شاء الله عزوجل أن تشهد هذه المرحلة التاريخية؛ أعني السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر والبدايات الأولى من القرن السادس عشر، أي في عهد السلطان بايزيد الثاني، عدَّة تغييراتٍ جذريَّةٍ في خريطة العالم السياسية، فظهرت قوى عالمية جديدة، وتضاءلت قوى أخرى، وكان لكلِّ هذا تأثيرٌ مباشرٌ على مستقبل الدولة العثمانية، وكان من هذه التغييرات ظهور إمبراطوريَّات كبرى كان لها تأثيرٌ كبيرٌ على مجريات الأحداث العالمية؛ مثل إمبراطوريات إسبانيا، والبرتغال، وروسيا، والنمسا، والصفويين بإيران، كما تطوَّرت أوروبا الغربية علميًّا واقتصاديًّا بشكلٍ لافت ممَّا أدَّى إلى نموِّ إنجلترا وفرنسا لاحقًا بصورةٍ مؤثِّرة، وصاحَب هذا التضخُّم لهذه الإمبراطوريات أفول لنجوم إمبراطورياتٍ أخرى؛ كالمجر، والبندقية، وإمبراطورية البابا نفسه! لا شَكَّ أن هذه التطوُّرات كان لها أثرٌ كبيرٌ على الدولة العثمانية، التي شهدت بدورها في مطلع القرن السادس عشر نموًّا مذهلًا في قوَّتها، ممَّا جعلها في منافسةٍ بارزةٍ لهذه القوى الجديدة التي ظهرت، وفي هذا المقال سنأخذ فكرةً عن التطور العلمي والاقتصادي لأوروبا الغربية.
التطور العلمي والاقتصادي لأوروبا الغربية:
شهد القرن الخامس عشر نهضةً علميَّةً أوروبِّيَّةً حقيقيَّة، وخاصَّةً في إيطاليا وفرنسا، ثم في إنجلترا وبقيَّة دول غرب أوروبا، وكان لاختراع الطباعة أثرٌ كبيرٌ في انتشار هذه النهضة، وشمولها لطوائف كبيرة من الشعوب الأوروبية، مما رفع أسهم هذه الدول بشكلٍ لافت.
اخترع المهندس الألماني جوتنبرج Gutenberg آلة الطباعة في الأربعينيَّات من القرن الخامس عشر، في مدينة ماينز Mainz بألمانيا[1]، ثم ما لبثت أن انتقلت من ماينز إلى عدَّة مدنٍ أوروبِّيَّةٍ بشكلٍ سريع[2]. يرى بعضهم أنَّ اختراع جوتنبرج للحروف المتحرِّكة في آلة الطباعة هو أهمُّ اختراعٍ في تاريخ البشريَّة[3].
في عام 1450م كانت الكتب في أوروبَّا كلِّها مكتوبةً بخطِّ اليد، وتُعدُّ بالآلاف القليلة، ولكن بعد اختراع آلة الطباعة -وفي عام 1500م- صارت معظم الكتب تُطبع آليًّا، وصار تعدادها بالملايين[4].
كانت أوَّل المدن التي استقبلت آلة الطباعة بعد ماينز مدينة كولون Cologne الألمانيَّة عام 1464م، ثم بازل Basel بسويسرا عام 1466م، ثم انتقلت إلى المدن الإيطاليَّة: روما Rome عام 1467م، ثم البندقية Venice عام 1469م، ثم في عام 1470م ظهرت آلات الطباعة في باريس Paris بفرنسا، ونورمبرج Nuremberg بألمانيا، وأوتراخت Utrecht بهولندا، ثم في عام 1471م دخلت الطباعة عدَّة مدنٍ إيطاليَّةٍ دفعةً واحدة، وهي مدن ميلانو Milan، ونابولي Naples، وفلورنسا Florence، وعندما جاء عام 1480م كانت محلَّات الطباعة موجودةً في أكثر من مائة مدينةٍ أوروبِّيَّة، منها سبعٌ وأربعون مطبعةً في إيطاليا وحدها[5].
للأسف في ظلِّ هذا النشاط العلمي العظيم في أوروبا صدرت فتوى مريضة في الدولة العثمانية حذَّرت من استعمال المطبعة بدعوى أنَّها قد تُؤدِّي إلى تحريف القرآن الكريم أو الكتب الدينيَّة، وبسبب هذه الفتوى أصدر بايزيد الثاني فرمانًا عام 1485م بمنع دخول المطبعة إلى الدولة العثمانيَّة، وعندما استأذن اليهود في إدخالها للحفاظ على تراثهم الديني سمح بذلك عام 1494م شريطة ألا تُطْبَع بها كتبٌ باللغة العربيَّة أو التركيَّة، وأن يُكتفى بالطباعة باللغة العبريَّة فقط[6][7]! وعلى نهج بايزيد الثاني سار السلاطين العثمانيُّون ما يقرب من ثلاثمائة عام؛ حيث ظلَّ هذا المنع مستمرًّا إلى أن أفتى شيخ الإسلام عبد الله أفندي بجواز استعمال آلة الطباعة، وكان ذلك في عام 1716م[8]، ولم تستخدم الدولة العثمانية المطبعة إلَّا في عام 1727م[9]؛ أي بعد اختراعها بما يقرب من ثلاثة قرونٍ كاملة! وللقارئ أن يتخيَّل حجم الفجوة العلميَّة الناتجة عن مثل هذا الخطأ الفادح!
تزامنت النهضة العلمية الأوروبِّيَّة مع تدفُّق الأموال الغزيرة على غرب القارَّة كلِّه نتيجة تركُّز التجارة العالمية فيه، وخاصَّةً التجارة القادمة من الشرق الأقصى، كالتوابل والحرير والبارود، ونتيجة اكتشاف العالم الجديد بكنوزه وثرواته ومناجمه.
وصاحب هذا الثراء نهضة صناعية كبرى، كان لها مردود على صناعة السلاح والأساطيل البحرية، وكل هذا صبَّ في تضخم القوى الأوروبية، كما نشطت تجارة العبيد، واستُعْبِدت شعوبٌ إفريقيَّةٌ بكاملها، وأسهم هؤلاء الأفارقة في بناء الصروح الاقتصادية الكبرى في أوروبا وأميركا الشمالية، وكان لكلِّ هذا أثرٌ مباشرٌ على الأوضاع في الدولة العثمانية[10].
[1] Winckler, Paul A.: Reader in the History of Books and Printing, Information Handling Services, Englewood, Colorado, USA, 1983., p. 266.
[2] Drees, Clayton J.: The Late Medieval Age of Crisis and Renewal, 1300-1500, Greenwood press, Westport, CT, USA, 2001., p. 205.
[3] Crompton, Samuel Willard: The Printing Press: Transforming Power of Technology, Chelsea House Publishers, philadelphia, PA, USA, 2004., p. 18.
[4] Man, 2002, p. 305.
[5] Howard, Nicole: The Book: The Life Story of a Technology, Greenwood Publishing Group, Westport, CT, USA, 2005., pp. 45-46.
[6] Lewis, 1995, p. 268.
[7] صابات، خليل: تاريخ الطباعة في الشرق العربي، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، 1966م.الصفحات 23، 24.
[8] الطناحي، محمود محمد: مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي مع محاضرة عن التصحيف والتحريف، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1984م.صفحة 28.
[9] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. 236.
[10] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 357- 359.