الزراعة الرقمية هي تلك الزراعة التي تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وبيانات الأنظمة البيئية لدعم تقديم المعلومات والخدمات للمزارعين في الوقت المناسب وتطويرها.
الزراعة الرقمية تبدو أمرًا لا مفرّ منه في المستقبل مع زيادة أعداد أحواض التخمير العملاقة التي تنتج الألبان والجرّارات الذكية التي تعرف مكان وجودها في الحقول (شترستوك)
طالما كان البشر تحت رحمة الطبيعة والتغيرات المناخية في الماضي إذ اعتمد الإنتاج الزراعي بوجه كامل على كميات الأمطار التي تهطل سنويًا، وتغيرات درجات الحرارة والرطوبة، وتحديدات الجغرافيا، فعلى سبيل المثال لم يكن بالإمكان زراعة النباتات التي تحتاج إلى درجات حرارة عالية في المناطق الباردة والعكس بالعكس.
وكانت الظروف المناخية المتغيرة تتحكم في طبيعة المنتج الغذائي، وكانت الفواكه والخضراوات موسمية، واللحم هو نفسه اللحم المعروف منذ آلاف السنين.
ولكن مع التطورات التقنية الهائلة ودخول عالم الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي أصبح من الممكن التحكم بذلك الآن، فالتكنولوجيا الزراعية في تطور مستمر، وتطالعنا الأخبار كل يوم بقصص عن لحوم مستنبتة، وروبوتات تقطف الفواكه بسرعة فائقة، وشركات عالمية تضخ ملايين الدولارات للاستثمار في ما أصبح يعرف على نطاق واسع بالزراعة الرقمية التي تعمل على توفير الأصناف الغذائية كافة في جميع أوقات السنة بغض النظر عن التغيرات المناخية، مع الحفاظ الكبير على البيئة بتقليل حجم الانبعاثات الملوثة للجو من الغازات السامة الناتجة عن العمليات الزراعية بالوسائل التقليدية التي كانت سائدة سابقا.
والزراعة الرقمية هي تلك الزراعة التي تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وبيانات الأنظمة البيئية لدعم تقديم المعلومات والخدمات للمزارعين في الوقت المناسب وتطويرها، لجعل الزراعة عملية مربحة ومستدامة اجتماعيًا واقتصاديًا وبيئيًا، وتقديم طعام آمن ومغذٍّ وبأسعار معقولة للجميع في الوقت ذاته.
وتبدو الزراعة الرقمية أمرًا لا مفرّ منه في المستقبل مع زيادة أعداد أحواض التخمير العملاقة التي تنتج الألبان، والجرّارات الذكية التي تعرف مكان وجودها في الحقول، وتقود نفسها في عمليات البذار والحصاد، واللحوم ذات القيمة الغذائية العالية المصنوعة من النباتات، وذلك مع تقليل كلفة الإنتاج باستخدام أجهزة الاستشعار وأنظمة الري الدقيقة الموفرة للمياه، فضلا عن توفير المعلومات الضرورية للمزارعين في الوقت المناسب باستخدام الحوسبة السحابية والتطبيقات الذكية، إذ يتلقى المزارعون توصيات سهلة الاتباع للري، واستخدام المبيدات والتسميد وغيرها من الممارسات الزراعية المستعملة لتحسين المحصول، وزيادة كميته مع توفير كبير في التكاليف المادية.
الجرّارات الذكية التي تعرف مكان وجودها في الحقول وتقود نفسها في عمليات البذار والحصاد من إنجازات الزراعة الرقمية (رويترز)
وتبدو الزراعة الرقمية أمرًا حتميًا أيضا مع ازدياد أعداد البشر، والحاجة المستمرة إلى مزيد من الطعام، والتمدد العمراني الذي قلل حجم ومساحة الأراضي الصالحة للزراعة في العالم.والوعود التي تقدمها الزراعة الرقمية ليس لها حدّ، فيرى كثير من المتحمسين لهذه الثورة أن استخدام التكنولوجيا في الزراعة سيسمح للبشرية بإنتاج مزيد من الغذاء على مساحة من الأراضي أقل بكثير من السابق، وسيسهم في تقليل النفايات والملوثات، وحماية التنوع البيولوجي، وتوفير مزيد من فرص العمل في أنحاء العالم.
استثمارات بالملايين
وكشفت دراسة أنجزتها حديثا شركة الاستشارات الإستراتيجية وأبحاث السوق (Blue weave consulting) عن أن قيمة السوق العالمية للزراعة الرقمية بلغت 4770.8 مليون دولار أميركي عام 2020، ومن المتوقع أن تبلغ 10702.3 مليون دولار أميركي بحلول عام 2027، بمعدل نمو سنوي قدره 12.7%، بسبب زيادة الطلب على الغذاء والاستعمال المتزايد للتكنولوجيا في الزراعة، فضلا عن التوفير الكبير في تكاليف الإنتاج بتطبيق التقنيات الزراعية الحديثة.
إنتاج أكثر وتكلفة أقل
الزراعة التقليدية مكلفة ماديًا، فمن تهيئة التربة واستقبال البذور إلى استخدام الأسمدة لتخصيب التربة، واستعمال المبيدات الحشرية لمكافحة الآفات والأمراض، وصولًا إلى مرحلة الحصاد، كلها عمليات تحتاج إلى كثير من المال، وتستهلك الأسمدة والمبيدات على سبيل المثال جزءا كبيرًا من الاستثمار الزراعي.
فقد ارتفع الإنفاق على الأسمدة في الولايات المتحدة من 8.6 مليارات دولار أميركي عام 1985 إلى 23.5 مليار دولار عام 2016.
وخلصت دراسة أعدّتها مؤسسة "خدمات البحوث الاقتصادية (Economic Research Services) (ERS) لمصلحة وزراة الزراعة الأميركية، إلى أن استخدام المزارعين التقنيات الرقمية مثل تقنية "خرائط المحصول" (yield mapping) -وهي عملية جمع بيانات عن إنتاجية المحصولات الزراعية في بيئات جغرافية مختلفة لتحديد أكثرها إنتاجًا لمنتج غذائي معين أو دمج هذه التقنية مع "تقنية معدل التغير" (variable-rate technology) (VRT)- مكنهم من توفير 25 دولارا للفدان الواحد.
وأوضحت الدراسة أن نسبة التوفير باستخدام التقنيات الرقمية في الزراعة تبلغ 4.5% من تكلفة الإنتاج بالطرائق التقليدية، وأن ذلك سيعود بالربح الوفير على المزارعين، وكذلك على المستهلكين إذ سيسهم في انخفاض أسعار المنتجات الغذائية في الأسواق.
نسبة التوفير باستخدام التقنيات الرقمية في الزراعة تبلغ 4.5% من تكلفة الإنتاج بالطرائق التقليدية (رويترز)
الزراعة الرقمية تحمي البيئة
وفضلا عن التوفير الكبير في الأموال وزيادة الإنتاج، فإن الزراعة الرقمية تسهم بوجه فعال في حماية البيئة، إذ تعدّ الزراعة التقليدية من أكبر مصادر التلوث، وخصوصا انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ساهم سلبا في تغير المناخ على مستوى العالم.وحسب دراسة أعدّتها المجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية الدولية (CGIAR)، يساهم نظام الغذاء العالمي، من تصنيع الأسمدة واستخدامها في تخصيب التربة وصولًا إلى تخزين المواد الغذائية المنتجة وتعبئتها، في أكثر من ثلث انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية (GHG).
في حين قدّر المنتدى الاقتصادي العالمي أنه إذا استخدمت 15-20% فقط من المزارع الموجودة في العالم تقنيات الزراعة الرقمية فإن نسبة إنتاج الغذاء في العالم ستزيد بنحو 10-15%، وستقلّ الانبعاثات الغازية الملوثة للبيئة بنسبة 10%، وسيتم توفير 20% من كمية المياه المستخدمة في العمليات الزراعية.
وتسهم هذه العوامل جميعها في الاستعمال المتزايد لتقنيات الزراعة الرقمية في شتى أرجاء العالم، وهذه التقنيات ستكون هي السائدة في القطاع الزراعي في المستقبل القريب.
الزراعة الدفيئة تستحوذ على حصة الأسد
واستحوذ قطاع الزراعة الدفيئة على أكبر حصة في سوق الزراعة الرقمية العالمية عام 2020، ويستخدم الناس الزراعة الدفيئة لزراعة جميع أنواع المحصولات النباتية.
ويعدّ مشروع إيدن (Eden project) أكبر مشروع للزراعة الدفيئة في العالم، ويضم أكثر من 100 ألف نبات من أكثر من 5 آلاف نوع مختلف، تُزرع باستخدام التقنيات الرقمية وآخر ما بلغته التكنولوجيا الزراعية في العالم.وأسهمت القدرة على الزراعة في البيوت المحمية وعلى زراعة محصولات متنوعة خارج بيئتها الطبيعية إلى حد كبير في تحقيق أكبر حصة سوقية للقطاع في سوق الزراعة الرقمية العالمية.
سوق الزراعة الرقمية العالمية
وتسيطر أوروبا على سوق الزراعة الرقمية في العالم الآن، تليها أميركا الشمالية، فضلا عن بدء انتشار أساليب الزراعة الرقمية في الشرق الأوسط وأفريقيا وبعض دول أميركا اللاتينية.
وتعدّ هولندا الدولة الرائدة في هذا المجال، فهي تمتلك أكبر مزارع العالم الرقمية، وتسيطر على أكثر من ثلث تجارة بذور الفواكه والخضراوات العالمية، وتعدّ أكبر مصدر في العالم للبطاطا والبصل.
وتعدّ "جامعة واجنجنينج" (Wageningen University & Research) (WUR) الجامعة الرائدة في العالم في مجال البحوث الزراعية، وهي القوة الدافعة وراء تصدّر هولندا الزراعة الرقمية في العالم.
كما تدعم المفوضية الأوروبية تبنّي أساليب الزراعة الرقمية في دول الاتحاد الأوروبي من خلال برنامج "هورايزون" (Horizon) الذي تبلغ تكلفته 90 مليار دولار أميركي.
وإذا أضفنا إلى هذه العوامل توفر أحدث التقنيات، والبنية التحتية االقوية، وسلسلة التوريد المتطورة، وتوفر الأموال المخصصة للبحث والاستثمار في هذا الميدان فإننا سنفهم سبب تسيّد أوروبا وحصولها على حصة الأسد في سوق الزراعة الرقمية العالمية في العام الماضي 2020.