نقش على الحجر
بواسطة : السيد فاضل آل درويش -
2 أغسطس، 2021
يبدو أن ساحة الحوار المتسعة لتباين الآراء وتنوعها على الساحة الثقافية والاجتماعية قد ضاقت في أعين البعض، فلم تعد تحتمل التعددية واتجهت نحو حسم الأمور من بواكيرها نحو الأوحدية التي لا تحتمل المخالفة فضلاً عن النقد والنقاش حولها، مما ألجأ البعض إلى الانكفاء إلى الوحدة الفكرية وتجنب إبداء آرائه وتصوراته التي تخالف ما هو مطروح؛ خوفاً من الوقوع في حالة الصدام مع من يحبهم ويعزهم فيفقد أخوتهم لمجرد الاختلاف في الآراء!!
وهذه الحالة غير صحية مطلقاً وتعبر عن وضع متأزم يكشف عن عقليات متحجرة لا تتقبل الحالة التعددية والمناخات المتباينة في التصورات والأفكار، ومجرد إبداء تصور مخالف لما عليه الأكثرية فإن القرار المتخذ بحقه هو الإقصاء والتجاهل، بل وتعلو بعد ذلك حالة النبذ والإبعاد لمجرد طرح التساؤل حول فكرة معينة وطلب النقاش حولها وإن لم يصل لدرجة رفضها وعدم القبول بها.
وبالتأكيد فإن هذه المناخات لا تخلق حالة من التوافقات والإجماعات الفكرية على الآراء المطروحة كما يتصور أهل التزمت والانغلاق، بل يقود الجميع نحو هاوية الضعف والترهل ويسود المجتمع في النهاية مجموعة من الأفكار المخدوشة، والتي يتجه بعدها الآخرون – ما إن يبصروا بصيص حوار هادف هادئ – نحو نكران ورفض كل شيء حتى ما يقع في دائرة الصوابية والمنطقية كردة فعل عنيفة.
هذا ما وقع في المجتمعات الظلامية التي سادها القمع الفكري وعدم قبول الحالة الصحية من التعدد والدخول في نقاشات وردود تلتزم سكة المنطقية والأسس الفكرية، بعيداً عن أي تشنجات وتوترات ناتجة عن مجرد تناول فكرة بالبحث والتحليل والاستنتاج المخالف لتصوره.
لا نختلف حول وجود حالة من الاستقطابات والتموضعات الفكرية والثقافية تمنع الحوار وتعتبره خطيئة تستحق العقاب، وما هو مطلوب من سائر الناس تقبل المطروح والتسليم به، ومن يتجرأ على المناقشة والرد فإنه ينبذ ويصبح طيراً يغرد خارج السرب ومصيره المواجهة والمحاربة، وبالطبع هنا لا نتحدث بصورة ضبابية لتشمل الترهات والتخبطات الفكرية غير المتقومة على أسس عقلية تدعمها، بل كلامنا عن حالة محددة وهي قمع التعددية الآرائية والتي يسوق فيها كل طرف وجهة نظره محفوفة بأريج التساؤلات والأدلة الرزينة.
الحوار أكسجين الأفكار ومن رحمه تتولد وتتصلب قاعدة الآراء في الأبعاد الثقافية والاجتماعية، وهذا ديدن ومسار العلماء في جميع الفروع العلمية والمعرفية، بل الفكرة الواحدة تولد ضعيفة تتناوشها الردود من كل جهة حتى تتبلور ويتقن تقديمها خالية من أكثر الانتقادات لها، ولكننا – وللأسف – حولنا الاختلاف في الآراء إلى حلبة مصارعة يتبادل فيها الأطراف اللكمات الكلامية والضربات تحت الحزام والعمل الحثيث على إسقاط الخصم أرضاً، والتصفيق الحار من الجمهور المتطنش والهاوي للأجواء الصاخبة للهوشات فيشعل تلك المطارحات ويغذيها بانفعالاته الشديدة وليس بطرح التساؤلات والنقاشات.
وهذا ما حول مشهد النقاشات إلى ترك الآراء والتصورات وتناولها بالبحث إلى تصويب الحراب نحو شخصية القائل والمناقش، فسادت لغة التقاذف والتراشق اللاذع والتهجمات المشخصنة والتصيد في الماء العكر، ويكال للمتحدث كل ألوان التسفيه لقوله والتعدي على شخصيته والخدش فيها لمجرد إبداء رأي لا يتوافق مع الآخرين، فما دامت هناك نفوس تعتقد بالرأي الأوحد في كل المجالات والأنشطة ويعمل على وأد وسحق كل رأي مخالف.
ومن يؤمن بفكرة الانتصار والتغلب على الخصوم في الحوارات، فإنه ستسود حالة من الظلامية والتخلف والتراجع في جميع المستويات والمجالات المعرفية، إذ التقدم والنهوض والتنمية ترتكز على العقل الجمعي وإبداء الآراء حتى يمكن بلورة وإنضاج أي فكرة أو مشروع.
الاجتماع على رأي واحد في كثير من القضايا الثقافية والاجتماعية والتوافق على وجهة نظر واحدة فيها غير متحصل، وعلينا احترام آراء الآخرين المنطقية والقائمة على أساس البحث والتعمق ومن ثم رد ما لا نتقبله منها وتناوله بالنقد الإيجابي، ففي نهاية الأمر كل فرد له قناعاته وهو مسؤول عن أفكاره، وعلى الجميع تجنب حالات التأزيم والتقزيم لمجرد الاختلاف حول فكرة، وعلينا صب جهودنا الحثيثة على نقاش الأفكار لا تجريح أصحابها.