أعزائي وأحبائي في منتديات درر العراق ...
أحببت أن اشارك معكم في هذهِ المسابقة الجميلة عن الموضوع الحصري والكبير الخاص بالمنتدى
راجياً ان ينال استحسانكم ولأجل الفائدة والاستزادة في المعلومات أيضاً
موضوعي هو (( دجلة الخير ))
هو يبحث عن نهر دجلة الذي اختزن واختزل التاريخ العراقي بأكملهِ ,, وكيف أثّر وتأثر الادب العراقي بهذا النهر الخالد
معززاً الموضوع بصور من كاميرتي الخاصة ,, ألتقطت الصور من فوق جسر الجادرية في بغداد
نبذة مختصرة عن نهر دجلة :
نهر دِجْلَة نهر ينبع من جبال طوروس، جنوب شرق الأناضول في تركيا ويعبر الحدود السورية التركية، ويسير داخل أراضي سوريا بطول 50 كلم تقريباً، ليدخل بعد ذلك أراضي العراق عند قرية فيشخابور. يتفرع دجلة إلى فرعين عند مدينة الكوت هما نهر الغراف والدجيلة. كان نهر دجلة يلتقي بنهر الفرات عند القرنة في جنوب العراق بعد رحلته عبر أراضي العراق ليكوّنا شط العرب الذي يصب في الخليج العربي، ولكن تغير مجرى الفرات في الوقت الحاضر وأصبح يلتقي بنهر دجلة عند منطقة الكرمة القريبة من البصرة، ويبلغ طول مجرى النهر حوالي 1,718 كيلومتر. ينبع من تركيا ومعظم مجراه داخل الأراضي العراقية بطول يبلغ حوالي 1400 كيلو متر، وتصب خمسة روافد فيه بعد دخوله الأراضي العراقية وهي: الخابور والزاب الكبير والزاب الصغير والعظيم وديالى. وهذه الروافد تجلب إلى النهر ثلثي مياهه. أما الثلث الآخر فيأتي من تركيا ويصب آخر رافد في دجلة، وهو نهر ديالى جنوب بغداد بمسافة قصيرة. ثم يتعرج ويتهادى بالتدريج حتى يصل إلى أرض منخفضة ومنبسطة حتى يلتقي بنهر الفرات توجد أكثر أراضي العراق خصوبة في المنطقة القريبة والواقعة بين نهري دجلة والفرات، ويوفر النهران المياه اللازمة للري.
التسمية :
دَجَل الشيءَ غَطَّاه، ودِجْلة اسم نهر، من التغطية لأَنها غَطَّت الأَرض بمائها حين فاضت، ويقال دِجْلة ودَجلة بفتح الدال وكسرها؛ ودُجَيل: نهرٌ صغير متشعب من دِجْلة.
الاسم السومري لدجلة هو "ادجنا".
الاسم السامي "ادجلان".
الاسم التوراتي "حداقل"
العراق وبغداد ودجلة :
لقد كانَ العراق قبلةَ عرب الجزيرة وجنَّتهم الموعودة، قبل الإسلام وبعده، وكانوا يسمُّونه «أرض السواد». وقد عللَ ياقوت الحموي (574 - 626 ه / 1178 – 1225 م) سبب التسمية «لسواده بالزروع والنخيل والأشجار لأنه حين تاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر كانوا إذا خرجوا من أرضهم ظهرت لهم خضرة الزرع والأشجار فيسمونه سوادا كما إذا رأيت شيئا من بعد قلت: ما ذلك السواد؟ وهم يسمون الأخضر سوادا والسواد أخضر». ثم اختيرت عاصمة للدولة العباسية (132- 656هـ / 750- 1258م). ثم أسس الخليفة أبو جعفر المنصور بغداد واختارها عاصمة للدولة الجديدة. وقد بلغت أوج ازدهارها في زمن الخليفة الخامس هارون الرشيد.
ولا يمكن أن تُذْكَرَ بغدادُ دون أن يُذْكرَ نهرُ دجلةَ، فعلى أساسهِ اختيرتْ هذه البقعة لتصبح عاصمة للدولة العباسية العتيدة. ولدجلة قصةٌ مع الشاعر علي بن الجهم (188 - 249 هـ / 803 - 863م)، العربيُّ الخشن القادم من الصحراء. حيثُ قصدَ ابن الجهم بغداد بِنيَّةِ مدحِ الخليفةِ المتوكل (205 هـ - 247 هـ / 822 م - 861 م)، فوقفَ في حضرته وأنشدَ مادحاً:
أَنتَ كَالكَلبِ في حِفاظِكَ لِلوُد***دِ وَكَالتَيسِ في قِراعِ الخُطوبِ
أَنتَ كَالدَلوِ لا عَدِمناكَ دَلوا***مِن كِبارِ الدِلا كَثيرَ الذَنوبِ
لم يستحسنِ المتوكلُ ما جاءَ في القصيدةِ من تشبيهات، لكنه عرفَ حُسْنَ مقصد الشاعر وتفهم خشونة ألفاظه، وأرجعها لحياة البادية التي لم يخبر ابن الجهم غيرها، فأمر له بدار وبستان حسن على شاطئ دجلة، قرب الجسر ليطلعَ على الناس في غدوهم ورواحهم. كما أوصى له برفقة حسنة من الأدباء يتناوبون على مجالسته ومحادثته، وتركه على هذه الحال ستة أشهر. ثم استدعاه لينشدَ له.
عيونُ المها بين الرصافـةِ والجسـرِ *** جَلَبْنَ الهوى من حيثُ أدري ولا أدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن سَلَوتُ *** وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ
وَبِتنا عَلى رَغمِ الوُشاةِ كَأَنَّنا *** خَليطانِ مِن ماءِ الغَمامَةِ وَالخَمرِ
إنَّ الفرقَ كبيرٌ بين القصيدتين، ليسَ في المفردات فحسب، بل في الرقة والعذوبة والموسيقى. ويبدو أنَّ دجلة قد غسلت روح الشاعر وشذَّبتْ ذائقته مما علِقَ بها من خشونة الصحراء وجدبها، فخرج بتلك التحفة الفنية الخالدة.
لم يحصرِ الشعراءُ اهتمامهم بأحد الرافدين دون الآخر، حيث اعتادَ الشعراءُ منذ القِدَم أن يستعيروا جبروت الفرات وعطائه، واستخدموها في المديح، كما في معلّقة النابغة الذبياني «يا دارَ ميّةَ» (توفي: 18 قـ.هـ/ -605 م)، التي امتدحَ فيها النعمان بن ماء السماء، مُشَبِّهاً جبروته وكرمه بالفرات، جاءَ فيها:
يا دارَ مَيّةَ بالعَليْاءِ، فالسَّنَدِ، *** أقْوَتْ، وطالَ عليها سالفُ الأبَدِ
أُنْبِئْتُ أنّ أبا قابوسَ أوْعَدَني، *** ولا قَرارَ على زَأرٍ مِنَ الأسَدِ
فما الفُراتُ إذا هَبّ الرّياحُ لـه، *** تَرمي أواذيُّهُ العِبْرَينِ بالزّبَدِ
يَمُدّهُ كلُّ وادٍ مُتْرَعٍ، لجِبٍ، *** فيه رِكامٌ من اليِنبوتِ والخَضَدِ
يظَلُّ، من خوفهِ، المَلاَّحُ مُعتصِماً *** بالخَيزُرانَة، بَعْدَ الأينِ والنَّجَدِ
أما سحرُ دجلةَ وعذوبة مائه فكانا محل اعجاب كل زوّار بغداد، فلم يفت أبو العلاء المعرّي (363 - 449هـ / 973 -1057م) القادم من بلاد الشام أن ينوِّهَ بمائه ونخيله، فأنشد قائلاً:
كلفنا بالعراق ونحن شرخ *** فلم نلمم به إلا كهـــولا
وردنا ماء دجـلة خير ماء ***وزرنا اشرف الشجر النخيلا
وأبنا بالغلــيل وما اشتفينا *** وغاية كل شئ أن يــزولا
الرافدان في شعر العصر الحديث :
احتلَّ نهرا دجلة والفرات، أو الرافديْن، مكانة كبرى في قصائد شعراء العصر الحديث، وبصور متعددة، حيثُ يوظِّفُ الشاعرُ النهر بما يتناسب وموضوع قصيدته، حيث ينبري الشاعر المُجدِّد محمد سعيد الحبوبي لوصف جلسة سمر على ضفاف دجلة في بغداد، وكأنّهُ يعود بنا أحدَ عشرَ قرناً إلى الوراء ليصفَ لنا أحدى جلسات عليٍّ بن الجهم، ففي قصيدته «شمسُ الحُميّا»:
شمس الحمياّ تجلتْ في يد الساقي *** فشعَّ ضوء سَناها بين آفاقِ
هيفاء لولا كثيب من روادفها *** فرَّ النطاقان من نزع وإقلاقِ
وبتُ أسقي وباتت وهي ساقيتي *** نحسو الكؤوس ونسقي الارض بالباقي
في مربع نسجتْ ايدي الربيع له *** مطارف الزهر من رَندٍ وطبَّاقِ
تشدو العنادل في ارجائه طربا *** والغصن يسحب فيه ذيل أوراقِ
والنهر مطٌرِدُ والزهر منعكِسٌ *** والناي ما بَينَ تقييدٍ وإطلاقِ
وفي قصيدة أخرى يتغزَّلُ الحبوبي بـ«غزال»من الكرخ، وكأنّه يريدُ أنْ يكملَ رسمَ النصف الثاني من لوحة ابن الجهم الذي تغزَّلَ بـ«مهاه» من جهة الرصافة.
يا غزال الكرخ واوجدي عليك *** كاد سرِّي فيك أن يَنْهتكا
هذه الصهباء والكأسُ لديك *** وغرامي في هواك إحتَنكا
فاسقني كأساً وخُذْ كأساً اليك *** فلذيذُ العيش أن نشتركا
اترع الأقداحَ راحاً قرقفاً *** واسقني واشرب أو اشرب واسقني
فلمُاك العذبُ أحلى مرشفا *** من دم الكرم وماء المزنِ
والطريف أنّ الحبوبي كتبَ خمرياته الرائعة دون أن يتذوق الخمرة يوماً، سائراً بذلك على نهج سابقيه من الشعراء الفحول الذين وصفوا الخمر دون أي سابق تجربة. وقد نبَّهَ الحبوبيُ على ذلك في نفس القصيدة قائلاً:
لا تخل ويكَ، ومَن يسمع يخل، *** إنني بالراح مشغوف الفؤاد
أو بمهضوم الحشا ساهي المقل *** أخجلت قامته سمر الصعاد
غيرَ أنّي رمتُ نهجَ الظرفا *** عفةُ النفس وفسق الألسنِ
وقد اثبتت الأيام صدق ادعائه.
محمد مهدي الجواهري والرافدان :
ليس بعيداً عن الحبوبي بل قريباً جداً منه، انطلقَ ابنُ مدينته، شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري (1899 – 1997م) الذي أغدقَ على الرافديْن، بالعديد من القصائد الخالدة. ولد الجواهري وترعرعَ في مدينة النجف الأشرف ثم انتقل للعيش والعمل في بغداد. وبذلك يكونُ ارتوى بماء الفرات في طفولته وريعان شبابه، ثم تكفل دجلة بسقياه حتى مغادرته العراق إلى الأبد في سبعينيات القرن العشرين. إنَّ الجواهري مشبعٌ بحب النهرين، فهو لم يكتفِ بنظم القصائد التي تفيض حبا وولهاً بالنهرين، بل أسمى ولدَهُ البكر «فرات»، وكأنّه أراد للفرات أنْ يكونَ في حضنه وتحت ناظريه ليروي عشقه لهذا النهر الذي أطفأ ماؤه ظمأهُ الأول. كما أطلق اسم «الفرات» على جريدته الأولى (سنة 1930) التي خاض على صفحاتها العديد من معاركه السياسية، وهي الجريدة العراقية الأولى التي كانت تصدر بطبعة مسائية أربعة أيام في الأسبوع.
ويتماهى الجواهريُ مع الفرات والعراق حتى يلتبس عليه الأمر فيقول: «أنا العراق .. لساني قلبه ودمي فراته .. وكياني منه اشطار». إن هذا البيت يذكِّرنا بأبيات للشاعر الصوفي الحسين بن منصور الحلاج (244 – 309هـ / 858 – 922م) الذي تماهى مع عشقه الالهي ووصفه أبلغَ وصف قائلاً:
أنا من أهوى، ومَنْ أهوى أنا *** نحن روحـانِ حللـــنا بدنا
فإذا أبصرتـــني أبصرتـه *** وإذا أبصرتَـــهُ أبصرتَنا
روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ *** مَنْ رَأى روحَينِ حَلَّت بَدَنا
والفراتُ في شعر الجواهري حمّالُ أوجه، فمرة هو ثائر ومرة يمثل العطاء والازدهار، ففي قصيدته «الفرات الطاغي» يصف الفراتَ بالحالتين، حيثُ يصفُ فيضانه الطاغي، مشبهاً إياه بالبحر الغاضب، مُبَيّناً أنّه حين يهيج فلا قِبَل لأحدٍ أن يقف بوجهه. كما ينوِّه بالطمى الذي يجلبهُ النهر معه ليحيي الأراضي القاحلة ويروي الأشجار والأرض التي طالَ انتظارها لمياهه.
طغَى فضوعف منه الحسنُ والخَطَرُ *** وفاض فالأرضُ والأشجارُ تنغمِرُ
وراعت الطائرَ الظمآنَ هيبتُه *** فمرَّ وهو جبانٌ فوقَه حذِرُ
وما الفراتُ بمسطاعٍ فمختَضَدٍ *** ولا بمستعبَد بالعُنفِ يُقتَسرُ
هو الفرات وكم في أمره عَجَبٌ *** في حالتيهِ وكم في آيِه عِبَرُ
طَمَى فردَّ شبابَ الأرض قاحلةً *** به وعادت إلى رَيعانها الغُدُرُ
وصفحةٍ من بديع الشعر منظرهُ *** طامي العُباب مُطِلاً فوقَه القَمَرُ
وقد بدت خضرةُ الأشجار لامعةً *** مغمورةً بسناه فهي تزدهِرُ
تشي هذه القصيدة بمقدار عشق الجواهري لنهر الفرات، فهو يتغزل بمحبوبه ويركز على محاسنه حتى في أوج فيضانه، رغم ما كانَ يجلبهُ الفيضانُ من أضرار قبل انشاء السدود والنواظم المائية الكافية. إنّ «فراتَ» الجواهري يشبه «بالضبط فرات» النابغة الذبياني الذي استعار صورة الفرات الثائر لوصف غضبة (ممدوحه) النعمان بن ماء السماء.
ومنَ النادرِ أن يبثَّ الجواهري لواعج شوقه وحبه للعراق دون أن يحضرَ أحد النهرين، ففي قصيدته «الذكرى المؤلمة» (عام 1924) التي كتبها أثناء رحلة اصطياف إلى إيران، فينشد للعراق والفرات قائلاً:
أقول وقد شاقتنيَ الريحُ سحرةً *** ومَنْ يذكرِ الاوطانَ والأهلَ يَشْتَقِ
ألا هل تعودُ الدار بعد تشتُّتٍ *** ويُجمع هذا الشملُ بعدَ تفُّرقِ
وهل ننتشي ريحَ العراقِ وهل لنا *** سبيلٌ إلى ماء الفرات المصفَّقِ
وفي قصيدته «سلام على أرض الرصافة» ( عام 1923)، يقرنُ الجواهري بغدادَ بدجلة، مقدماً ثنائية « دجلة – بغداد»، شبيهة بثنائية «الفرات – العراق»و «الفرات – النجف» و«الفرات - الثورة».
صبوت إلى أرض العراق وبردها *** اذا ما تصابى ذو الهوى لرُبى نجدٍ
سلام على أرض الرصافة إنها *** مراح ذوي الشكوى وسلوى ذوي الوجدِ
لها الله ما أبهى ودجلةُ حولها *** تلف كما التف السوارُ على الزندِ
كما يجمع الجواهري الكرخ والرصافة في قصيدة واحدةٍ أسماها «في بغداد»، ويستذكرُ عهديْ الخليفتيْن هارون الرشيد وابنه المأمون اللذين عاشت بغدادُ عصرها في زمنهما:
يا نسمة الريح مِن بين الرياحينِ *** حيي الرصافة عني ثم حَيّيني
ان لم تمري على ارجاءِ شاطِئها *** فلَيتَ لم تحملي نشراً لدارين
ولي إلى الكرخِ من غربيِّها طَرَب *** يكادُ من هِزَّةٍ للكرخِ يرميني
حيث الضفافُ عليها النخلُ متِّسقٌ *** تنظيمَ أبيات شعرٍ جدِّ موزون
يا ربةَ الحسن لا يُحصَى لنَحصِره *** وصفٌ فكلُ معانينا كتخمين
خلِّ الملامةَ في بغدادَ عاذلتي *** علامَ في شم رَوح الخُلد تَلحيني
هيهاتَ بعد رشيدٍ ما رأتْ رشداً *** كلا ولا أمِنَتْ مِن بعد مَأمون
إنّ التشابه بين لوحات علي بن الجهم والنابغة الذبياني ومحمد سعيد الحبوبي ومحمد مهدي الجواهري، ليس بتكرار مُمِل ولا استعارة ممجوجة، إنما غزل بالمحبوب عينه، من زوايا متعددة في أزمان مختلفة. والغَزَلَ كالصلاة، التكرارُ لا يحطُّ من قدره، بل يزيده صدقية ويُسْعِدُ المحبوب.
لقد جعلَ الجواهري النهرين بمثابة أمّه وأبيه، ففي قصيدته «يا ابن الفراتيْن» (عام 1969)، يسَمّي دجلة والفرات أبويْنِ له، وقد نظم القصيدة رداً على مُتَّهِمي الشعر العمودي بالتخلف ونضوب موارد ناظميه، قاصدين الجواهري بالتحديد. وقد أحزنَه ذلك، كيف لا وهو فارسه الأبرز. وقد استهل قصيدته بالأبيات التالية:
يا ابن الفراتين قد أصغى لك البلدُ *** زَعْماً بأنك فيه الصادحُ الغرِدُ
ما بين جنبيكَ نبعٌ لا قَرارَ له *** من المطامح يستسقي ويَرتفد
يا ابن الفراتين لا تحزن لنازلة *** أغلى من النازلات الحزنُ والكمدُ
وحين يريد الجواهري أن يستنفر جماهير الشباب للثورة والانتفاض على الواقع المرفوض، فهو يكنيهم بشباب الرافدين، مذكراً إياهم بأنهم جميعاً أبناء الرافدين والأحرى أن تتوحد جهودهم لمصلحة العراق.
ضُموا صفوفـكم ولمُّوا *** مجـداً إلى مجدٍ يُضمُّ
وتكاتفوا ينهـض بكم *** جبلٌ يُـلاذ به أشمُّ
يا غادياً لسفـوح دجلةَ *** حيث طينـتها تُشمُّ
حيث الضـفاف بكوثر*** عطرٌ قـراحٌ تُستحمُّ
قف بين دجلة والفراتَ *** وصِحْ ليسمعكَ الأصمُّ
إيهِ شبابُ الرافدينِ*** وأنتمُ الشرفُ الأتــمُّ
يا موقدي سرج الدماء ***إذا دجـا ليل أغـمُّ
نظمَ الجواهري أكثر من خمسة وعشرين ألف بيت شعر، ضَمّتها مئاتُ القصائد في ديوان ضخم من سبعة أجزاء، كلها عزيزة على قلب الشاعر وقلوب محبِّيه، لكنَّه كثيرا ما وصفَ رائعته «المقصورة» التي كتبها خلال عامي (1947 – 1948)، بأنها الأفرد والأخلد، وأضافَ: «لو فنيتْ جميعُ أشعاري لبقيت المقصورة». وضمّنها جميع طبعات دواوينه في بغداد ودمشق وبيروت، مع تقديم يشير إلى أن ثمة مئة وخمسين بيتاً أخرى، عصفت بها الرياح وأطاحتْ بها في نهر دجلة أو فُقِدَتْ لأسباب أخرى. وقد اختير مقطعٌ من هذه القصيدة ليكون النشيد الوطني العراقي. وقد جاءَ في القصيدة:
سلامٌ على هَضَباتِ العراقِ *** وشطَّيهِ والجُرْفِ والمُنحنى
على النَّخْلِ ذي السَّعَفاتِ الطوالِ *** على سيّدِ الشَّجَرِ المُقتنى
على الرُّطَبِ الغَضِّ إذ يُجتلَى *** كوَشْيِ العروسِ وإذ يُجتنى
بإِيسارهِ يومَ أعذاقُه *** تَرفّث، وبالعسرِ عندَ القنى
وبالسَّعْفِ والكَرَبِ المُستجِدِّ *** ثوباً تهرّا وثوباً نضا
ودجلةَ إذْ فارَ آذيُّها *** كما حُمَّ ذُو حَرَدٍ فاغتلى
ودجلةَ زهو الصَّبايا الملاحِ *** تَخوضُ منها بماءٍ صَرى
على الجْسِرِ ما انفكَّ من جانبيهِ *** يُتيحُ الهَوى مِن عيونِ المها
في هذه الأبيات المنتقاة من القصيدة، يُحَيّي الجواهري العراق بهضابه وسهوله ونهريه وضفافهما، وتسمية دجلة والفرات بالنهرين أو الشطّيْنِ أو الرافدين ليس بجديد. ثم يُحَيِّي النخلَ واصفاً إيّاه بـ«سيّد الشجر»، ذاكراً السعفَ والرطبَ والكرب. وقد فعلَ أبو العلاء المعري ذلك قبلهُ، ولكن ليس بنفس التفصيل والحنان. بعد ذلك يحيِّي دجلةَ وصباياها المِلاح على الجسر يتيحُ الهوى من عيون المها. هنا يُذَكِّرُ الجواهري بلوحة علي بن الجهم، وكأنّه يريدُ أن ينوِّه بجمال بغدادَ ونسائها والبساتين القائمة على ضفافه.
بعد ذلكَ يحيِّي الشاعرُ الضفادع المقيمة على ضفاف النهر، واصفاً نقيقها برسائلَ حُبٍّ تتبادلها مع بعضها البعض. ولا يمكن أن يُدرجَ هذا المقطعُ من القصيدةِ تحت باب الوصف أو المديح، إنّهُ غزلٌ ما بعده غزل وحُبٌّ لا يجاريه حُبّ إلا حُبّ الطفلِ لأمِّهِ.
سلامٌ على جاعلاتِ النَّقيقِ، *** على الشَّاطئينِ، بَريدَ الهوى
لُعنتنَّ مِن صِبيْةٍ لا تشيخُ *** ومن شِيْخَةٍ دَهْرَها تُصطبى
إنَّ هذه الصورة الشعرية غير المسبوقة تفصحُ عن بلاغة وأصالة لا تضاهيان. ومِن خلال هذا البيت تترسخُ القناعةُ بأنَّ الجواهري يتعامل مع كل مكونات المشهد على أنها كائنات عاقلة. لقد أمتد عشقه وهيامه بالنهر ليشمل كل توابعه التي لا يمكن فصلها عنه، كحال الشمس وأقمارها.
وأخيراً، لا بُدَّ مِنْ وقفةٍ في حضرةِ «يا دجلة الخير»، واسطةُ القلادة، الجوهرة التي تبرز على كل ما حولها من جواهر، القصيدة التي كتبها الجواهري أثناء غربته في براغ (عاصمة جيكيا - جيكوسلوفاكيا آنذاك) سنة 1962. وقد ضَمَّنَها أرقى صوره الوصفية، مستخدما قدرته اللغوية ونفَسه الشِّعري الطويل. واختارَ دجلةَ رمزاً للوطن ليناجيه ويبثه شوقه ويشكو له ظروف الغُرْبة والعَوَز والشُّعور بالاضطهاد . وجاءَ في مطلعِ القصيدة:
حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني *** يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البستاتينِ
حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذُ به *** لوذَ الحمائمِ بين الماءِ والطين
يا دجلةَ الخيرِ يا نبعاً أفارقُهُ *** على الكراهةِ بين الحِينِ والحين
إنِّي وردتُ عُيونَ الماءِ صافيةَ *** نَبْعاً فنبعاً فما كانت لتَرْويني
أتَضمنينَ مَقيلاً لي سَواسِيةً *** بين الحشائشِ أو بين الرياحين؟
خِلْواً مِن الـهمِّ إلاّ همَّ خافقةٍ *** بينَ الجوانحِ أعنيها وتَعنيني
لقد وظف الجواهري النداء بـ«ياء النداء» في سبعة وأربعين موضعا، ورغم أن هذه الأداة تدلُّ على البعد، فإنَّ نداءهُ لا يتضمن دلالة البعد المعنوي، بل للدلالة على التمسك بدجلة، التي تمثل الوطن. وقد جاء أكثر هذا النداء بنداء دجلة، ولكن اللافت في هذا الاستعمال أنه لم يورد دجلة بالمنادى مفردة بل جاء ذكر دجلة مرتبطا بلازمة (الخير) . واختار الجواهري جملة النداء هذه عنواناً لقصيدته. وكان اختياراً موفقا، إذ يمثل تكثيفا لمضمون النص وقضيته، ويتضمن تداخلا فنيا بين العنوان والنص، إذ يبوح العنوان بفحوى النص. وكذلك اختياراته الصوتية، فهو يعطي الموسيقى درجة عالية من الأهمية؛ ولذلك فقد أجاد في اختيار قوافيه، وأصواتها، وكذلك في بعض المؤثرات من حيث نوعية المقاطع ومواطنها، وبخاصة في القافية، إضافة إلى دور التضعيف؛ فقد أكثر الجواهري من التضعيف في نصه، لتعميق وقع الكلمة . ويستمر الشاعر بالتغزل بدجلةَ مستخدماً النداء:
يا دجلةَ الخيرِ: يا أطيافَ ساحرةٍ *** يا خمرَ خابيةٍ في ظلِّ عُرْجون
يا سكتةَ الموتِ، يا إعصارَ زوبعةٍ *** يا خنجرَ الغدرِ، يا أغصانَ زيتون
يا أُم بغدادَ، من ظَرفٍ، ومن غَنَجٍ *** مشى التبغددُ حتى في الدهاقين
يا أمَّ تلك التي من «ألفِ ليلتِها» *** للآنَ يعبِق عِطرٌ في التلاحين
يا مُستَجمَ «النُّوُاسيِّ» الذي لبِستْ *** به الحضارةُ ثوباً وشيَ «هارون»
إنّ تكرار النداء وجملة النداء أكسب القصيدة تأثيراً وجعل القارئَ في انشداد وانبهارٍ دائميْن، لمعرفته بأنَّ التكرارَ سيأتي بمشهدٍ جديدٍ ليسَ أقل سحراً من سابقِهِ. ثم يعود ويؤكد لدجلةَ، إنما حبه هذا ليس سوى تأكيد وتجديد لحب وولع راسخ ومتجدد، مُذَكِّراً إياه بقصيدته «المقصورة» التي تغزل فيها بنقيق الضفادع الساكنة على ضفافه، كما جاء آنفاً، فيقول:
حتى الضفادعُ في سفحيكِ سَارِيةَ *** عاطيتُها فاتناتٍ حُبَّ مفتون
غازلتُهنَّ خليعاتٍ وإن لبست *** من الطحالب مزهوَّ الفساتين
و يناشدُ الشاعرُ قارباً يبحر في مياه دجلة متمنياً لوْ أن قطعة من شراعهِ تكون كفناً له بعد موته، ظناً منه أنه سوف لن يعود إلى أرض الوطن يوماً:
وأنتَ يا قارَباً تَلْوي الرياحُ بهِ *** لَيَّ النسائمِ أطرافَ الأفانين
ودِدتُ ذاك الشِراعَ الرخص لو كفني *** يحاكُ منه غَداةَ البَين يَطويني
وحين عادَ الشاعرُ إلى العراق عام 1969، اعتقد أن عودته إلى أرض الوطن نهائية، وإنّ شكوكه وظنونه ما كانت في محلها، فكتبَ في قصيدة «أرحْ رِكابكَ»:
يا دجلة الخير ما هانت مطامحنا *** كمـــــا وهمنا ولم نصدقكِ في الخبرِ
ها قد اقلنا بين جنبيكِ يؤنسنــــــا *** لــوذ الحمائمِ بين الطين والنــــهرِ
ولم يَدْرِ الجواهري، حينها، أن هجرة قادمة ستبعده نهائياً عن وطنه، وتطيح بكل تفاؤله. لقد صدقت نبوءته الأولى، وبقيَ شراع ذلك القارب حسرة عليه. حيثُ ماتَ الجواهري ووريَ الثرى في دمشق في مقبرة الغرباء بجوار مرقد السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب، وبقي شِعْرُهُ، وسيبقى ما بقيَ دجلة والفرات وبغداد والعراق وبقيَ ناطقٌ باللغة العربية.
لقد تغزّلَ آلافُ الشعراءِ بدجلةَ، ولكن تبقى مُعلّقَةُ «يا دجلة الخير» الأبرز والأجمل والأشمل. ولو قيضَ لدجلةَ أن ينطُقَ يوماً لقالَ: لو فُنيتِ الأشعارُ التي قِيلَتْ فيَّ كلّها، فإنَّ قصيدة «يا دجلةَ الخير» لن تفنى ابداً، بالضبط كما تنبأَ الجواهري لقصيدته «المقصورة».
الاحتفاء بالرافدين ليس مقصوراً على الشِّعر، بل هو متجذر في كل الفنون الأدبية والإنسانية. ولن يتوقف ابن الرافديْنِ عن تقديم أسمى آيات الامتنان لنهريه العظيميْن اللذين منحاه أسباب البقاء والابداع.
ويطيب لي أن أنهي هذا المقال المتواضع بوجهة نظر حول الشعر العربي، أنا أزعم أن الشِّعْرَ زاد روح الفرد العربي، رافقه منذ النشأة وسيبقى رفيقه إلى ما شاءت الأقدار. وهو بمثابة الجسر الذي ينقل الفنون الأدبية بين العصور. أقام شعراء المعلقات (في شبه جزيرة العرب) دعامته الأولى. ثم المتنبي (من مدينة الكوفة) وأقام دعامته الثانية قبل ألف ومئة عام. وبعده بألف عام برز الجواهري (من مدينة النجف) ودقّ الدعامة الثالثة. ولا أحد يعلم متى ومن سيتصدى لبناء الدعامة الرابعة. ولكنه أمر حاصل لا محالة.