رُوِيَ‏ أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ أَنْفَذَ إِلَى الْإِمَامِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فَأَحْضَرَهُ ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ قَالَ : إِنَّ النَّاسَ يَنْسُبُونَكُمْ يَا بَنِي فَاطِمَةَ إِلَى عِلْمِ النُّجُومِ ، وَأَنَّ مَعْرِفَتَكُمْ بِهَا مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ ، وَفُقَهَاءُ الْعَامَّةِ يَقُولُونَ : "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِذَا ذَكَرَنِي أَصْحَابِي فَاسْكُتُوا وَإِذَا ذَكَرُوا الْقَدَرَ فَاسْكُتُوا وَإِذَا ذَكَرُوا النُّجُومَ فَاسْكُتُوا" . وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ أَعْلَمَ الْخَلَائِقِ بِعِلْمِ النُّجُومِ ، وَأَوْلَادُهُ وَذُرِّيَّتُهُ الَّذِينَ يَقُولُ الشِّيعَةُ بِإِمَامَتِهِمْ كَانُوا عَارِفِينَ بِهَا .
فَقَالَ لَهُ مُوسَى الْكَاظِمُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَإِسْنَادُهُ مَطْعُونٌ فِيهِ ! وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ مَدَحَ النُّجُومَ ، وَلَوْ لَا أَنَّ النُّجُومَ صَحِيحَةٌ مَا مَدَحَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالْأَنْبِيَاءُ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ) كَانُوا عَالِمِينَ بِهَا ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ) : ﴿وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ‏ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ‏ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِماً بِعِلْمِ النُّجُومِ مَا نَظَرَ فِيهَا وَمَا قَالَ إِنِّي سَقِيمٌ . وَإِدْرِيسُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) كَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالنُّجُومِ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَقْسَمَ‏ بِمَواقِعِ النُّجُومِ : ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ‏ : ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا
* وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ، يَعْنِي بِذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ بُرْجاً وَسَبْعَةَ سَيَّارَاتٍ ، وَالَّذِي يَظْهَرُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَبَعْدَ عِلْمِ الْقُرْآنِ مَا يَكُونُ أَشْرَفَ مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ ، وَهُوَ عِلْمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ وَوَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَ‏ : ﴿وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ‏ ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ هَذَا الْعِلْمَ وَمَا نَذْكُرُهُ .
فَقَالَ لَهُ هَارُونُ : بِاللَّهِ عَلَيْكَ يَا مُوسَى هَذَا الْعِلْمَ لَا تُظْهِرْهُ عِنْدَ الْجُهَّالِ وَعَوَامِّ النَّاسِ حَتَّى لَا يُشَنِّعُوا عَلَيْكَ ! وَانْفَسْ عَنِ الْعَوَامِّ بِهِ وَغُطَّ هَذَا الْعِلْمَ وَارْجِعْ إِلَى حَرَمِ جَدِّكَ .
ثُمَّ قَالَ لَهُ هَارُونُ : وَقَدْ بَقِيَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى ، بِاللَّهِ عَلَيْكَ أَخْبِرْنِي بِهَا !
قَالَ لَهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : سَلْ .
فَقَالَ : بِحَقِّ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ وَبِحَقِّ قَرَابَتِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ، أَخْبِرْنِي أَنْتَ تَمُوتُ قَبْلِي أَوْ أَنَا أَمُوتُ قَبْلَكَ ؟ لِأَنَّكَ تَعْرِفُ هَذَا مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ .
فَقَالَ لَهُ مُوسَى الْكَاظِمُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : آمِنِّي حَتَّى أُخْبِرَكَ .
فَقَالَ : لَكَ الْأَمَانُ .
قَالَ لَهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : أَنَا أَمُوتُ قَبْلَكَ ! وَمَا كُذِبْتُ وَلَا أَكْذِبُ ، وَوَفَاتِي قَرِيبٌ .
فَقَالَ لَهُ هَارُونُ : قَدْ بَقِيَ مَسْأَلَةٌ تُخْبِرُنِي بِهَا وَلَا تَضْجَرْ ؟
قَالَ لَهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : سَلْ .
فَقَالَ لَهُ هَارُونُ : خَبَّرُونِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ عَبِيدُنَا وَجَوَارِينَا وَأَنَّكُمْ تَقُولُونَ مَنْ يَكُونُ لَنَا عَلَيْهِ حَقٌّ وَلَا يُوصِلُهُ إِلَيْنَا فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ .
فَقَالَ لَهُ مُوسَى الْكَاظِمُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : كَذَبَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّنَا نَقُولُ ذَلِكَ ! وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ عَلَيْهِمْ ؟! وَنَحْنُ نَشْتَرِي عَبِيداً وَجَوَارِيَ وَنُعْتِقُهُمْ‏ وَنَقْعُدُ مَعَهُمْ وَنَأْكُلُ مَعَهُمْ وَنَشْتَرِي الْمَمْلُوكَ وَنَقُولُ لَهُ يَا بُنَيَّ وَلِلْجَارِيَةِ يَا بِنْتِي ، وَنُقْعِدُهُمْ يَأْكُلُونَ مَعَنَا تَقَرُّباً إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، فَلَوْ أَنَّهُمْ عَبِيدُنَا وَجَوَارِينَا مَا صَحَّ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ : اللَّهَ اللَّهَ فِي الصَّلَاةِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ، يَعْنِي صِلُوا وَأَكْرِمُوا مَمَالِيكَكُمْ وَجَوَارِيَكُمْ وَنَحْنُ نُعْتِقُهُمْ ، وَهَذَا الَّذِي سَمِعْتَهُ غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ وَدَعْوَى بَاطِلَةٌ . وَلَكِنْ نَحْنُ نَدَّعِي أَنَّ وَلَاءَ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ لَنَا يَعْنِي وَلَاءَ الدِّينِ ، وَهَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ يَظُنُّونَهُ وَلَاءَ الْمِلْكِ حَمَلُوا دَعْوَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَنَحْنُ نَدَّعِي ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ : مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ، وَمَا كَانَ يَطْلُبُ بِذَلِكَ إِلَّا وَلَاءَ الدِّينِ . وَالَّذِي يُوصِلُونَهُ إِلَيْنَا مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْنَا مِثْلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ .
وَأَمَّا الْغَنَائِمُ وَالْخُمُسُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فَقَدْ مَنَعُونَا ذَلِكَ ، وَنَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى مَا فِي يَدِ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ لَنَا وَلَاؤُهُمْ بِوَلَاءِ الدِّينِ لَيْسَ بِوَلَاءِ الْمِلْكِ ، فَإِنْ نَفَذَ إِلَيْنَا أَحَدٌ هَدِيَّةً وَلَا يَقُولُ إِنَّهَا صَدَقَةٌ نَقْبَلُهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ : لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ ، وَلَوْ أُهْدِيَ لِي كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ ، وَالْكُرَاعُ اسْمُ الْقَرْيَةِ وَالْكُرَاعُ يَدُ الشَّاةِ ، وَذَلِكَ سُنَّةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَلَوْ حَمَلُوا إِلَيْنَا زَكَاةً وَعَلِمْنَا أَنَّهَا زَكَاةٌ رَدَدْنَاهَا وَإِنْ كَانَتْ هَدِيَّةً قَبِلْنَاهَا .
ثُمَّ إِنَّ هَارُونَ (لَعْنَهُ اللَّهُ) أَذِنَ لَهُ فِي الِانْصِرَافِ فَتَوَجَّهَ إِلَى الرِّقَّةِ ، ثُمَّ تَقَوَّلُوا عَلَيْهِ أَشْيَاءَ فَاسْتَعَادَهُ هَارُونُ وَأَطْعَمَهُ السَّمَّ فَتُوُفِّيَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) .
المصدر : (البحار : ج48، ص145، عن كتاب النجوم.)