يتزايد الطلب على المعادن باستمرار نتيجة النمو الاقتصادي والعمراني والتزايد السكاني، لكونها عنصراً رئيساً في التقنيات والصناعات الحديثة. لكن أوجه نشاط التعدين المستخدمة حالياً ذات آثار سلبية على البيئة وصحة الإنسان ووجوده. فهل سيتمكَّن العلماء في المستقبل من اكتشاف تقنية مبتكرة لاستخدام البيولوجيا التركيبية وهندسة النباتات وتحفيزها بحيث تصبح قادرة على


إنتاج المعادن بشكل مستدام؟

تحتوي التربة على معادن كثيرة تستعملها النباتات كعناصر غذائية طوال دورة حياتها من أجل نموها. ومن المعادن الضرورية لدورة نموها هذه: الفوسفور، والبوتاسيوم، والكالسيوم، والكبريت، والمغنسيوم، والنحاس، والزنك، والحديد، والمنغنيز، والموليبدنوم، والبورون، والنيكل، والكادميوم، والكوبالت.


امتصاص المعادن

تمتص جذور النبات الممتدة في باطن الأرض وأعماقها الماء والمواد المغذِّية والمعادن من التربة، لتنتقل بعد ذلك إلى جميع أجزاء النبات بما فيها الأوراق عن طريق الساق. وتتفاوت قدرة الامتصاص هذه من نوعٍ معيَّن من النبات وآخر. فلبعضها قدرة كبيرة على امتصاص وتجميع المعادن في كتلته البيولوجية، حيث تتراكم معادن معيَّنة في الأنسجة الحية إلى مستويات أكبر من المعتاد بالنسبة لغيره من النباتات التي تنمو في تربة مماثلة.
تفتح هذه الخاصية باباً علمياً في التنقيب عن أنواع النبات الملائمة لاستخراج المعادن، لتكون مصدراً بديلاً لطرق التعدين التقليدية ذات الأثر السلبي على البيئة. وقد تكون النباتات التي تقوم بتركيز النيكل في أنسجتها، مصدراً واعداً في هذه العملية.


نباتات تخزّن النيكل

إن أنواع النباتات المحبة للنيكل كثيرة، وتنمو في التربة الغنية بهذا المعدن، حيث تمتصه بشراهة، ومن ثم تخزنه. علماً أن التربة الغنية بالنيكل بتركيزات عالية غير مناسبة لنمو معظم النباتات، حيث يعمل النيكل على تثبيط نمو النبات، ويسهم في حدوث اضطرابات في العمليات البيولوجية والكيميائية التي تحدث داخل النبات مثل التمثيل الغذائي والبناء الضوئي، ويسبب تسمم وموت النبات. لكن هذه الأنواع من النباتات توجد عندها مستويات عالية جداً من مقاومة النيكل بتركيزات عالية.
وهناك عدد من الدراسات العلمية التي تشير إلى أن النيكل الذي أطلقته البراكين في الغلاف الجوي، هو المسؤول عن القضاء على الحياة النباتية الأسترالية، قبل موت الحيوانات والأنواع البحرية. ويسمى هذا الانقراض بانقراض العصر البرمي الثلاثي أو الموت العظيم.
لقد تم تسجيل مئات الأنواع من النباتات المحبة للنيكل في جميع أنحاء العالم، وما زالت الاكتشافات الجديدة تتواصل بوتيرة متسارعة من أجل اكتشاف أنواع جديدة منه، باستخدام تقنية التصوير بالأشعة السينية الدقيقة. وواحدة من أنواع الأشجار المحبة للنيكل شجرة "بيسناندرا كوميناتا" التي يتراكم النيكل فيها بنسبة تصل إلى %25 في لبنها، وتتميَّز باللونين الأزرق والأخضر بسبب مركبات النيكل. ويعود اكتشاف هذه الشجرة إلى أكثر من أربعين سنة في الغابات المطيرة في كاليدونيا الجديدة. وللنيكل استخدامات عديدة في كثير من الصناعات، منها تصنيع الفولاذ المقاوم للصدأ، ويُعد عنصراً أساسياً في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية.
درس العلماء هذه النباتات، وتم طرح عديد من الفرضيات العلمية لشرح تطورها، منها: أنها تستخدم النيكل في الدفاع وحماية نفسها من الحشرات الضارة التي تمضغ الأوراق، إذ إن تراكم النيكل سام لمعظم الحشرات العشبية. وتذهب فرضية أخرى إلى أن التراكم المفرط للنيكل له تأثيرات مضادة للفطريات، كما أنه يقلل نمو الأنواع المنافسة من النباتات الأخرى. ومع ذلك، لا يوجد إجماع علمي يفسِّر ذلك حتى الآن. وقد يكون التراكم المفرط للنيكل قد تطوَّر لأسباب مختلفة في سلالات مختلفة في المملكة النباتية.
ومع الأسف الشديد، فإن النباتات ذات التراكم المفرط من النيكل مهدَّدة بالانقراض، بسبب ندرتها على مستوى العالم، وتتأثر بشدة بالعناصر المدمّرة للبيئة وأوجه النشاط البشرية مثل: التعدين، وتطوير الغابات، والحرائق، والتوسع الحضري.


مصانع طبيعية

إضافة إلى أن عملية التعدين المستخدمة حالياً هي ذات آثار سلبية على صحة الإنسان والبيئة، فهي تهدِّد التنوُّع البيولوجي. كما أن الشركات التي تعمل في مجال التعدين تستخدم أفران الصهر الذي يستهلك كثيراً من الطاقة. لكن النباتات تقوم بهذه العملية الطبيعية، أي امتصاص المعدن من التربة وتجميعه بنسب عالية، بالاعتماد على الطاقة الشمسية والتفاعلات الكيميائية التي تحدث داخلها.
لذلك، يعمل الباحثون على دراسة هذه الأنواع من النباتات وسبب تطوُّرها بهذه الطريقة التي تقوم بها في امتصاص أنواع محدَّدة من المعادن بشراهة. وسوف تساعد طريقة عمل هذه النباتات على هندسة نباتات معيَّنة لتكون قادرة على استهداف المعادن الثمينة مثل الفضة والذهب، خاصة وأن علم البيولوجيا التركيبية يشهد تقدماً كبيراً، ومن خلاله يمكن بناء أنظمة بيولوجية غير موجودة في الطبيعية. كما من الممكن في المستقبل البعيد وجود مصانع خضراء وصديقة للبيئة تحاكي طريقة عمل النباتات بدلاً من أفران صهر المعادن.


نباتات تستخرج الذهب

من جهة أخرى، طوّر باحثون في مختبر التكنولوجيا والهندسة بجامعة ماسي في نيوزيلندا، عملية تحفيز نبات معروف باسم الخردل الهندي ليكون محباً للذهب، واستخدامه في الحصول على الذهب. فزرعوه في الماء المحتوي على المغذيات إضافة إلى كلوريد الذهب. وتم استخدام الإنزيمات لتحطيم الخلايا النباتية لاستخراج الذهب. وتمكَّن هؤلاء بالفعل من الحصول على ما يعادل جراماً واحداً من الذهب من عشرة كيلوجرامات من النباتات المجففة. وعلى الرغم من أن الكمية قليلة جداً وغير مفيدة تجارياً في الوقت الحالي، إلا أن مثل هذه التجارب سوف تساعد في تطوير العملية في المستقبل لتكون أكفأ وأجدى اقتصادياً، مما قد يكون له انعكاسات إيجابية على صعيد التعدين، وخاصة في مجال المعادن الثمينة.
إضافة إلى ذلك، فإن جسيمات الذهب المستخرجة من نبات الخردل الهندي تقع على مستوى النانو، وتسمى جسيمات الذهب النانوية (AuNPs). وكونها جسيمات نانوية يجعلها تتميز بخصائص استثنائية غير موجودة إذا كانت شذرات الذهب كبيرة الحجم. فالذهب عنصر خامل وغير نشط كيميائياً، لكن جسيمات الذهب النانوية تكون نشطة للغاية في التفاعلات الكيميائية، ولها مستقبل واعد في عديد من التطبيقات. ففي الطب مثلاً، تُعدُّ جسيمات الذهب النانوية واعدة في علاج السرطان. والحصول على جسيمات الذهب النانوية في الوقت الحالي يتطلب عديداً من التفاعلات الكيميائية المكلفة والملوثة للبيئة، ولذا، فإن زراعة النباتات هي الأفضل بيئياً للحصول على هذه المادة الثمينة.
إن دراسة هذه النباتات وفهمها سوف يساعد العلماء في معالجتها وهندستها وتحفيزها على امتصاص المعادن، والاستفادة منها في استخدامات كثيرة، منها: مساعدتها في النمو في غير مواطنها مثل أكوام النفايات الترابية الصادرة عن المناجم، وتنظيف التربة من التلوث والعناصر السامة، إضافة إلى حصاد المعادن من نباتات أخرى واستخدامها في التطبيقات الصناعية، وخاصة المعادن النادرة والثمينة. ولاحقاً، قد يتوسع استخدامها إلى ما هو أبعد من ذلك.
ففي نهاية المطاف، سوف تكون عندنا محاصيل معدنية مثل النيكل والذهب، وسنعرف حينها أن النباتات ليست مقتصرة على إنتاج المحاصيل الزراعية فقط، بل تنتج لنا المحاصيل المعدنية أيضاً!