انتصار چربة: (1560م)
بعد انفصال النمسا عن إسبانيا هدأت الجبهة النمساوية بشكلٍ كبير، على عكس الإسبان الذين كانوا يتربَّصون بالعثمانيين بشكلٍ واضح؛ والسبب في هذا التباين هو استقرار الحدود في وسط أوروبا على الشكل المتَّفق عليه في هدنة 1547م، والتي جُدِّدت في 1555م على الوضع نفسه؛ بينما لم تستقر الحدود في الشمال الإفريقي بين الدولة العثمانية وإسبانيا.
إن إسبانيا ما زالت تتواجد في بعض الموانئ الجزائرية، وأهمها وهران، كما إنها تسيطر -من خلال تابعها الحفصي- على مدينة تونس الاستراتيجية، وكانت إسبانيا تنظر إلى مستعمراتها في شمال إفريقيا على أنها الحامي الرئيس لها من البحرية العثمانية المتفوقة في هذه الفترة، والتي اعتادت أن تقصف الموانئ الإسبانية والإيطالية (التابعة لإسبانيا) في هذه الفترة الأخيرة.
تعرَّضت إسبانيا لعدَّة خسائر من الدولة العثمانية في السنوات العشر الماضية أدَّت إلى تقلُّص مستعمراتها في شمال إفريقيا بشكل لافت. خسرت إسبانيا في عام 1551م موقعًا مهمًّا في طرابلس، وكانت تحت احتلال فرسان القديس يوحنا الموالين لهم، وخسرت ميناء المهدية في تونس عام 1554م، وخسرت ميناء بجاية في الجزائر عام 1555م، وعانت في عام 1556م من حصار عثماني لمدينة وهران المهمة لم يُسْفِر عن نتيجة؛ لكنها تعرَّضت في عام 1558م إلى مشكلتين كبيرتين؛ الأولى هي ضمُّ العثمانيين لمدينة القيروان المهمة في تونس[1]، وبذلك صارت معظم دولة تونس مع العثمانيين باستثناء مدينة تونس العاصمة، وهي وإن كانت موالية للإسبان، إلا إن سقوطها في يد العثمانيين صار متوقَّعًا بعد النجاحات العثمانية الأخيرة حولها.
والمشكلة الثانية كانت تعرُّض الإسبان لخسارة فادحة من الدولة العثمانية، صُنِّفَت عسكريًّا ككارثة؛ وذلك حين حاول أسطول إسباني غزو مدينة مُستغانم Mostaganem الجزائرية، وهي على بعد سبعين كيلو مترًا شرق قاعدتهم العسكرية القوية في وهران؛ ومع ذلك؛ ومع صغر حجم الحامية العثمانية في المدينة بالمقارنة بالجيش الإسباني، هُزِمَ الإسبان هزيمة ساحقة، وقُتِلَ منهم ستة آلاف جندي، وأسر مثلهم في رواية[2]؛ بينما ورد في رواية أخرى أن الأسرى كانوا اثني عشر ألف جندي[3]، وبالإضافة إلى ذلك قُتِلَ في الحملة حاكم وهران العسكري الكونت ألكوديت Count Alcaudete[4]. هذا الوضع الخطر للإمبراطورية الإسبانية في الشمال الإفريقي دعاها إلى التخطيط لحملة صليبية كبرى تحقق فيها نجاحًا يمكن أن يُغيِّر موازين القوى لصالحها.
كانت الوجهة الرئيسة للحملة، كما خطَّط الملك الإسباني فيليب الثاني، هي مدينة طرابلس الليبية. كان من الواضح أنها أكبر الخسائر النصرانية في هذه المرحلة؛ ولذلك كان العمل على استردادها أحد الأهداف الكبرى للنصارى في أوروبا. لذلك كان فيليب الثاني يضمن قبول نصارى أوروبا للتعاون معه في هذه الحرب، وخاصَّةً فرسان القديس يوحنا الذين طُرِدوا من المدينة عام 1551م. تَكَوَّن تحالف نصراني كبير في أوائل عام 1560م شمل إسبانيا، والدولة البابوية، وفرسان القديس يوحنا، وچنوة، ومملكة نابولي، وصقلية، وفلورنسا، وموناكو، ودوقية ساڤوي[5].
كان أسطول التحالف الصليبي كبيرًا؛ حيث وصلت سفنه إلى مائتي سفينة[6]، تحمل ثلاثين ألف جندي[7]، وكانت تحت قيادة القائد الچنوي چيوڤاني دوريا Giovanni Doria، وكان في العشرين من عمره[8]، وهو ابن أخي القائد الچنوي الشهير أندريا دوريا الذي هُزِمَ قبل ذلك من العثمانيين في موقعة بريڤيزا المهمَّة عام 1538م؛ أي منذ اثنين وعشرين عامًا. بدا الأمر كأنه قد جاء للانتقام لعمِّه بعد هذه السنوات!
تحرَّك الأسطول الصليبي من صقلية في فبراير 1560م صوب طرابلس؛ ومع ذلك، وبسبب سوء الأحوال الجوية، لم يستطع الأسطول دخول المياه الإقليمية لطرابلس، فاضطر إلى العودة غربًا في اتجاه جزيرة چربة التونسية، والتابعة للدولة العثمانية. وصل الأسطول الإسباني إلى جزيرة چربة في 7 مارس[9]، وكان بها حامية عثمانية صغيرة من ألف جندي. بعد تقييم سريع للموقف انسحبت الحامية العثمانية إلى طرابلس، واحتل الصليبيون الجزيرة، وبنوا قلعةً حصينةً ما زالت موجودة إلى الآن، واستعدوا لحملة قريبة على طرابلس عندما تتحسن الأحوال الجوية[10].
وصلت الأخبار بسرعة إلى إسطنبول. أمر السلطان القانوني بخروج الأسطول الرئيس للدولة العثمانية بقيادة القائد العام للبحرية العثمانية في ذلك الوقت بيالي باشا، وفي الوقت نفسه أرسلت رسائل إلى والي ليبيا، وهو طرغد باشا في هذه الفترة، ووالي الجزائر حسن باشا (ابن خير الدين بربروسا)، للمساعدة في العملية العسكرية. كان الأسطول العثماني يترواح بين ستٍّ وثمانين[11]، ومائة وعشرين سفينة[12] حسب الروايات المختلفة. وصل العثمانيون إلى مياه چربة في 11 مايو، وكان وصولهم مفاجئًا للصليبيين[13]؛ حيث لم يتوقعوا هذا القدوم السريع من إسطنبول، وكان الصليبيون يُعِدُّون أنفسهم لقتال الأسطول العثماني المحلي لطرابلس، وليس لحربٍ مع الأسطول العثماني الرئيس.
في 14 مايو 1560م[14] دارت موقعةٌ من أهمِّ المواقع البحرية في تاريخ البحر المتوسط. استطاع المسلمون أن يُحقِّقوا نصرًا مجيدًا في خلال ساعاتٍ معدودة. لم يتخيَّل الصليبيون أن يصير الأمر إلى هذه الصورة. قُتِل من الصليبيين ثمانية عشر ألفًا، وهرب الباقون إلى القلعة في جزيرة چربة. غَرِقَ للصليبيين ستون أو سبعون سفينة في المعركة، وهرب قائدهم چيوڤاني دوريا على متن سفينةٍ صغيرة[15]. حاصر الجيش العثماني قلعة جزيرة چربة لأكثر من شهرين. في 30 يوليو سقطت القلعة، وأُسِر خمسة آلاف جندي صليبي[16]. كان النصر حاسمًا وتاريخيًّا. كان شهداء المسلمين في المعركة ألف جندي[17]. احتفل العثمانيون بالنصر ثلاث سنوات متتالية بمهرجانات بحرية في إسطنبول في ذكرى هذا النصر المجيد[18]. أعطى هذا النصر السيادة للأسطول العثماني على البحر المتوسط لعشر سنوات تالية.
يعلق المؤرخ الكندي ألان چاميسون Alan Jamieson على معركة چربة بقوله: «كانت كارثة چربة عام 1560م، والتي أتت بسرعةٍ جدًّا بعد هزيمة مُستغانم عام 1558م، إيذانًا بتناقص الحظوظ الإسبانية في حروب البحر الأبيض المتوسط بين النصارى والمسلمين. ظهر الآن أن العثمانيين صاروا سادةً للبحر الأبيض المتوسط من أوله إلى آخره، وأي محاولاتٍ نصرانيَّةٍ لمواجهة الأسطول العثماني ستبوء بالفشل. ستأتي ضرباتٌ أخرى؛ ولكن في الواقع كانت هذه هي أسود ساعة! لقد كانت نقطة تحوُّلٍ للإسبان والنصارى»[19]! ويقول المؤرخ الإنجليزي، المتخصص في التاريخ البحري، روچر أندرسون Roger Anderson: «يمكن القول: إن هذا الانتصار مَثَّل قمَّة السيادة العثمانية على البحر الأبيض المتوسط»[20]![21].
[1] Laroui, Abdallah: The History of the Maghrib: An Interpretive Essay, Translated from the French: Ralph Manheim, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, USA, 1977., p. 251.
[2] Clodfelter, Micheal: Warfare and Armed Conflicts: A Statistical Encyclopedia of Casualty and Other Figures, 1492-2015, McFarland & Company, Inc., Publishers, Jefferson, North Carolina, USA, Fourth Edition, 2017., p. 25.
[3] Goodman, David C.: Power and Penury: Government, Technology and Science in Philip II's Spain, Cambridge University Press, New York, USA, 2002. , p. 247.
[4] Garcés, María Antonia: Cervantes in Algiers: A captive's Tale, Vanderbilt University Press, Nashville, Tennessee, USA, 2005., p. 25.
[5] Anderson, R. C.: Naval Wars in the Levant 1559–1853, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, USA, 1952., pp. 8-9.
[6] Carr, Matthew: Blood and Faith: The Purging of Muslim Spain, C. Hurst & Co., London, UK, 2009., p. 121.
[7] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/315.
[8] Anderson, 1952, p. 9.
[9] Jaques, Tony: Dictionary of Battles and Sieges, Greenwood Press, Westport, CT, USA, 2007., p. 304.
[10] أوزتونا، 1988 صفحة 1/315.
[11] Jamieson, Alan G.: Lords of the Sea: A History of the Barbary Corsairs, Reaktion Books, London, UK, 2012., p. 53.
[12] أوزتونا، 1988 صفحة 1/315.
[13] Anderson, 1952, p. 11.
[14] أوزتونا، 1988 صفحة 1/316.
[15] Anderson, 1952, p. 12.
[16] Jamieson, 2012, p. 54.
[17] أوزتونا، 1988 صفحة 1/317.
[18] أوزتونا، 1988 صفحة 1/318.
[19] Jamieson, 2012, p. 54.
[20] Anderson, 1952, p. 13.
[21] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 502- 505.