في عام 1520م صعد إلى كرسي الحكم في الدولة العثمانية واحدٌ من الشخصيات المعدودة في تاريخ السياسة في العالم، وأفضل حكام الدولة العثمانية -من الناحية القيادية- بعد محمد الفاتح. ذاع صيته في الشرق والغرب، وأثَّرت قراراته وأعماله على مجريات الأمور في ثلاث قارات، وخلَّد التاريخ ذكره إلى يومنا هذا؛ بل يندر أن يتجاهل اسمه مؤرِّخٌ كتب أيَّ ملخصٍ عن تاريخ الدنيا! إنه سليمان «القانوني»، أو سليمان «العظيم» The Magnificent؛ كما يُسمِّيه الأوروبيون[1].
ساعده -إلى جوار موهبته وإمكاناته القيادية والإدارية الكبيرة- على هذا النبوغ والتفوُّق عدَّة عوامل؛ منها استلامه من أبيه لإمبراطوريةٍ قادرةٍ لها ممتلكاتٌ في أوروبا، وآسيا، وإفريقيا، ومنها تميُّز عصره بوجود عدَّة رموزٍ عثمانية بارزة في الإدارة، والقيادة، والعلم، والحرب، وكلها أضاف إلى عظمة الدولة، ومنها طول فترة حكمه؛ حيث حكم ستَّةً وأربعين عامًا، وهي أطول مدَّةٍ يقضيها سلطان عثماني في الحكم، ومنها أن المرحلة التاريخية التي عاشها كانت من مراحل التغيير الكبرى في موازين القوى العالمية؛ فبرزت إمبراطوريات، وتهاوت أخرى، وتغيَّرت خريطة العالم الجيوسياسية بشكلٍ لافت، ومنها تكامل دولته العظيمة؛ فصارت نموذجًا يحتاج كلُّ الدارسين في شتى المجالات لفهمه من أجل إدراك تطوُّر التاريخ الخاص بكلِّ فرعٍ من فروع العلوم؛ سواء العلوم العسكرية، أم الحياتية، أم القانونية، أم الاقتصادية، أم الاجتماعية، أم حتى العلوم الفنية والأدبية.
غير أنه بالنسبة إليَّ أجد أن أفضل سمات القانوني هو حرصه على الالتزام بقواعد الشرع الحنيف في جُلِّ خطواته، وهذا حقَّق فوائد جمَّة للدولة العثمانية بشكلٍ خاص، وللأمَّة الإسلامية بشكلٍ عام، ولا أعني هنا فائدة القوَّة والسيطرة والتمكين على أهميَّتها؛ لأن هذه الفائدة حقَّقها كثيرٌ من القادة المسلمين قبل القانوني وبعده؛ ومع ذلك لم يكن لهم الخلود الذي كُتِب لهذا الرجل؛ إنما أعني فائدة إعادة البوصلة العثمانية إلى الاتجاه الصحيح بعد الانحراف الذي أصابها زمن سليم الأول؛ فهدف الدولة في الإسلام ليس التوسُّع وزيادة مساحة الأرض، وتحقيق النصر ولو بالظلم والتعسُّف، إنما الهدف الأسمى هو تطبيق شرع الله، وإقامة شعائر الدين، ونشر الفضيلة، والدفاع عن الحقوق، وتعريف البشر بدين الله، ورفع الظلم عن المظلومين.
هذه هي قيمة الدولة في الإسلام. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 41]. وتكمن عظمة سليمان القانوني -ومِن قبله السلطان القدير محمد الفاتح- في أنهما وضعا النظام المحكم الثابت الذي استمر عدَّة قرونٍ تاليةٍ لزمانهما، فصارت أعمالهما نموذجًا يحتذى، والأهمُّ أنها صارت تعريفًا بالإسلام، وتشريعاته، وقوانينه، وآدابه، وفي هذا أبلغ دعوةٍ يمكن أن يقوم بها داعية. لا يمنع هذا أن تكون هناك أخطاءٌ أو مخالفاتٌ للقانوني؛ ولكن هذه الاستثناءات في حياته تؤكِّد قاعدة عظمته ونبله، ومَنْ هذا الذي يقضي حياته بلا خطيئة؟!
هناك صعوبةٌ كبيرةٌ في عرض قصَّة سليمان القانوني؛ وذلك بسبب طول الفترة الزمنية التي حكمها، وكذلك لوجود أعمال ضخمة على مساحاتٍ شاسعةٍ من الأرض، بالإضافة إلى التكامل الذي كانت عليه الدولة في زمانه؛ ممَّا أدَّى إلى تشعُّب المجالات التي ينبغي الحديث عنها في قصَّته؛ ومع ذلك سأسعى أن أُقَسِّم مدَّة حكمه إلى فتراتٍ متتاليةٍ تتميَّز كلُّ فترةٍ منها بسماتٍ معيَّنة؛ مما يُعطينا سهولةً نسبيَّةً في استيعاب هذه المدَّة الطويلة من الحكم، وعليه فإنَّنا يمكن أن ندرس حياة القانوني تحت العناوين التالية:
1- تسلُّم الحكم، وتثبيت الأقدام، ورؤية مستقبلية (1520-1521م).
2- المواجهة مع النمسا والمجر (1521-1533م).
3- التفرُّغ لمشكلات الأعداء الآخرين غير النمسا: الصفويون وغيرهم (1533-1540م).
4- فتح جبهة النمسا من جديد (1540-1547م).
5- التفرُّغ للجبهات غير الأوروبية (1545-1555م).
6- هدوء جبهات القتال وإصلاحات داخلية (1555-1565م).
7- فتح الملف الأوروبي مجدَّدًا (1565-1566م).
8- سليمان القانوني.. نظرة إجمالية.
من مراجعة العناوين السابقة يتبيَّن أن هناك طابعًا معيَّنًا يغلب على كلِّ فترةٍ زمنيَّةٍ في حياة القانوني؛ ومع ذلك فلم يكن هذا الطابع خالصًا تمامًا، فلا يمنع أن تكون هناك تطوُّراتٌ على الجبهة الصفوية مثلًا أثناء فترة انشغال القانوني بحرب النمسا أو تكون هناك إصلاحاتٌ داخلية في أثناء الحرب مع المجر، وهكذا؛ إنما كان هذا التقسيم من الناحية الأكاديمية لمساعدة القارئ على استيعاب الأحداث الكثيرة في هذه القصَّة المهمَّة.
تسلُّم الحكم، وتثبيت الأقدام، ورؤية مستقبلية (1520-1521م)
العدل أساس الحكم:
كان سليمان القانوني هو الابن الوحيد لسليم الأول؛ لذلك جاء تسلُّم الحكم بلا مشكلاتٍ داخلية. ساعد هذا الهدوء الأميرَ الشاب، الذي كان في السادسة والعشرين من عمره[2]، على صفاء الذهن، وحسن التدبير لدولته الكبيرة، خاصَّةً أنه أبقى في بداية حكمه النظام الإداري الذي كان على أيام والده، وكذلك أبقى المناصب الكبرى في الوزارة والجيش؛ كما كانت؛ ومع ذلك فقد حرص سليمان القانوني على إبراز حرصه على راحة شعبه وأمانه؛ فأعلن ردَّه للمظالم الكثيرة التي أحدثها والده بحكمه المتعسِّف القاسي، وأعلن وقوفه إلى جوار التجار والعمال والمتضرِّرين من سياسة القهر التي مارسها سليم الأول في سِنِيِّ حكمه الثمانية[3]، وهذه الروح جعلت له دعمًا شعبيًّا مميَّزًا ظلَّ مصاحبًا له طوال فترة حكمه، حتى إن المؤرخين يقولون: إن القانوني لم يكتسب هذا اللقب لكونه فقط صاغ القوانين الكثيرة، ونظَّمها؛ ولكن لأنه «طَبَّقَ» هذه القوانين على أرض الواقع، وكان تطبيقه حياديًّا لا يُفَرِّق فيه بين أحد من الرعية[4]، فكان «العدل» أحد أبرز سمات عصره[5].
[1] Ágoston, Gábor: Süleyman I (“the Magnificent”; Kanuni, or «the Lawgiver”) (1494–1566) (r. 1520–1566), In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009 (K). p. 541.
[2] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م. صفحة 236.
[3] شيمشيرغيل، أحمد: سلسلة تاريخ بني عثمان، ترجمة: عبد القادر عبداللي، مهتاب محمد، ثقافة للنشر والتوزيع، أبو ظبي-بيروت، الطبعة الأولى، 1438هـ=2017م. صفحة 4/15.
[4] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/355.
[5] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 411- 413.