استقرّ الجواري في براغ طوال 30 عاما؛ 7 منها متواصلة، وكان سعيدا بتلك المصادفة التي أجبرته على التوجه إليها، وسكن في شقة متواضعة واصفا تلك الرحلة من عمره بالعز والدلال.
الجواهري عاش حياته التي قاربت 100 عام بين النجف وبغداد ودمشق مرورا بلبنان والمغرب العربي إلى براغ التي عاش بها 3 عقود
أحيا مركز الجواهري الذكرى الـ24 لرحيل الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري، مذكرا بمراحل مثيرة من حياته في العاصمة التشيكية براغ التي حوّرت بأناقتها وبهجتها في بلاغته التي ارتبطت بالأدب العربي القديم ليكتب الشعر الكلاسيكي المفعم بالحياة، وحوّلته من ناشط متمرس بالسياسة التي وظف لها الإعلام والأدب العربي بجماله وروعته إلى الانقضاض على خصومه، منتهيا به المطاف في المدينة الذهبية ذات الـ100 برج التي عشق فيها السكينة والهدوء لينهل ويستلهم من جمالها ويخلدها شعرا، لا يعلم عنه سوى قلة من أبناء الشعب التشيكي.
وعن تلك المواقف تحدث رواء الجصاني رئيس مركز الجواهري في براغ -وهو ابن شقيقة الشاعر- فقال إنها كانت ممتلئة بالمفارقات، وقدم للجزيرة نت وثيقة نادرة عثر عليها في أرشيف وزارة الخارجية التشيكية، تبيّن طلب الجواهري اللجوء السياسي إلى دولة تشيكوسلوفاكيا عام 1961، جاء فيها من ضمن الأسباب أن حياته وبعض أفراد أسرته عرضة للخطر، بسبب مواقفه السياسية التي لم ترض الرئيس العراقي آنذاك عبد الكريم قاسم.
مصادفة براغ
وكانت وجهة الجواهري إلى ألمانيا الشرقية التي نصحته عبر سفارتها ببغداد بالسفر إلى برلين والاستقرار هناك، وتم ترتيب الأمر بسفره إلى بيروت لحضور مناسبة تكريم الشاعر الأخطل الصغير، حيث وجد الفرصة المناسبة لإلقاء قصيدة، هاجم فيها سياسة نظام الحكم وشرح أسباب عدم رضاه عن الأوضاع في بلاده.
ويضيف الجصاني -للجزيرة نت- أن الجواهري الذي عاش 100 عام اضطر إلى السفر في رحلة بيروت-براغ، ذلك لأنه لا يوجد خط مباشر إلى برلين، وتبيّن لاحقا أن اتحاد الأدباء في ألمانيا الشرقية قام بالتنسيق مع اتحاد أدباء التشيك لاستضافته في براغ لتجنب إثارة أي مشاكل بين برلين وبغداد، إذ كانت الحكومة الألمانية الشرقية أول من اعترف بالرئيس عبد الكريم قاسم.
وعن حياة الجواهري في براغ، قال الجصاني إنه استقر بها طوال 30 عاما؛ 7 منها متواصلة، ناقلا عن الجواهري أنه كان سعيدا بتلك المصادفة التي أجبرته على التوجه إليها، وقد سكن في شقة متواضعة واصفا تلك الرحلة من عمره بالعز والدلال.
وفي ما يخص مركز الجواهري للثقافة والتوثيق الذي أسسه عام 2002، قال الجصاني إن المركز من أهدافه تبادل الثقافات عبر منظمة مدنية شاركه التأسيس فيها شخصيات معروفة، مثل ياروميوهيسكي الأديب والمستعرب التشيكي المرموق، ثم أضيفت نشاطات أخرى إلى المركز، مثل الأرشفة والترجمة إلى اللغة التشيكية وإصدار المطبوعات والكتب والمقالات التي أسهمت في تعريف المثقفين التشيكيين بالشاعر العربي الكبير.لكن من أسباب عدم وصول ما خلّده الشاعر عن براغ إلى عموم المجتمع التشيكي، حسب الجصاني، هو أنه كان يكتب باللغة العربية العريقة، في حين كان عدد قليل من المثقفين التشيكيين ملمّين بالشعر العربي الكلاسيكي، ومن ثم لم يلق الشهرة الواسعة لأن عموم الشعب التشيكي ليس مولعا بالشعر بالأساس، بل يفضلون قراءة الكتب النثرية.
المستعرب التشيكي الكبير ليبوش كروباتشيك الذي كان صديقا للجواهري قال -في حديث للجزيرة نت- إن الشاعر الكبير غيّرته الحياة في براغ نحو البلاغة المميزة، بعد أن ارتاح فيها نفسيا وأبدع أدبيا، واصفا ما رآه بكونه لوحات متعددة رسمت بغاية الدقة والإبداع، عبر قصائد عديدة منها: بائعة السمك، ويا غادة الجيك، و"براها"، أي براغ التي قال فيها:
براها سلامٌ كلما خفق
الصباح على الهضابِ
ما نفضتْ ريحُ الصبا
قارورة العطرِ المذابِ
ما طارحته حمامة بهديلها
شجو التصابي
براها سلامٌ ما اكتسى
ألقُ السنا مزقَ الضبابِ
ويضيف كروباتشيك أنه في جلسات الجواهري متنقلا في مقاهي العاصمة وسط المدينة، كان يختار منها مقهى سلافيا الأحبّ إلى قلبه، مفضلا تلك الطاولة المطلّة على نهر الفلتافا وقلعة براغ الأثرية، وكان يصف تلك اللحظات بعشقه وراحته النفسية الأبدية، في حين كان يميز المقهى ويلفت انتباه الزوار قبعته الفريدة، ليكتب هناك أفكارا قد جمعها، تخرج أبياتا من الشعر تعكس مزاجه، فضلا عن تغير في البلاغة القديمة التي كان قد ورثها بعيدا أيضا عن السياسة ومشاكلها.
القصائد التشيكية
وينوّه كروباتشيك بأن بعض أساتذة الأدب العربي في جامعة كارل الشهيرة ببراغ، ومنهم ياروسلاف أولفيريوس مترجم كتاب كليلة ودمنة، كان يعطي طلابه أمثلة من شعر الجواهري لحفظها وإعرابها، وكان أغلب الطلاب يصعب عليهم فهم تلك الأشعار ومعانيها، رغم تبسيط أولفيريوس لها.وبخصوص ما أشيع عن أن الجواهري كان يسكن في "جيب النظام الشيوعي"، يقول كروباتشيك إن الشاعر العراقي كان في بعض الأحيان ينتقد بعض التصرفات، ويمتدح أخرى دون أن يخوض في دهاليز السياسة، مفضلا عدم إثارة المشاكل التي كان يخشى أن تعيده الى دوامة الصراعات بمتاعب لا نهاية لها.
أما عن قصيدة تخليد الجواهري عشقه لبراغ فيقول كروباتشيك إن الفضل كان لها في جذب الملايين من العرب، خاصة المثقفين لزيارة هذه العاصمة الجميلة التي قال عنها:
أعَلى الحسن ازدهاء وقعت؟
أم عليها الحسن زهوا وقعا؟
وسل الجمال هل في وسعه
فوق ما أبدعه أن يبــــدعا
الأعمال الكاملة للجواهري
وكان محمد مهدي الجواهري -الذي لقّب أيضا بالنهر (العراقي) الثالث بعد نهري دجلة والفرات- يعرف بارتجاله للشعر العمودي ارتجالا في لحظة إلقاء، وأنه كان يحفظ شعره عن ظهر قلب كما يقال.
ديوان الشاعر الجواهري صدر حديثا عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد ليضمّ كل قصائده في طبعة شاملة
وصدر حديثا عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد طبعة شاملة من الديوان الكبير لشاعر العراق محمد مهدي الجواهري، احتوت أجزاؤها الستة على كل شعر الشاعر الراحل خلال ما يربو على قرن من الزمان، وبينها قصائد جديدة لم تنشر من قبل.
وكان آخر إصدار لديوان الجواهري في العراق منتصف عام 1973 حين أصدرت وزارة الإعلام العراقية السابقة ديوان الشاعر الذي غادر بلاده معارضا ليجول في بقاع الأرض ويكتب الشعر.
وهذا الإصدار جاء بعد أن شكّل وزير الثقافة العراقي الحالي الدكتور حسن ناظم لجنة في دار الشؤون الثقافية طالبها بأن تتقصّى كل ما له علاقة بالجواهري من قصائد شعرية، وهو ما حدا باللجنة أن تعمل طوال أشهر، وتمكنت من جمع ما يمكن أن يوصف بأنه "كل شعر الجواهري" بما في ذلك تلك القصائد التي كان لا يفضّل نشرها في أي ديوان لأسباب عدة.
وأصدر الجواهري العديد من الدواوين والكتب خلال مسيرته التي امتدّت إلى ما يربو على 70 عاما؛ منها (حلبة الأدب)، و(جناية الروس والإنجليز في إيران)، و(بين العاطفة والشعور)، و(ديوان الجواهري) في مجلدين، وأيضا (بريد الغربة)، و(بريد العودة) و(أيها الأرق)، و(خلجات)، وكذلك (ذكرياتي) في 3 أجزاء، و(الجمهرة)، و(مختارات من الشعر العربي)، وغيرها، وهذا الإرث لم يكن كافيا للجنة لأنها ظلت تبحث عما هو غير منشور ليضاف إلى الطبعة الجديدة.
ويقول الدكتور سعيد عدنان -أحد أعضاء لجنة إصدار الطبعة الجديدة- في تقرير سابق للجزيرة نت إن "اللجنة المشرفة حرصت أن تستوعب كل شعره، وأن تضم تلك القصائد التي لم تنشر في ديوان من قبل"، ويوضح أنه "تم الاتصال بأسرة الشاعر، بولده الدكتور كفاح الجواهري وابن أخته رواء الجصاني وكانت استجابتهما كريمة يشكران عليها".