الطريقة القادرية البودشيشية سر شهرة قرية مداغ
لم يكن المكان يتجاوز بضع بنايات قبل عشرات السنين، فهُناك، خلف البنايات حيث المسجد، كُنا نجتمع، كانت الساحة الصغيرة تضم الجميع.
نمضي للناحية الأخرى، حيث أعمال البناء جارية على قدم وساق، إنها بنايات من ثلاث طوابق ومساحة من مئات الأمتار المربعة، هو مكان مُخصص للزوار والقادمين من شتى أنحاء المغرب، وأيضاً دول العالم، يُخبرنا مُرافقنا.
غير بعيد من البناية، منزل صغير مُتواضع، واجهته مغربية تجمع بين ما هو تقليدي وآخر عصري، وأمام بابه ينهمك رجال وشباب في تنظيف الساحة الصغيرة، ثم فرش حصائر وزرابي طويلة.
تدنو الشمس نحو مغيبها، وصلاة المغرب من آذانها، والحركة تتزايد وتتسارع، والزوار يصطفون في طابور طويل، إنه يوم الزيارة، يستقبل الشيخ مُحبيه ومريديه، يفتح لهم بابه، يُحدثهم ويُحدثونه، ثم يتسامر الجميع بعد صلاة العشاء في ليلة تمتد إلى ما قبل أذان الفجر، يعلو فيها الذكر والدعاء، وتترنم فيها الحناجر بقصائد المديح والسماع.
قلبي عنها ما زاغ
"مداغ مداغ مداغ --- عنها قلبي ما زاغ"، يُنشد بعض من الشباب الذين قطعوا ما يُناهز 530 كيلومتراً للمجيء إلى قرية مداغ، وسيقطعون مثلها للعودة إلى أهلهم، تحلقوا في أحد الأركان، وشرعوا في الإنشاد والفرحة تعلو مُحياهم.
هذه القصيدة وغيرها، يتغنى بها مريدو الطريقة القادرية البودشيشية، تعبيراً عن أشواقهم لزيارة شيخهم الحي، وأيضاً ضريح أجداده المتوفين، من شيوخ الطريقة الذي يستقر بهذه القرية الصغيرة، في أقصى شرق المغرب، بعيدا عن الحدود المغربية الجزائرية بحوالي عشرين كيلومتراً.
ليست الطريقة القادرية البودشيشية وليدة اليوم، بل تمتد إلى القرن الخامس الهجري، وهي تنتسب بحسب الأدبيات الصوفية للشيخ عبد القادر الجيلاني. إلا أن شكلها الحالي، وتوسعها الكبير، لم يكن إلا قبل سنوات قليلة.
بداية العهد الجديد للطريقة، كان في أعقاب وفاة شيخ الطريقة آنذاك أبو مدين القادري، ليخلفه الشيخ العباس القادري البودشيشي، عام 1955، وفي عهده بدأت تشتهر الطريقة بشكل متزايد، إلا أنه في أعقاب عام 1972، وبعد وفاة الشيخ العباس، كُلف ابنه حمزة بقيادة مشيخة الطريقة.
وخلال عهد الرجل اشتهرت الطريقة بشكل غير مسبوق، وتحولت القرية الصغيرة إلى قبلة عالمية، خاصة في أواخر شهر رمضان، وذكرى المولد النبوي، الشيء الذي سيتعزز قبل سنوات قليلة بعد وفاة الشيخ حمزة، الذي خلفه ابنه جمال عام 2017 على رأس الزاوية القادرية البودشيشية.
قبلة المتصوفة
توجد قرية مداغ في أقصى شرق المغرب، قريباً من الحدود مع الجزائر بأقل من ثلاثين كيلومتراً، تتبع إدارياً لمدينة بركان، وهي واحدة من أشهر حواضر الشرق المغربي.
تواجد مقر الطريقة القادرية البودشيشية جعلها قبلة للصوفيين من شتى أنحاء العالم، سواء أولئك القادمين لزيارة شيخ الطريقة جمال الدين القادري البودشيشي، أو المُشاركين في الملتقى العالمي للتصوف الذي تُنظمه الطريقة كُل مولد نبوي.
هذا الملتقى الذي يُشرف على تنظيمه ابن شيخ الطريقة، منير القادري البودشيشي، يستقبل على مدار أكثر من 14 عاماً، عُلماء وصوفيون من شتى بقاع العالم، يُناقش قضايا الساعة، ويحث على اتباع المنهاج الإسلامي المعتدل، ومُحاربة خطاب التطرف والغلو في الدين.
وطيلة خمسة أيام، يتناوب أكثر من 120 عالما وأستاذاً باحثاً ومحللين دوليين في مختلف التخصصات، على محاضرات الملتقى، والتي تتنوع مواضيعها بين علوم الفلسفة والتصوف والشريعة، إلى السوسيولوجية والاتصال والقانون والاقتصاد والعلاقات الدولية.
وفي آخر أيام المُلتقى، التي تتزامن غالباً وذكرى المولد النبوي، تُقيم الطريقة القادرية البودشيشية ما يُعرف بالليلة الكُبرى، وهي سهرة دينية يرأسها شيخ الطريقة جمال الدين القادري البودشيشي، يتم فيها ترديد قصائد للسماع والمديح، كما تعرف مداخلات لأبرز العلماء المشاركين في الملتقى.