في الحركة الرابعة من سيمفونيته التاسعة، يبدأ بيتهوفن بلحن مميَّز يُعزف خافتاً في البداية، ثم يتصاعد بإيقاع منتظم نبدأ تدريجياً بإدراك جماله ورفعة سنائه مع تكرار اللحن، قبل أن يُفجره بيتهوفن بتناغم يضعه في مرتبة استثنائية في تاريخ الموسيقى. هذا الجَمَال الفائق في لحن “أنشودة الفرح" وغيره من الألحان الموسيقية العظيمة يعود إلى ما يُسمى في الموسيقى “التناغم" وفي الميادين الأخرى التآلف أو التناظر. فالتناغم أو التناظر موجود في كل مكان من حولنا، في الورود وأغصان الشجر وأصداف البحر وبلورات الثلج، وفي وجه الإنسان كما في الكواكب والنجوم ومساراتها.. إنه في كل مكان من حولنا.
ببساطة، التناظر يعني التكافؤ بين الأشياء. فمثلاً عندما ينظر المرء في المرآة يجد نصف وجهه الأيسر مطابقاً للنصف الأيمن تماماً، بحيث لو تم تبديلهما فسيبدو وجهه كما هو بالضبط. وإذا أمسك مزهرية أو كرة قدم وأدارها وفق أية زاوية شاء، لن يتغير شكلها النهائي. إذن يمكننا القول إن التناظر هو إجراء عملية تغيير معيَّنة على شيء ما، بحيث يبقى له الشكل نفسه تماماً بعد إتمام العملية. ومنذ فجر وعيه، ربط الإنسان التناظر بالجَمَال والكمال التام. وكانت كروية الأرض والشمس والقمر ومسارات الكواكب الدائرية مثالاً على التناظر والكمال. وانعكس ذلك في فن العمارة، حيث نجد التناظر المقصود في بناء القصور والمعابد والحدائق وغيرها من فنون العمارة المميَّزة. فمما لا شك فيه أن التناظر يعطي النفس البشرية إحساساً بالجَمَال والسمو والانسجام التام.
هناك أنواع مختلفة من التناظر؛ الكرة أو البلورة، على سبيل المثال، لهما تناظر دائري تام. أي لو قمنا بإدارتهما في أي اتجاه لن يتغيَّر شكلهما النهائي. لكن لا ينطبق ذلك على المثلث مثلاً. فنحن نحتاج أن نلف المثلث بزوايا معيَّنة تساوي 120 أو 240 أو 360 درجة حتى لا يتغيَّر شكله النهائي. ونقول عن النغمة الموسيقية إنها متناغمة إذا تم تكرارها بشكل منتظم خلال زمن معيَّن. إذاً التناغم أو التناظر قد يكون في المكان وقد يكون في الزمان أيضاً. لهذا السبب توجد مقطوعات موسيقية لا نُدرك جمالها إلا إذا سمعناها أكثر من مرَّة حتى نفهم بُنيانها التناغمي أو التناظري البديع. قد تبدو تلك الأمثلة رائعة، ولكن ما نقصده في هذه المقالة ليس تناغم الأشياء والنغمات وفنون العمارة أو تناظرها، التناظر في قوانين الفيزياء نفسها. لكن كيف يمكن أن يكون هناك تناظر في قانون فيزيائي؟
التناظر في قوانين الفيزياء
طوَّر علماء الرياضيات طريقة رياضية قوية ومفيدة لوصف مختلف أنواع التناظرات، تسمى "نظرية الزمر" (Group Theory). وكعادة تاريخ الرياضيات والفيزياء، وجد علماء الفيزياء في القرن العشرين أن أعماق الطبيعة وقوانينها يمكن وصفها من خلال التناظر ونظرية الزمر. واتضح أن النظرية النسبية ونظرية ميكانيكا الكم والنموذج المعياري لفيزياء الجسيمات الأولية تكمن في أعماقها جميعاً تناظرات هائلة يتم وصفها بنظرية الزمر. حتى ما يُسمى اليوم نظرية كل شيء أو مشروع توحيد قوى الطبيعة هو نوع من أنواع التناظرات المتقدِّمة. بجملة واحدة يحتل التناظر المكانة العليا في الفيزياء الحديثة والمعاصرة كلها. ومن المستحيل طبعاً أن نتكلم عن التناظر ونظرية الزمر من خلال مقالة واحدة. فهذا الموضوع يحتاج إلى مجلدات كاملة. لكننا سنحاول إعطاء أمثلة بسيطة وعميقة في الوقت نفسه.
إن مبدأ النسبية من أشهر وأعمق مبادئ الفيزياء كلها. ويعني هذا المبدأ أنه لو كان المرء داخل سيارة تتحرَّك بسرعة ثابتة في خط مستقيم وكانت كل النوافذ مغلقة، بحيث لا يستطيع أن ينظر إلى الخارج، فإنه لن يعرف أبداً إن كان يتحرَّك أو إن كان ساكناً. وربما شعر بعضنا بهذا الأمر من قبل في الطائرة عندما تُغلق النوافذ. فعلى الرغم من سرعة الطائرة الهائلة إلا أننا لا نشعر بها، ونتصرف وكأننا بالسكون الذي نعرفه في بيوتنا.
يوجد في هذا المبدأ نوعٌ من التناظر. تخيَّل لو أنك أجريت تجربة ما بأدوات معيَّنة داخل السيارة المتحركة بسرعة ثابتة وحصلت على نتائج معيَّنة. لنقل بأنك قد أجريت تجربة على دائرة كهربائية فيها موصلات وقطع إلكترونية بحيث تُطلق هذه الدائرة في النهاية كرة صغيرة. حتى تحسب نتائجك عليك أن تستخدم قوانين ماكسويل وفارادي وأمبير لوصف السلوك الكهربائي والمغناطيسي في الدائرة، بينما تستخدم قوانين نيوتن لوصف سرعة ومسار الكرة المنطلقة. لا تحتاج أن تضيف سرعة السيارة إلى هذه القوانين حتى تُعدلها، لأنه اتضح بأن هذه السرعة لا تؤثر بأي شكل من الأشكال على نتائج تجربتك. إن مبدأ النسبية يخبرك بأن قوانين الفيزياء الأساسية لا تتغير على طول خط حركتك المنتظم. القوانين لها الشكل نفسه الرياضي سواء أكنت ساكناً على الأرض أو متحركاً بسرعة ثابتة في خط مستقيم. لذا نقول بجملة أعمق: إن قوانين الفيزياء متناظرة في المكان. إنها عمياء لا تتأثر بالمكان، تبقى كما هي: يميناً ويساراً، إلى الأمام وإلى الخلف، في الأعلى وفي الأسفل.
إضافة إلى ذلك، فإن قوانين الفيزياء لا تتأثر بمرور الزمن سواء إلى الأمام، أو حتى لو عكسنا سير الزمن ليجري بالمقلوب. لم تتغير قوانين الفيزياء منذ لحظة ولادة الكون وحتى الآن. لذا نقول إن قوانين الفيزياء متناظرة في الزمن. فلو كنت في غرفة تدور بزاوية معيَّنة، فإن قوانين الفيزياء لا تتغيَّر. إذن قوانين الفيزياء متناظرة في الدوران. وهكذا نكون قد أدخلنا كلمة التناظر في القوانين الفيزيائية. ولكن ما أهمية ذلك؟
التناظر لكشف ألغاز الطبيعة
اكتشف آينشتاين النظرية النسبية الخاصة، وافترض صحة مبدأ النسبية (أي إن قوانين الفيزياء متناظرة لا يتغيَّر شكلها في الحركة المنتظمة). وبناءً على هذه الفرضية وباستخدام المنطق الصرف، اكتشف ما اكتشفه من نتائج غريبة، مثل أن الجسم الذي يتحرك بسرعة عالية قريبة من سرعة الضوء ينكمش طوله في اتجاه حركته، ويجري الزمن بشكل أبطأ عليه، ومن الممكن أن يقع حدثان يرى شخص ما بأنهما قد وقعا في اللحظة نفسها، بينما يرى شخص آخر بأن أحدهما قد وقع قبل الآخر. لا مشكلة في ذلك، كل هذه النتائج تأتي لإرضاء وعدم مخالفة خاطر هذا التناظر في قوانين الفيزياء. وشدَّد آينشتاين مع عالِم الرياضيات المعروف هنري بوانكاريه على أهمية التناظرات في كشف ألغاز الطبيعة وعمق بُنيانها. وبعد عشرة أعوام تقريباً، برهنت عالِمة الرياضيات والفيزياء إيمي نويثر على أهم مبرهنة تقع ما بين الفيزياء والرياضيات على الإطلاق، وهي أن كل قانون حفظ رئيس في الفيزياء يمكن اشتقاقه من تناظر معيَّن مستمر.
إن تناظر قوانين الفيزياء عبر المكان وعدم تغيُّرها يؤدِّي بالضرورة إلى قانون حفظ كمية الدفع، ويؤدِّي التناظر في الزمن إلى قانون حفظ الطاقة، ويؤدِّي تناظر الدوران في المكان إلى قانون حفظ كمية الدفع الزاوي. ولو لم يكن هناك تناظر لما كانت هناك كميات محفوظة، وبالطبع هذا لن يجعل عالمنا والحياة فيه ممكنة. إننا لا نبالغ إن قلنا إن مبرهنة نويثر تعادل أهميةً مبرهنة فيثاغورس. إنها نظرية تكشف عن الجَمَال الكامن في أعماق الطبيعة.
أما في قوانين ميكانيكا الكم التي تصف سلوك عالَم الذرات الصغير فتوجد أيضاً تناظرات كثيرة جداً. فعلى سبيل المثال لو أخذنا مادة ما وأبدلنا مجموعة من ذراتها بذرات أُخرى، فلن يتغير أي شيء. ولو أبدلنا بكل الجسيمات، جسيماتها المضادة فلن يتغير أي شيء أيضاً. ولو عكسنا عالَمنا داخل مرآة، فلن يستطيع أحد أن يعرف إن كنا داخل مرآة أو أننا ما زلنا في العالَم الحقيقي! كذلك الزمن سواء أجرى إلى الأمام أو إلى الخلف، فلن يتغيَّر شكل قوانين الفيزياء أبداً.
القوى التي تتحكَّم في سلوك الظواهر
إن هذا ليس نوعاً من الترف الفكري. فلهذه التناظرات أهمية فائقة في كشف طريقة عمل قوانين الطبيعة. وكل تناظر يكشف سر تناظر آخر أعمق منه، مثل لعبة الدُّمى الروسية. إذ توجد في الطبيعة أربع قوى تتحكم في سلوك كل ظاهرة يمكننا أن نراها وهي: قوة الجاذبية والقوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية القوية والقوة النووية الضعيفة. فقوة الجاذبية هي المسؤولة عن جذبنا إلى الأرض وجذب الأجرام الكبيرة كالنجوم والكواكب والنيازك والمجرات بعضها إلى بعض. والقوة الكهرومغناطيسية تصف جميع التفاعلات الكهربائية والمغناطيسية وهي المسؤولة عن التفاعلات الكيميائية وبالتالي هي المسؤولة عن ظواهر الأحياء جميعها. والقوة النووية القوية هي التي تحبس البروتونات والنيوترونات داخل نويات الذرات، بينما القوة النووية الضعيفة هي المسؤولة عن تفكك الذرات والنشاط الإشعاعي الطبيعي.
اتضح أن كل قوة من هذه القوى الأربع توصف بواسطة زمرة معيَّنة في نظرية الزمر. وخلال ستينيات القرن العشرين استطاع، الفيزيائيان شيلدون غلاشو وستيفن واينبيرغ، والفيزيائي الباكستاني محمد عبدالسلام، كلٌّ على حدة، توحيد القوتين الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة باستخدام نوع متقدِّم من رياضيات التناظرات ونظرية الزمر. تُعرَف تلك النظرية باسم "نظرية القوة الكهروضعيفة". وكما هو واضح يوحي الاسم بدمج القوة الكهرومغناطسية مع القوة النووية الضعيفة في قوة واحدة نسميها القوة الكهروضعيفة. لقد تنبأ العلماء الثلاثة بأنه عند درجة حرارة عالية جداً ستندمج هاتان القوتان بشكل تلقائي.
ولنا أن نتخيل بأنهم لم يجروا تجربة حتى يكتشفوا ذلك، بل أدركوا ذلك نظرياً باستخدام الورقة والقلم من خلال قوة مبادئ التناظر ونظرية الزمر. وقد أُثبِتَت نظريتهم في بداية الثمانينيات في مختبر المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية المعروف باسم سيرن. ونال العلماء الثلاثة جائزة نوبل عام 1979م، نظير هذا التوحيد الرائع. وسارت بعد ذلك البحوث لإيجاد تناظرات عليا وأصعب، تجمع القوة النووية القوية مع القوة الكهروضعيفة. وفي الفيزياء المعاصرة حاول منظرون بارعون جداً استخدام رياضيات تناظرية في غاية التعقيد لدمج قوة الجاذبية مع باقي القوى في ما يعرف باسم نظرية كل شيء. وعلى الرغم من عدم وجود أدلة تجريبية تدعم هذه الأفكار مثل الأدلة التي تدعم النظرية الكهروضعيفة، إلا أن كثيراً من علماء الفيزياء البارزين يعتقدون بأن ثَمَّة تناظرات أعمق فأعمق كلما توغلنا في المادة أكثر فأكثر. ويعتقد البعض بوجود شيء اسمه "التناظر الفائق".
بالفعل مرَّة بعد مرَّة يتضح أن التناظر أداة لا مثيل لقوتها في كشف طبيعة الجسيمات الذرية والقوى التي تتفاعل معها. إن للطبيعة الموصوفة بقوانين الفيزياء تناظراً عالياً فائق الروعة.
على المستوى الكوني
ومن عالَم الذرات والجسيمات الأولية الصغيرة إلى عالَم المجرّات والبُنى الكونية الضخمة، كان الاهتداء بالتناظر أيضاً هو السبب في كشف ظاهرة تمدّد الكون. ففي عام 1915م، نشر آينشتاين نظرية جديدة في الجاذبية تختلف كلياً عن نظرية نيوتن القديمة. كانت معادلة آينشتاين الجديدة صعبة ومعقَّدة إلى درجة أن آينشتاين نفسه لم يعتقد بأن أحداً سيستطيع حلها أو تطبيقها على شيء ما. ولكن بعد مدّة وجيزة استطاع عالِم الفيزياء آلكسندر فريدمان، تطبيق تلك المعادلة على الكون كله كجسم واحد.
افترض فريدمان أن الكون متناظر تماماً. والتناظر في الكون يعني توزُّع كل المجرات والبُنى الأضخم من المجرات بشكل متساوٍ ومتجانس في جميع الأرجاء. تماماً مثل توزيع الأشجار في غابة. فلو وقفت في منتصف غابة وبدأت في الدوران حول نفسك ستجد أن الأشجار موزعة بشكل متساوٍ تماماً من حولك. لهذا السبب من يضيع في وسط غابة أو وسط محيط يتوه تماماً ويجد صعوبة في الخروج.
افترض فريدمان أن توزيع المجرَّات في الكون متساوٍ تماماً كتوزيع الأشجار في الغابة. ثم استطاع أن يجد حلاً لمعادلة آينشتاين. لكن الحل كان صاعقاً! إذا كان هذا الحل صحيحاً فيجب أن يتمدَّد الكون في كل جهة بالتساوي وبسرعة كبيرة جداً، مثل بالونة عليها نقاط حبر يتم نفخها بقوة كبيرة، حيث النقاط تمثل المجرَّات في الكون ومطاط البالونة نفسه يمثل شيئاً حقيقياً أيضاً يسمَّى نسيج الزمان والمكان أو نسيج الزمكان. وعندما أرسل فريدمان هذا الحل لآينشتاين لم يصدقه، ولكن بعد مدّة وجيزة اكتشف العالِم الفلكي المعروف إدوين هابل تجريبياً أن المجرَّات تبتعد بعضها عن البعض بالفعل وأن سرعة تباعدها متوافقة مع حل فريدمان! مرَّة أخرى يجلس رجل مع ورقة وقلم فقط، ويستخدم فكرة التناظر ليكتشف ظاهرة خارقة مثل تمدُّد الكون. ألا يستحق هذا الأمر الإعجاب؟