أصبحت مصر فى عصر سلاطين المماليك ميداناً لنشاط علم واسع نسبياً على الرغم من فساد الحكم بشكل عام. و نتج عن ذلك النشاط تراث ضخم شمل الموسوعات الأدبية و التاريخية، و مؤلفات متنوعة فى العلوم الدينية. وكانت مصر فى ذلك العهد مركز النشاط الفكر كما وصفها الرحالة الذين وفدوا إليها.
هذا النشاط المتنوع ما كان ليزدهر لولا تشجيع سلاطين المماليك للعلم و العلماء. فكان السلطان الغورى مثلاً يحرص على عقد المجالس العلمية و الدينية بالقلعة، وذلك مرة أو مرتين كل أسبوع.
و كان يبحث ف تلك المجالس مختلف المسائل و المشاكل العلمية و الدينية، وكان يتناقش فيها الحاضرون من كبار العلماء و الفقهاء. حتى أن بعض أمراء المماليك و أبنائهم فى مصر كان يشتغل بالأدب و الفقه و التاريخ و الحديث و اللغة، كما أن بعض هؤلاء الأمراء كان يقوم بالتدريس إل الطلاب.
لم يكن سلاطين المماليك الشراكسة أقل عناية بالكتب من سلاطين دولة المماليك البحرية. فخزائن الكتب العامرة التى ألحقها سلاطين الشراكسة، مثل الظاهر برقوق، و المؤيد شيخ، و الاشرف قايتباى، و الاشرف قنصوه الغورى بمدارسهم، خير شاهد على شغف هؤلاء السلاطين بالعلم وحبهم للمعرفة، و الملاحظ أن خزائن الكتب فى عصر المماليك الشراكسة، لم يقتصر وجودها على المدارس، و إنما ألحقت أيضاً بالخانقاوات و الجوامع، حتى تعم الفائدة و يزداد النفع بما حوته من صنوف العلوم و الآدب.
و تحقيقاً للفائدة كان يقوم بالأشراف على خزانة الكتب ( خازن الكتب )، وكان يناط به ترتيب الكتب و حفظها، و تنظيم وضعها، و ترميمها بين وقت و آخر، فضلاً عن إرشاد القراء إلى ما يبحثون عنه. وكان يقوم بهذه المهمة عادة عالم أو فقيه، و يشترط فيه توافر الأمانة وسعة العلم.
ولم تكن المدارس ه المؤسسات الدينية الوحيدة التى أكسبت عصر المماليك طابعه الدينى الخاص، بل شهد ذلك العصر إقامة مؤسسات أخرى متعددة، مثل المساجد و الزوايا. وما تشير إليه الإشارة كلاً من المدرسة و الجامع قام بدور مزدوج فى خدمة الدين و العلم فى ذلك العصر، غير أن المدرسة كانت تستهدف أولاً خدمة العلم.
مع المحافظة ضمنياً على النشاط الدينى، و العكس بالنسبة إلى المسجد الذى كانت مهمته الأولى إقامة الشعائر الدينية، و يأتى التدريس غرضاً ثانوياً.
أستتبع أنتشار التصوف و الحركة الصوفية فى عصر المماليك الشراكسة كثرة البيوت الخاصة بهم و الت كان يطلق عليها اسم " خانقاوات " وربط، وزوايا. فقد أول سلاطين المماليك و امراؤهم عناية فائقة بإنشاء بيوت الصوفية فشيدوا الكثير منها، و حبسوا عليها الأوقاف الوفيرة.
على الرغم مما شاب العصر المملوك الثانى من حروب و أضطرابات و فساد فإنه شهد حركة تأليف متنوعة الموضوعات، فأنكب العلماء على التدوين، و تنافسوا فى التأليف و أبتكار مباحث جديدة. وكانت القاهرة و الأسكندرية و دمشق و حلب و سواها من المدن تموج بطلاب العلم و العلماء.
أمتاز العصر المملوكى الثان بالكتب الجامعة، و الذى مهد لابرازها شدة صبر العلماء و جلدهم و تعدد نواحيهم العلمية. فبين المفكرين من كان يجمع الفقه و الحديث و الرياضيات و الأدب و الشعر و التاريخ. ثم أن ظاهرة الجمع و الأختصار فى ذلك العهد كان لها شأن كبير فى إظهار هذه الكتب.
و كان ظهورها فى الغالب الأعمم من اجل الأعتداد بالنفس، وسبيلاً إلى التباهى بعلو الكعب و إظهار المقدرة بإحاطة كثير من الفنون و العلوم. كما قد تكون هذه الكثرة فى الجمع و التدوين أستجابة لرغبة السلطان، بعدما مر بنا ما كان لسلاطين تلك الدولة من ميل إلى نشر العلوم و أقتناء الكتب. و المعروف أن أكثر مؤلفات ذلك العصر كانت الدين و العلوم العربية، و يمتاز التأليف فى علوم العربية بقوته وسعة مداه و عمق التفكير به.
أشهر المؤلفين فى علوم الدين :
يعتبر القسطلانى من أشهر المؤلفين فى علوم الدين. وهو أحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلانى القاهرى الشافعى، يلقب بشهاب الدين و يكنى بأبى العباس. ولد سنة 851 هــ بالقاهرة و تعلم بالأزهر، فحفظ كتباً عدة منها الشاطبية. وقد تلقى العلم على جماعة من كبار العلماء، منهم الشيخ خالد الازهرى، و الحافظ السخاوى، و شيخ الإسلام زكريا الأنصارى.
يمتاز عصر المماليك الشراكسة بكثرة الكتب التاريخية، بين موجزة و مطولة. وربما كان الدافع إلى ذلك دينياً و قومياً، بعد فقد كثير من كتب التاريخ عند سقوط بغداد، وتغلب الفرنجة على بلاد الأندلس، وربما كان لميل سلاطين المماليك إلى تدوين الوقائع و سير الرجال أثر فى ذلك، فظهر الأهتمام بكتابة سير السلاطين و الأمراء و الوزراء. و أشهر المؤرخين على الغطلاق فى ذلك العصر هو العلامة ابن خلدون، و من المؤرخين المعروفين فى العصر المملوكى " المقريزى ".
المقريزى : هو أبو العباس تق الدين بن علاء الدين الحسينى، أصله من بعلبك، ونسب إلى حارة فيها تعرف بحارة المقارزة. كان جده من كبار المحدثين ببعلبك، وقد أنتقل أبوه إلى القاهرة فولد له فيها تقى الدين سنة 766 هــ. فنشأ فى تلقى العلم و دراسة الحديث على جده لأمه شمس الدين بن الصائغ، وسمع الحديث فى مكة من الكثيرين.
ولما ظهر فضله و علمه و أدبه تقلد كثيراً من المناصب الدينية و السياسية، كالخطابة. وتولى النيابة فى الحكم، وكتابة التوقيع، و الحسبة، و أتصل بالظاهربرقوق. ورحل إل مكة و دمشق، ثم أقام بالقاهرة و أشتغل بالتأليف فى التاريخ، وله فيه مؤلفات جليلة تعتبر مرجعاً للباحثين عن أحوال مصر السياسية و الأجتماعية ف ذلك العصر. ومن أشهر مؤلفاته " المواعظ و الأعتبار بذكر الخطط و الآثار "، وهو كتاب جامع عظيم الفائدة، جعل فيه وصف وصف الخطط و المبانى و البلاد المصرية.