لأول مرة.. الكشف عن التلألؤ البيولوجي للبحار الحليبية بالأقمار الاصطناعية
ترى ظاهرة البحر الحليبي قبالة ساحل القرن الأفريقي وحول إندونيسيا (مواقع التواصل)
لأكثر من قرن من الزمان، أبلغ البحارة عن ظاهرة جميلة مخيفة أطلقوا عليها اسم "البحر الحليبي "Milky Sea"، وهي بقع هائلة من المياه المتوهجة التي تستمر أحيانا لعدة ليال متتالية، ويتعرض البحارة لهذه الظروف الاستثنائية في مناطق نائية معينة من العالم.
يحدث التوهج الغريب للبحار الحليبية على نطاق واسع وثابت، خاصة شمال غرب المحيط الهندي قبالة سواحل القرن الأفريقي، وفي المياه المحيطة بإندونيسيا، ولكن توقع متى وأين ولماذا تتشكل هذه البحار، أو كيف يتكون التوهج؟ لا يزال لغزا علميا في العصر الحديث.
شريط النهار/الليل
مؤخرا، استخدم فريق من العلماء بقيادة عالم الأحياء البحرية ستيفن ميلر، في المعهد التعاوني للبحوث بالغلاف الجوي (CIRA) التابع لجامعة ولاية كولورادو (Colorado State University) بيانات الأقمار الاصطناعية على مدى ما يقرب من عقد كامل للكشف عن هذه الظاهرة بالتفصيل.
ونشرت الدراسة ونتائجها المفصلة في دورية "ساينتفك ريبورتس" (Scientific Reports) في 29 يوليو/تموز الماضي.
قام الباحثون بتحليل بيانات الأقمار الاصطناعية المزودة بمجموعة متطورة من المستشعرات مثل أداة "شريط النهار/الليل" وهي مجموعة مقياس الإشعاع المرئي للتصوير بالأشعة تحت الحمراء، والتي تكتشف كميات خافتة جدا من الضوء المرئي بالليل، مثل وهج أضواء المدينة، ولهب حرائق الغابات، لرؤية البحار الحليبية.
واستهدفت أبحاثهم في البداية دراسة تغيير أضواء المدينة لتوضيح تأثير جائحة "كوفيد-19" على النشاط البشري، وامتدت تطبيقات هذه التقنية لاكتشاف ظاهرة التوهج الليلي في الغلاف الجوي للأرض.ومن خلال التحليل الدقيق لبيانات 3 مواقع يتم الإبلاغ فيها عن البحار الحليبية في كثير من الأحيان، حدد ميلر وفريقه 12 تكرارا لهذه الظاهرة المراوغة بين عامي 2012 و2021.
صور الأقمار الاصطناعية القديمة (يسار) وأداة "شريط النهار/الليل" (المعهد التعاوني لبحوث الغلاف الجوي)
اصطياد الضوء
البحار الحليبية هي أكبر شكل معروف للتلألؤ البيولوجي في محيط كوكب الأرض. وتتميز بتوهج طويل الأمد وواسع الانتشار وموحد على سطح المحيط، ويمتد على أكثر من 100 ألف كيلومتر مربع (حوالي حجم ولاية كنتاكي) ويمكن أن يستمر لعدة ليال.
ويتطلب التقاط الضوء الناتج عن البحار الحليبية الصبر والظروف المناسبة، حتى ضوء القمر الخافت المنعكس عن سطح المحيط يمكن أن يخفي الإشارة.
ولهذا قام الباحثون بتحليل الإشارات في بيانات الأقمار الاصطناعية بعناية لاستبعاد المصادر الأخرى لانبعاث الضوء، واستخدموا تقنيات متطورة للعثور على الهياكل الحيوية المستمرة التي ينبعث منها الضوء خارج ضوضاء الخلفيات.
وأدى اقتران ملاحظات الأقمار الاصطناعية بقياسات درجة حرارة سطح البحر، والكتلة الحيوية البحرية، وتيارات سطح البحر التي تم تحليلها، إلى قيام العلماء بتحديد فرضيات جديدة للظروف الفريدة المحيطة بتكوين البحر الحليبي.
قال ميلر في بيان صحفي للجامعة "البحار الحليبية ببساطة تعبيرات رائعة عن محيطنا الحيوي الذي لم نفهم بعد أهميته في الطبيعة".
تقارير السفن التاريخية (1796-2010) بالأزرق واكتشافات الأقمار الاصطناعية بالبرتقالي والأسود (ساينتفك ريبورتس)
تاريخ غامض
في روايته "20 ألف فرسخ تحت البحار" عام 1872، كتب جول فيرن "يطلق عليه بحر الحليب.. نسبة كبيرة من الموجات البيضاء غالبا ما تُرى على سواحل أمبوينا (جزيرة صغيرة شرق إندونيسيا)".وقد تم الإبلاغ عن ظاهرة البحار الحليبية كثيرا في أكثر من 200 مشاهدة مسجلة تعود إلى القرن 19، وقامت سفينة أبحاث مرة واحدة فقط، عام 1985، بالإبحار في بحر العرب عبر بحر حليبي.
اقترحت عينة الماء التي تم جمعها في ذلك الوقت وجود سلالة من بكتيريا بحرية ضيائية حيوية تسمى بكتيريا الضمة أو "فيبريو هارفي" (Vibrio harveyi)، وهي مسببة للأمراض في العديد من الكائنات البحرية، وتسبب ذبذبات مضيئة في الجمبري.
وخلص الباحثون على متن السفينة إلى أنه من المحتمل أن يكون مصدر التوهج هو هذه البكتريا، لكن استنتاجاتهم لم يتم التحقق منها بعد نظرا لصعوبة الحصول على عينات من البحار الحليبية لأنها تحدث في أماكن نائية، وهي غير متوقعة، مما يعني أن الحصول على سفينة بحث في موضعها قبل ظهور إحداها أمر شبه مستحيل.
وبالطبع، فإن أخذ عينات من البحار الحليبية سيساعد على حل اللغز مرة واحدة وإلى الأبد. ويأمل الفريق أن توضح لنا بيانات الأقمار الاصطناعية الخاصة بهم طريقة العثور عليها بسهولة أكبر في المستقبل القريب.