي.. ولهذا أحدهم وقف أمام سيد الشهداء (ع) يقسم عليه بأشد الأقسام، ويقول له: إياك أن تشفع لشمر يوم القيامة!.. إنا نخشى أن تشمل شفاعتكم أمثال هؤلاء.. من المؤكد أن الشفاعة لا تنالهم، ولكن هذا الرجل، كأنه يريد أن يقول: أن الإمام الحسين (ع) يرى كل ما في الوجود جميلاً.
– إن تحول رعب الموت إلى الأنس، يكون بالعمل الدائب، ولكن المشكلة هي في الخلط في المفاهيم.. فمفهوم الاستغفار -مثلا- مفهوم خاطئ: إن كان المعنى في القلب، ولا لفظ على اللسان، فلا ضير.. وإن لم يكن المعنى في القلب، فإن مليون لفظة لا تنفع أبداً.
إن مسألة الحروب أيام النبي وأمير المؤمنين والحسنين (ع)، تختلف عن الحروب في أيامنا هذه، فالقتال كان صعباً للغاية، يضرب الإنسان بالسيف ويترك ينزف حتى الموت.. أما هذه الأيام فإن انفجارا واحدا يودي بالمئات، ويصبح الإنسان في عداد الموتى.. ومع ذلك فإن أصحاب الحسين (ع) كانوا يمزحون قبل قتال الأقران، من شدة أنسهم بهذا الموت.. وهذا أمير المؤمنين (ع) كان يقول: (والله!.. لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه، ومن الطفل بأبيه وعمه).. فهذه هي كلمة الفصل في هذا المجال