شهد الطب الإسلامي في عصر الأيوبيين نهضة لافتة للغاية، فقد كان الطبيب الحاذق لا يُرى إلا مِن حاشية السلاطين والملوك والأمراء وعِلية القوم، وقد سار الأيوبيون على درب زعمائهم الزنكيين الذين سعوا على يد نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي إلى بناء وإنشاء المستشفيات بأقسامها وتخصّصاتها كافة في المدن الشامية، فوجدنا البيمارستان النوري في دمشق وحلب.
والحقّ أن النهضة الطبية في الحضارة الإسلامية كانت سابقة على هذه العصور لأربعة قرون قبل ذلك على الأقل، منذ الأمويين والعباسيين، وقد اعترف العديد من المؤرخين والمستشرقين الأوروبيين بهذه الحقيقة، بل كتب الطبيب والمؤرخ البريطاني سيريل إلغود في كتابه "تاريخ الطب في فارس والخلافة الشرقية" يقول: "يرجع الفضل في نظام البيمارستانات (المستشفيات) بأكمله إلى المسلمين"، وقد أمدّنا الرحّالة اليهودي بنيامين الطُّليطلي الأندلسي (ت 569هـ) في رحلته إلى المشرق الإسلامي في النصف الأول من القرن السادس الهجري بأنه كان في بغداد وحدها ستّون بيمارستان، لها نظامان للعلاج؛ داخلي وخارجي، فضلا عن مستشفيات دمشق وأصبهان وسمرقند وشيراز والقاهرة والقدس والإسكندرية والقيروان وفاس وقرطبة وبلنسية وإشبيلية وطُليطلة وغيرها من حواضر العالم الإسلامي[1].
ولم تكن هذه البيمارستانات للعلاج واستقبال المرضى فقط، بل كانت مخصصة للدراسة العملية والنظرية لعلوم الطب بأقسامها كافة، مثل الرمد والعظام والأمعاء والأطفال والنساء وغيرها من أقسام الطب، وكان يُشرف على هذه المدارس والمستشفيات التي يمكن أن توصف بالمجمّعات أو المدن الطبية المتكاملة -بمقاييس ذلك العصر- ألمع الأطباء منذ الرازي وحنين بن إسحاق والبيروني وابن سينا وغيرهم.
ولقد ورث الأيوبيون مِن أسلافهم الزنكيين بِنية تحتيّة طبية وتعليمية قوية للغاية في كامل بلاد الشام، استطاعت أن تُداوي المرضى وكذلك جرحى الحروب الصليبية بكفاءة عالية، فضلا عن تخريج دفعات من أهم وألمع أطباء ذلك العصر، ومن هؤلاء نجم الدين بن النفّاخ، سليل أسرة علمية ودينية على درجة كبيرة من الشهرة والمكانة في دمشق القرن السادس والسابع الهجريين. فمَن هو ابن النفّاخ أو ابن المنفاخ؟ وما أهم الكليات الطبية التي تخرّج فيها؟ وكيف كانت مسيرته في خدمة أمراء البيت الأيوبي؟ وأشهر مصنفاته؟ وسبب وفاته؟ هذا ما سنراه في سطورنا التالية.
وُلد نجم الدين أحمد بن أسعد بن حلوان بن النفّاخ، وقيل ابن المنفاخ، في مدينة دمشق سنة 593هـ/1197م لأبوين عالمين، فوالده الطبيب الحكيم أبو الفضل أسعد بن حلوان الذي تعود أصوله إلى مدينة المزّة الدمشقية كان من مشاهير أطباء دمشق، حتى إنه كان من جملة الأطباء المخصوصين بالملك الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، حيث ظل يخدمه بمهارة كبيرة لعدة سنين في قاعدة مُلكه بالرقّة والجزيرة الفراتية، وكانت وفاته في مدينة حماة سنة 642هـ .
أما والدة نجم الدين فقد عُرفت في الأوساط الدمشقية بالعالمة، ويبدو أنها برعت في علوم العربية والحديث والقرآن والتفسير، وكان تُعرف ببنت دَهين اللوز أو دُهن اللوز، وترجم لها بعض العلماء في عصرها، فوصفها العلامة الذهبي بـ "العالِمة، شيخة العلماء بدمشق، وكانت لها حظوة"، وتتجلّى هذه الحظوة والمكانة التي نالتها والدته "العالمة" في موقف شديد الأهمية آنذاك؛ إذ إنها استُدعيت "وتكلّمت في عزاء السلطان الملك العادل… كانت عالمة وقتها".
والسلطان العادل هو أخو السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله-، واستدعاؤها في وفاة هذا السلطان سنة 615هـ دليل لا شك فيه على عظم مكانة هذه المرأة، بل وهذه الأسرة التي يمكن وصفها بالأرستقراطية التي جمعت بين علوم الطب وعلوم الإسلام في بيت واحد.
وبين جنبات هذه الأُسرة العريقة، وُلد الطبيب اللامع نجم الدين أحمد بن المنفاخ الذي كان أسمر اللون، نحيف البدن، بدت عليه أمارات الذكاء والنباهة منذ صغره، حتى قال عنه مؤرخ الطب والأطباء ابن أبي أصيبعة في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" إنه "كان مفرط الذكاء، فصيح اللسان، كثير البراعة، لا يُجاريه أحدٌ في البحث، ولا يلحقه في الجدل، واشتغل على شيخنا مهذب الدين عبد الرحيم بن عليّ بصناعة الطب حتى أتقنها".
ومهذب الدين عبد الرحيم بن علي هو سليل العائلة الدخوارية التي كان لها أعظم الأثر الطبي والعلاجي في دمشق في عصرها الوسيط، فقد بنى مدرسته الدخوارية الشهيرة، وكان الطبيب الأول للسلطان العادل أبي بكر بن أيوب (ت 615هـ)، كما كان مدير البيمارستان النوري في دمشق، أعظم مدرسة وكلية طبية آنذاك في الشام كله وربما في العالم الإسلامي، وفوق ذلك أعطاه السلطان صلاحيات واسعة؛ فجعله رئيس أطباء مصر والشام، ثم صلاحية تعيين مَن يراه من الأطباء والكحّالين (أطباء الرمد) في المستشفيات والكليات الطبية، فنال مهذب الدين أعظم مكانة يمكن أن ينالها طبيب في ذلك العصر، وتخرّج على يديه عشرات من ألمع أطباء مصر والشام، وكنا قد تناولنا سيرته وإسهاماته في الحضارة الإسلامية في مقالنا في "ميدان" وعنوانه "الدخواريّون".. أعظم أطباء العصر الإسلامي الوسيط".
كان ابن المنفاخ إذن محظوظا في بيته وبيئته الغنية تلك، التي نشأ ناهلا من علمها العقلي والنقلي والأخلاقي، الطبي والفكري والديني؛ لذا كان متميزا في الطب، كما كان متميزا في علوم العربية واللغة والأدب والشعر، بل والموسيقى والخطّ، وسرعان ما اشتهر بين أقرانه وبين الأوساط الحاكمة من الأسرة الأيوبية التي كان يحكم أمراؤها وملوكها وسلاطينها مصر والشام وجنوب الأناضول، فاستدعاه الملك المسعود ملك منطقة آمد القريبة من مدينة ديار بكر بجنوب تركيا اليوم، وعيّنه طبيبه الخاص، بل ارتقى في مقامه وصُحبته حتى قرّر تعيينه وزير مملكته، وكان الأيوبيون يحكمون بنظام فيدرالي أو شبه مستقل، كل أمير أو ملك منهم يحكم مقاطعة من مقاطعات هذه الدولة المترامية، لكن كما هي لعبة السياسة دائما، فقد غضب عليه الملك المسعود الأيوبي، وأمر بتجريده من مزاياه المالية وطرده من مملكته، فعاد ابن النفّاخ إلى دمشق حيث نشأ وشبّ.
وفي دمشق بزغ نجمه العلمي والطبي، وشرع في تأليف عدد من المصنفات الطبية مثل "هتك الأستار في تمويه الدخوار"، و"شرح أحاديث نبوية تتعلق بالطب"، و"المهملات في كتاب الكليات"، وكتاب "المدخل إلى الطب"، وكتاب "العلل والأعراض"، بل إنه كتب في علم الصيدلة أيضا، وكانت الصيدلة آنذاك تقوم على تحضير الأدوية المفردة والمركبة من عناصر الطبيعة ومزجها ببعضها بمعايير دقيقة، فكتب في ذلك كتاب "الإشارات المرشدة فِي الأدوية المفردة".
وبسبب هذه الشهرة والمكانة في مجال الطب والأدوية والعلاج والتأليف، استدعاه الملك الأشرف بن الملك المنصور الأيوبي في مملكة حمص، وقاعدتها تل باشر، ليكون طبيبه الخاص، لكنه لم يسلم من الحُسّاد والحاقدين لمكانته وعلمه، فضلا عن اعتداده بنفسه، ولقد التقاه ابن أبي أصيبعة وشاهد فيه هذه الخصلة، قائلا: "كان نجم الدين رحمه الله لحِدّةِ مِزاجه قليل الاحتمال والمداراة، وكان جماعة يحسُدونه لفضله، ويقصدونه بالأذية.
وهذا يدلّ على عظم مكانته، ووفور حرمته، وعلمه الواسع، ونفوذه العلمي والسياسي الكبير الذي جعله إحدى ألمع الشخصيات في القصور الأيوبية في دمشق وآمد وحمص وغيرها من بلاد الشام، وبسبب هذه الحدّة فضلا عن النفوذ والمكانة كثر أعداؤه، وشِعره دليل على هذه الحقيقة التي رآها رأي العين في حياته، لكن هؤلاء الأعداء لم تكن حربهم في إطار تشويه السمعة فقط، بل كانوا "يقصدونه بالأذية" كما يقول صديقه ابن أبي أصيبعة، ويبدو أن بعضهم قرّر التخلص منه، يقول ابن أبي أصيبعة: "حكى لي أخوه لأمه القاضي شهاب الدين بن العالمة أنه توفّي مسموما"، وذلك في "ثالث عشر ذي القعدة سنة اثنتين وخمسين وستمئة".
وهكذا، وعن عُمر ناهز التاسعة والخمسين، تنتهي رحلة ابن المنفاخ الدمشقي في مجالَيْ الطب والسياسة، ومن حُسن حظنا أن بعض مؤلفاته وصلت إلينا، لكنها لم تُحقَّق وتخرج في ثوب قشيب لعموم القراء والباحثين حتى الآن، وهي تحتاج إلى مَن يُشمِّر لها ساعد الجدّ، مثل كتابه "تعليق على فصل أبقراط" في الطب، الذي تُوجد نسخة منه في مكتبة حكيم أوغلي بتركيا، وكتاب "العلل والأعراض" في الطب، توجد نسخة منه في مكتبة آستان قدس رضوى بإيران، وكتاب "كفاية الطبيب" الذي تتوفّر منه نسخة بمكتبة أورخان غازي بتركيا، فإن كان من حقّ لهؤلاء العلماء المسلمين علينا فهو إخراج وطبع وتحقيق هذه المؤلفات التي تُلقي مزيدا من الضوء على حياتهم وعلومهم ومعارفهم قبل ثمانية قرون خلت.