تقول كاتيا الطويل إنه يجب أن تمتلك الرواية عدة مستويات من حيث المعاني والموضوعات المطروقة وأن الروائي البارع ينسج بحنكة جمالية موضوعاته من دون أن يصدم أو يواجه أو يتحدى باستفزاز
الروائية اللبنانية كاتيا الطويل تقول إنها لا تعلم ما سيكتبه جيلها وكيف سيكون شكل روايته لكنها مؤمنة بأنها ستكون أعمالا جميلة مميزة
تنتمي الروائية اللبنانية كاتيا الطويل (1990) إلى الجيل الجديد في الرواية اللبنانية المعاصرة، والتي أخذت على عاتقها تجديد موضوعاتها وأساليبها وطريقة تطويعها للواقع الذي تنتمي إليه.
وذلك من خلال النزوع صوب كتابة روائية تجريبية مربكة في تسلسل أحداثها وتخضع بالأساس إلى قالب تركيبي تتماهى فيه الأجناس الأدبية وتنتفي فيه الحواجز والسياجات، بين الذات الكاتبة وسائر الشخصيات الأخرى، التي تسرق الحكي من الكاتبة.
وبسبب ما راكمته الطويل في مسيرتها الصغيرة داخل الصحافة العربية من خلال مقالاتها الثقافية، فإن ذلك يبدو جليا في طريقة نسجها للنص الروائي، بحيث تتعمد في أحيان كثيرة توليف معرفتها النقدية لتصير نبراسا يضيء طريق السرد ولذة الحكي في أعمالها، وهي تفجر متاريس اللغة وتستكنه سراديب الجسد، عبر أسئلة أنطولوجية تتشابك مع عبثية الوجود وفوضى ذلك الكيان البشري.
هذا، وتجدر الإشارة، أنه إلى جانب التأليف الروائي، تكتب كاتيا المقالة الثقافية كما تعد أطروحة دكتوراه بجامعة السوربون الباريسية في موضوع النقد الأدبي.
بمناسبة صدور روايتها الجديدة "الجنة أجمل من بعيد" (دار نوفل، 2021)، كان للجزيرة نت هذه الوقفة معها:
سحر الأدب
- كاتيا الطويل، بداية، كيف اهتديت إلى كتابة روايتك الأولى "السماء تهرب كل يوم" (2015)؟
وضعت روايتي الأولى وأنا في الـ25 من عمري، كنت في السنة الثانية من الماجستير في اللغة العربية وآدابها وكنت قد بدأت أنشر مقالات على الصفحات الثقافية في جريدتي "النهار" اللبنانية و"الحياة". لم أبدأ بالكتابة مباشرة، تركت الشخصيات تتخمر في ذهني ومخيلتي وعندما شعرت أنني أمسكت بها تماما وبمصائرها شرعت بالكتابة.
أردت لروايتي أن تتركب كالأحجية الـ(puzzle) فقد كنت حينها متأثرة بتقنيات الكتابة الحديثة القائمة على تجميع المعلومات في الفصول لتشكيل ثوب الرواية، كما يفعل الكاتب الياباني موراكامي مثلا.
- ما السحر الذي مارسه عليك الأدب عموما وما قادك للاهتمام بجنس الرواية دون غيره من الأجناس الأدبية الأخرى؟
الرواية اليوم هي شعر الدنيا الجديدة كما توقع نجيب محفوظ، وجاء الناقد المصري جابر عصفور ليؤكد هذه المقولة ويضيف أننا بتنا في زمن الرواية وبالتالي كان لا بد من أن تكون الرواية خياري الأول.
الأدب والكتب كانا مهربي من الأمور كلها ومن الناس منذ صغري، أحببت عزلتي لأنها كانت زاخرة بالروايات والقصص وأخبار الشخصيات. الرواية برأيي أوسع من الشعر وقراءة الشعر تخيفني من صغري فأنا أخشى ألا أفقه المعاني بكاملها بينما الرواية تقدم نماذج أناس يعيشون أمورا بعيدة آلاف السنوات الضوئية عن حياتي.
عندما أحزن أقرأ، عندما أغضب أقرأ، عندما أشعر بالوحدة أو بعبثية الحياة أقرأ، اهتممت بالرواية منذ صغري فبدأت بقراءة روائع الأدب العالمي إلى جانب قراءاتي بالعربية ولم أفكر يوما أن أكتب بأي لغة سوى العربية. ضعفي الأول والأخير هو اللغة العربية وآدابها.
رواية "الجنة أجمل من بعيد" هي الثانية لكاتيا الطويل وصدرت حديثا عن دار دار هاشيت-أنطوان
من الرواية إلى المقالة
- إلى جانب الرواية، تكتبين المقالة الصحفية والثقافية داخل عدة منابر إعلامية عربية. وجدانيا كيف تستطيعين إيجاد هذا التعدد المعرفي في ذاتك، بين التخييل الروائي والمقالة الثقافية ذات الميسم التقريري؟
حالفني الحظ في حياتي أن وجدت عملا يناسب هوايتي الأولى والوحيدة. أنا شخص لا يحب المغامرة ولا التحديات، أنا كائن يعشق عزلته، فجاءت القراءة لتملأ عليّ حياتي. وقد وجدت في كتابة المقالات الثقافية مكانا أصب فيه شغفي بالروايات والسرد، وجدت فيها مكانا أحلل فيه وأقدم آراء أحاول أن أجعلها موضوعية علمية بقدر المستطاع.
إن كتابة الرواية وكتابة المقالة وتحضيري لأطروحة دكتوراه في النقد الأدبي أوجه متكاملة تجعل حياتي في توازن مثالي وتجعل كتابتي متماسكة أكثر، فأنا الكاتبة والناقدة والقارئة لنصوصي.
- كاتيا الطويل، باعتبارك روائية وكاتبة، ما الملامح الثقافية والسياسية، التي ترسمينها للجيل الجديد الذي تنتمين إليه أدبيا داخل العالم العربي؟
أخجل من أن أسمي نفسي كاتبة وروائية بعد. هذان لقبان يحملهما حنا مينة ونجيب محفوظ وجبور الدويهي، يحملهما مارون عبود ويوسف حبشي الأشقر وجبرا إبراهيم جبرا ولا يمكن أن أملأهما بعد، أنا مجرد شخص يحب الكتب ويتمنى أن يترك أثرا في المستقبل.
أما فيما يتعلق بالملامح الثقافية والسياسية للجيل الجديد فهي ملامح مشرقة من دون شك فنحن في عصر التكنولوجيا والعولمة والعلم.
أجد أن الإنسان الجديد واع ومتعلم وطموح ومدرك للأمور مهما كان نوع النصوص التي يقرؤها. قد يقع البعض فريسة العصبية الأيديولوجية لكن الوقت والأدب كفيلان بإرهاق أي نوع من التزمت والانغلاق.
الرواية الجديدة في لبنان
- ماذا عن لبنان، هل ثمة خصوصيات ثقافية تميز الوجوه الأدبية الجديدة على مستوى تشابكها مع الواقع؟
ما زال لبنان اليوم معقل حرية التعبير وحرية التفكير وحرية النشر برأيي. وعلى الرغم من دخول دول شمال أفريقيا ودول الخليج في لعبة الأدب وعلى الرغم مما يقدمه كُتاب هذه الدول من نصوص جميلة وأنيقة ومحكمة السبك، فأعتقد أن لبنان ما زال يحتل مكانة مميزة على صعيد الكتابة والنشر والقراءة.
الجيل الذي سبقنا كتب رواية الحرب، لا أعلم ما سيكتب جيلنا وكيف سيكون شكل روايته إنما أنا مؤمنة بأنها ستكون أعمالا جميلة مميزة. قد يكون هناك اتجاه واضح نحو الرواية الواقعية، إنما أجد أن هذا الأمر ينطبق على إنتاج الدول العربية كلها وليس لبنان وحده. وحده الوقت سيحدد ملامح هذا الجيل وخياراته الأدبية.
الجنة أجمل من بعيد
- صدرت لك قبل أشهر رواية جديدة بعنوان "الجنة أجمل من بعيد" (2021). ماذا تقولين للقارئ العربي عن حيثيات هذه الرواية؟
أنا شخص يعشق الميثولوجيا وأساطير الأقدمين والكتب السماوية الثلاثة التي أجد فيها منهلا ومصدرا لا ينضب للأفكار والإيحاءات والفضاءات السردية. في روايتي هذه وظفت سفر التكوين وطرد آدم من الجنة كما وظفت أسطورة بروميثيوس الذي منح الإنسان شعلة المعرفة ثم عوقب على ذلك.
طالما وقف الإنسان حائرا جاهلا أمام أسرار هذا الكون، أمام الموت والألم والزمن، فأردت أن أعكس عجز الإنسان وجهله في روايتي وجعلت علاقة الكاتب بشخصياته مرآة لعلاقة الخالق بالبشر.
- في أغلب أعمالك الروائية تركزين كثيرا على لعبة السرد وفتنة الحكي، وتعملين على قلب الأدوار بين الكائنات الحية والأخرى الجامدة (الكرسي في الرواية الأولى). ألا تعتقدين أن ما يعيشه العالم العربي سياسيا واجتماعيا أكبر من الاهتمام بأحوال السرد والبناء الدرامي للرواية، رغم الأهمية الفنية والجمالية؟
أنا أؤمن أن الأدب ينقذ. الفن والجمال بشكل عام إن شئنا، لكن الأدب على وجه الخصوص ينقذ. للأدب وظيفة تحريرية تراكمية فهو يغير رويدا رويدا. ولا يقوم الأدب بثورة أو بطفرة اجتماعية إنما يبني أجيالا واعية مثقفة متعاطفة. التعاطف أو الـ(sympathy) أمر بالغ الأهمية للإنسانية ومتى حلت اللامبالاة مكانه فقدنا كل شيء.
أنا أؤمن أن الأدب ينقذ. الفن والجمال بشكل عام إن شئنا، لكن الأدب على وجه الخصوص ينقذ. للأدب وظيفة تحريرية تراكمية فهو يغير رويدا رويدا. ولا يقوم الأدب بثورة أو بطفرة اجتماعية إنما يبني أجيالا واعية مثقفة متعاطفة. التعاطف أو الـ(sympathy) أمر بالغ الأهمية للإنسانية ومتى حلت اللامبالاة مكانه فقدنا كل شيء.
قال الناقد اللبناني لطيف زيتونة في إحدى مقابلاته إن الأدب يجب أن يحمل هَما إنسانيا ليكون جيدا، ومن قبله قال الفرنسي لوسيان غولدمان إن الأدب الجيد يحمل رؤية للعالم، وهي أمور تجعل الأدب والجمال في خدمة المجتمع والإنسان.
يجب أن تمتلك الرواية عدة مستويات من حيث المعاني والموضوعات المطروقة، إنما أجد أيضا أن الروائي البارع ينسج بحنكة جمالية موضوعاته من دون أن يصدم أو يواجه أو يتحدى باستفزاز. ليست الرواية سلاحا سريع المفعول، بل يمكن للرواية أن توجع وتحرك وتحرر وتنقذ من دون أن ترفع صوتها بحدة.
بعيدا عن مستنقعات الواقع
- تبدو رواياتك ذاتية أكثر منها "سياسية" أو "اجتماعية" تطرق موضوعات وقضايا تشغل العالم العربي اليوم. إلى أي حد يمكن الحديث داخل تجربتك الروائية وباقي الوجوه الجديدة عن نقطة تحول داخل الرواية العربية ومحاولة القطع مع نماذج الروايات الواقعية والتاريخية والاستقصائية، التي برزت داخل أفق سبعينيات القرن الماضي؟
تملك الرواية أنواعا كثيرة، فهناك الرواية الواقعية والرواية الرومانسية والرواية التاريخية وغير ذلك، وأنا اليوم أمعن في كتابة الرواية الرمزية وليس الرواية الذاتية، أنا أطرح أسئلة حول الوجود والإنسان والخلق وعبثية هذه الحياة بأسرها وعلاقة الإنسان بالله والموت والوجود.
مشكلتي اليوم هي الوجود والخلق وهذا الكون المحيط بنا والمدمر لنا. وعلى الرغم من ولعي بالروايات الواقعية فإنني لست جاهزة بعد روائيا لخوض غمار مستنقعات الواقع فأنا لم أجد سلامي مع الكون.
قال لي الروائي الرائع جبور الدويهي مرة: نكتب أفضل ما نكتب الأمور التي نعرفها. وأنا ما زلت لا أعرف الواقع تماما. صحيح أنني شخص فضولي يحب طرح الأسئلة ومراقبة الناس في عاداتهم وسبل تفكيرهم وطرق عيشهم، إنما لما يأت اليوم الذي أقرع فيه أبواب الرواية الواقعية.
- في الطرح نفسه، النماذج المذكورة، حققت نهضة أدبية قوية من خلال تأثيرها على الواقع العربي، ولا سيما تلك التي تناولت بعض القضايا الحساسة من مسار تطور الحداثة (سياسيا، اجتماعيا، ثقافيا) داخل الاجتماع العربي. هل ترين أن الروايات التي تصدر الآن بالعالم العربي، قادرة على خلق جدل فكري، كما هو الأمر لروايات عبد الرحمن منيف مثلا؟
يبني الأدب للتغيير، يحركه، يزيل الصدأ عن القلوب والعقول، لكن الأدب لا يعمل بمبدأ "كوني فكانت". النهضة هي أن يقرأ أفراد كثر كتبا كثيرة، وأن يغيروا أفكارهم التي ورثوها عمن سبقهم.
النهضة هي أن يجرؤ الكاتب على كتابة ما لا يجرؤ القارئ على التفكير فيه. نحن اليوم نبني لثورة الغد، المدارس تبني، المناهج تبني، الترجمة تبني، التأليف يبني، الحرية تبني. إنما يبقى السؤال الأبرز اليوم: هل نحن في زمن يجرؤ فيه الكاتب على تفضيل الحرية والحقيقة على لقمة العيش؟ لا أدري…