أين ذهبتم من دوني؟؟؟ أين تقضون الاجازة من دوني؟؟
أين ذهبتم من دوني؟؟؟ أين تقضون الاجازة من دوني؟؟
مساؤكم طيب أيها الأصدقاء .. ليس ثمة ملاحظات كثيرة هذه المرة .. فقط أود أن أشرح ما حصل قبل نشر النص في صورته الأخيرة .. أزلت كل ما يشير إلى أن البطل يعاني من مرض سيودي به إلى الموت .. كما استبعدت مشاركة ورده علي لأنها لا تتفق مع النص فمع ما نشرته صديقتنا ورده من تسلسل مشاركتها بعد مشاركة ساد بيرد وميشال فوكو لم أجد الترابط الذي يسمح بإدخال المشاركة في النص .. أجهدت نفسي رغبة في عدم إقصاء هذه الروعة من النص دون جدوى .. المشاركة يا ورده لم تلفت إلى المشاركات التي سبقتك .. متأكد أن السبب هو القراءة المستعجلة للمشاركات التي سبقتك .. أرجو الالتفات إلى ذلك في المستقبل لأن استبعاد أية مشاركة منك أو من بقية الأصدقاء هي خسارة , كما أود أن أثني على المداخلة الأخيرة للصديق تراتيل الطين , كانت مناورة ذكية واستدراك رائع لما فات بقية الأصدقاء .. أشكرك جداً على هذه الروعة صديقي .. غير أن التصريح بكون شخصية القاصّة أو الروائية هي ذاتها البطلة لا تتفق مع ما جاء في المشاركات التي تلي هذه المداخلة في الترتيب , كما أن ذلك قد يضر في ركن الرؤية في الرواية ذلك أن هذا الركن يعتمد على العالم الافتراضي وتحقيق اللقاء الواقعي سيهدم هذا الركن , وهو ما دفعني لبتر هذا المعطى النصي في مشاركتك عزيزي تراتيل , كما أنني أضفت مشاركتي في آخر النص كما سترون .. أما عن بقية المشاركات فقد تدخلت فيها بشكل بسيط جداً , هي مشاركات جميلة تم اعتمادها في النص , أشكركم جميعاً على هذه الروعة والجمال .. لكم مني كل الود
اعانك الله بالفعل استاذ مثابر ..... فقط ملاحظة:ما ضرك يعني لو ان البطل مريض مثل ذلك المرض أليس كل شيء ممكن وغير ممكن في الوقت نفسه أم تنوي قطع رزق الاطباء من اين يعيشون ان لم يكن هناك مرضى متأزم وضعهم ()
لدي مشاكل في تحميل النص .. حتى مع كون خدمة النت قوية .. لا أعلم السبب .. والأمر منحصر في المنتدى هنا فقط .. حاولت حتى هذه اللحظة ربما للمرة الــ 20 .. إنتظروني ريثما يأذن الله
حسنا لا بأس لا تدع الامر ياخذ من اعصابك كم أنا مستاءة من هذا الخبر
:123: ومددت الاجازة :123:
النص في صورته الأخيرة .. تفضلوا من بعده .. إليكم أصدقائي :
قد تبدو الأشياء في حقيقتها على عكس ما نتصور تماماً ، العالم كمـا نتصوره قـد يخدعنا بشكل لا يمكن تصديقه
يوم آخر .. والشمس تمنح أرصدة مجانية من أشعتها , كم أن الأشياء المجانية تبعث فينا نشوة الحصول عليها , ما زلت ذاك الطفل الذي تغريه الحلوى التي تحمل داخلها هدية ما , لا أعلم ما سر هذا الولع بتلك الأشياء مع أنها مجانية حقاً , يبدو لي مرة أخرى أن الحصول عليها أجدى من التفلسف بشأنها , وهكذا أقضي الصباح متأملاً تحت سقف الشمس , ويخطر في بالي ما يمكن أن تحمله التجربة الجديدة التي يحملها يومي هذا , في المساء سأكون على موعد مع ما يدعى الأنترنت , هو عالم كبير وواسع كما يقال .
كان الأسبوع المنصرم مجدياً في تعلمي ارتياد هذا العالم الجديد جداً , ما يغريني فيه أنه يبدو جديداً كلياً , ترى ـ وتتناسل الأفكار ـ من هم أولئك الذين يربضون خلف شاشاتهم ؟ يقتلني الفضول عن كل تفاصيلهم , والأهم من ذلك هي دهشتي عن متى تكوّن هذا العالم ؟ !!! أتراني كنت خارج العالم لهذه الدرجة ؟!!
الشاي والسكائر رفيقاي في ارتيادي المسائي لعالم النت , وأنا مهتم بالبحث عن كل ما يخص الفلسفة ( الظاهراتية ) هذه الليلة بالذات , وجدت ضالتي في منتدى عربي , وشيئاً فشيئاً وجدت طريقي بين رواده الدائمين , كان أنسب اسم لي بينهم هو ( ذاكرة الرمل (
حين نكون داخل الأشياء المعنية , تلك التي نقصدها , فإن أبعد ما نتصور حدوثه يحدث غالباً , كانت ليلة أخرى لا شيء فيها خارج الاعتياد , وأنا أتنقل بين صفحات المنتدى بشغف المعرفة والاستمتاع , هناك حيث صدمني العنوان ( لا شيء يشبه .. إنه الاشتباه فقط ) !! كان نصاً أدبياً , ومع أن سنوات البكالوريوس التي قضيتها في كلية القانون جامعة بغداد كانت مضنية جداً للدرجة التي سلبتني الوقت الكافي لمتابعة شغفي بالأدب , إلا إنها لم تقطع صلتي بهذا العالم الساحر , وأنا أتابع النص كان يبدو لي أنه يحمل شيئاً غير معتاد , عجباً كيف تمّ لكاتبته إنتاجه بهذه الصورة ؟ كان نصاً بحق , علقتُ عليه : (( هو يشبه الاشتباه إذن ....... نحن نشبهنا )) كان الفضول ينتابني عن كاتبة النص , بدت لي شخصية لا نصادفها كثيراً في حياتنا , كان افتراضها في المنتدى معنوناً بــ ( آية من سورة .......... ) , كنت أثق بذكائي إذ أرسلت لها تحية نصها : ( مساؤك ضجيج .. ترى من أية سورة ؟ ... ليس في القرآن سورة الاختلاف أيتها اللاتشبهين )
وبدا أن ثقتي بذكائي لاستدراجها لسد فراغات فضولي الشديد نحوها قد أوشكت على التلاشي بعد أن مرت الأيام دون ورود إجابة منها , غير أن مساء يوم الجمعة حمل معه إجابتها : ( مساؤك سكينة .. يبدو أنك تحب الوجبات السريعة .. سأدعوك على واحدة مجانية .. لو كلفت نفسك تأويل الفراغ الذي تملؤه النقاط .. الاستفهام محض مخاض .. و لك أن تعرف قيمة الإجابة سيدي .. ربما في فرصة أخرى .. أو حياة أخرى ربما .... ربما (
كانت إجابة صادمة .. كأنها تعرفني .. كيف تعرف ولعي بالأشياء المجانية التي تأتي منقادة .. كيف عرفت جزعي من البحث عن الإجابة ؟!! , وليومين كنت ألملم الإجابة المناسبة لهذه الآنسة أو ربما السيدة الذكية , فالحق أنني لا أعرف عنها شيئاً سوى أنها ذكية للدرجة التي توقظ فيّ مكامن الحذر
لا أعرف عنها سوى أنها وجه لا يشبه شيئاً .. كنت سابقاً عارفاً بطقوس الرسم حد الثمالة إلا إنني الآن أيقنت أن يدي لم تعدّ تتذكر تلك الطقوس حتى امتد العجز إلى رأسي فلم يعد يملك الأفق ليبدع فيه رسماً ... حاولت إلا إنني وجدت رأسي تدور فيه حلقة مفرغة عن كل نقاط الالتقاء فيها .. ولأول مرة أعرف مدى التيه الذي أصبت به .. لا بل مرضت به وجُعلت أدمنه .. أمد خطوطاً مستقيمة فتجيء منزهة عن استقامتها ... إنها عدوى الاشتباه سرت إليّ ... أي سحر تملّك خاطري من تلك الإجابة حتى أوقف الزمن فيه ؟؟؟
لم أحتمل ذلك فعاودت الكتابة لعلها ترد شيئاً مما اقفها به جمالاً أو ترهباً أو لعلها جملة تساؤلات تخرجني من هذا التيه تعيد لي زمني الذي فقدته عن بعد أو عن قرب لا فرق المهم أن زمني سيرجع لي .... كتبت لها بانتظار أن تبوح إجابتها بوجه يتعلق بخطوطي .. برتوشي .. ولربما سأتخذه وطناً وأنا البارع في رسم الأوطان أينما شئت ... انتظرت دون وطن طويلاً ... فأفنيت قلمي وزمني التيه ورأسي العاج بخطوطه المستقيمة المنحنية .. دون رد بقيت أعدّ أصابعي ويا لدهشة صرت أخطئ بعدّها ... رباااااااااااااه أيّ وقت هذا الذي يمرّ عليّ فأخطئ عدّ أصابعي ؟؟؟؟؟
واستدركت في الحال إن ما يجعلنا نُخطئ في العد هو طول الانتظار... والوله الذي ينتابنا حينما يحل طارئ على حياتنا ... كنت أعد الكلمات للرد بها على هذا الطارئ الذي أربكني في حال لو أنه أطل عليّ لكنني تلعثمت ولم أعرف ما تفعل أصابعي التي فقدت التركيز حين انبثقت لي علامة التنبيه بقدوم رسالة تشير إلى أن أحدهم قد ترك لي ما قد يكون فيه إرضاءٌ لفضولي واستخراجٌ لرأسي الذي تركتهُ وهو منشغل في الدوران في تلك الحلقة المفرغة فقد تعبت وأنا أنتظر وأعد وأخطئ بالعد ... واستدركت أيضاً إن ما يأتينا بعد الانتظار تكون له لذة خاصة ... نتذوقها حينما نفاجأ بقدوم من أرهقنا انتظارهم
تخليت عن حذري وذهبت إلى أعلى الصفحة وضغطت على ذلك الضوء الأحمر المنبثق من أسفل كلمة التنبيهات فإذا بها رسالة زائر ... لا أستطيع وصف كم هو طول الوقت المستقطع من يومي في تلك الهنيهات التي تفصل بين إرضاء فضولي وبين فتح الصفحة لمعرفة ما قد حملته لي هذه التنبيهة هل هي بصيص من أمل إطلالة لهذه الصورة التي أربكت فرشاتي وحيرتها ولم تعد تعرف كيف تنسق خطوطي التي اعوجت من فرط سحر هذا الشيء الذي
لا يشبه ... وهو من الاشتباه فقط
أم الخوف من أن تكون التنبيهة لاشتباه آخر لا يمت للموضوع بصلة ...
لكن الشعور بتلك اللذة ...لا ينفي أبداً حقيقة ذلك الإرهاق..........
أحسست بالشلل ، إنها تستفزني لملء الفراغ ....إنها تختبرني ....تطرح سؤالها بهيئة الإجابة ....وترمي كرة الكشف عن الآخر في ملعب لوحة مفاتيحي ....
تطالبني ببطاقة تعريف بطريقة مهذبة ....ولا ألومها ...فأنا من قرع الشبّاك ....فلمَ احتجّ على فتح الباب ؟
و رحت أفكر ............ بمَ عليَّ أن أجيب على السؤال الذي طرَحتُه ؟
ولم أدرِ أيهما كان يطغى في تلكم الأثناء ، إحساس بالندم ، أم تشوقٌ لما سيأتي ؟ وعندها قررت أن لا أُبالي بما سيقع أثناء محاولتي فتح الباب لها لكن حتماً أدركت أنه لا مجال للكلام ،، والذي سيقع لابد منه. ولا مفر لما صدر مني سابقاً
انتابني شعور مريض بأن أُبرر لها ما فعلته وأن أقول بأني كنت مريضاً وراودتني أفكار جنونية وصرت لا أرى ولا أسمع ولا أعرف ماذا جرى ، هل ستتقبل ما سأقوله
أم تفر هاربة كالعادة ،، يا إلهي احترت بهذا ومن أين سأبدأ وهل تنتهي القصة على خير أم هناك حلقات متواصلة من العذاب ومما سأعانيه مستقبلاً ؟
جلست قليلاً لأفكر قبل أن تمتد يدي لفتح دفاتري ،،رويداً عانقت أفكاري حلول وسطية لابد منها .. ولازال جرس كلماتِها يدق في أذني بجنون وأسمع نداءها !..
هل مللت مني يا هذا ؟؟ أما زلت تفكر في حكاية حتى تلقيها إلي ، وعندما سمعت كلماتها ترن في عقلي ،، أسرعت وفتحت الجهاز .
شدني الأمر كثيراً وزاد تعلقي وشوقي لمعرفة ما سوف أكتشفه عن هذه الإنسانة المبهمة القابعة في الطرف الآخر من العالم .... فعلى الرغم من بعد المسافات التي بيننا ... إلا أنها تقبع أمامي ليس بيني وبينها إلا شاشة زجاجية ملونة ...
في أحيان ٍكثيرة يشدنا الآخرون ممن تسحرنا عقولهم وأناملهم وقوة قدرتهم على التعبير عما يجول في خواطرهم ... فنبدأ برسم صورهم بين حدقات العيون التي تتأملهم بشغف ... فأخذت أطرح على نفسي أسئلة كنت أتمنى أن أجد إجابة لها ... كيف تكون يا ترى ... هل هي طويلةٌ أم قصيرة ؟؟؟ ... هل هي جميلةٌ أم بشعة ؟؟؟ ... ما سرُ هذا الذكاء الذي شدني إليها وأنا من أنا وأحسبني لا أتأثر بمن يأتي أو يذهب !!! ... وأتعبتني كثرة التفكير بكيفية الرد على سؤالها الذي أحرجني ولم أعتد على الهزيمة أمام أحد لو طرح عليَّ سؤال !!! ...
كنتُ أخالني لا أهزم ...
استللت سيكارتي وأشعلت نارها وأخذت أتجول في أركان غرفتي عليّ أجد ما يوصلني إلى ردٍ يشفي غروري ،،، ويفحم آنسة / سيدة الشاشة الافتراضية ... عندها تعالت من فؤادي ضحكة معلولة..... أنى لك بإفحامها يا مغرور ؟
حقاً كيف لي بإفحامها وهي من أحرقتني بنيران الشوق لمعرفة من تكون
أنا ما عدت أنا..... أصبحتُ رماداً يتطاير كتطاير الحروف
قد ضيعتُ أرقامي وضيعتُ الحروف التي أخذتها هي مذ جعلت حتى صمتها كلام
لكن يجب أن أعود للمواجهة فغروري لا يستسلم لغرورها ، واستمرت تساؤلاتي عنها..حتى أني أهملتُ قراءة الكتب الأخرى..كأن هذا العالم هو الكتاب الوحيد المفتوح أمام عيني ، وصرتُ أكثر تشوقاً لما ستكتبهُ تلكَ المرأة من أسئلة في الأيام القادمة على تلك الصفحاتِ..خلتُ أنها من كوكبٍ يرأسهُ القلم..حيث كلما رأيتها قتلني فضولي لحروفها الماسية..كان في عقلي كماً هائلاً من الأسئلة وخيالاً أرهقني عن كيف خُلق كفاها
اللتان تَشعان بالنور المُتخفي بين كلماتها في طيات الرسائل..سؤالها رمى بي في متاهةٍ لا أبوابَ لها..
فجأة سمعتُ صوتاً قادماً من الخارج , صوتاً يشبهُ ألحان كلماتها التي لا تفارقُ مسامعي..
فتحتُ نافذة غرفتي وإذا بأمطارٍ تهطل بغزارة..ذكرّني هذا المشهد بحروفها التي أمطرتها على أرض ذلكَ العالم الافتراضي..في تلك الأثناء انتابني شعور بالحيرة كيف أجيبها؟؟..كيف أُبحر في مكامن أسرارها اللامتناهية؟..جلستُ لأفكر وبيدي كوب قهوتي المعتاد أُردد بيني وبين نفسي..الآن حان المساء سأجيبها غداً..عندما تطلُ الشمس بوجهها علينا..لكن يا ترى هل جوابي سيكون مُقنعاً لأسئلتها الذكية؟؟ يا ربّ السماء!! إلى متى سيبقى هذا التردد الذي يسكنُ صميمي؟؟؟
لم أشأ الدخول إلى رأسي كي لا أكوّن حلقة مفرغة أخرى فما زادت حروفها الرأس إلا تكوّراً .. أشعلت سيكارتي سحبت منها نفساً عميقاً خزنته في رئتي ما أستطيع من كتم الأنفاس ثم أطلقته دفعة واحدة حتى كاد وجعي ينطلق إثره .. استحضرت طقوسي كاملة لم أنتقص شيئاً منها سوى اللعب بأشباه الحروف والتكلم بلغة رامزة تخليت عنها فليس لي أن أبني لغة رامزة فالأمر لا يحتمل رموزاً أخرى .... انطلقت مع حلقة الدخان الكثيف المنطلق من فمي باتجاه حروفها وهالني ما قرأت ... إذ وجدت كلمات هي بعض حدود لخارطة تتماهى بين رأسين لأفق مستقيم تارة ليوازي انحناءه تارة أخرى ( ليس للألق أن ينطفئ لحظة عندما تنقاد وجوهنا لما سيتم نيله في النهاية .... الوجه ليس إلا مساحة واسعة من التساؤلات .. تنشئ وطناً ... لا علاقة بين تقاسيمه .. يُرغم على التعايش مع بعضه قسراً... مع أنها ليست على طرفي نقيض ... وجوهنا لا نمتلكها بإرادتنا ولذا فنحن مرغمين ألا نزيح عنها غبارها فتظهر وكأنها دخيلة علينا أو أننا فشلنا باختيارها .. إنها لا تمثلنا لأنها غيبوبة جاثمة على رؤوسنا ( ...
هالني ما قرأته ... حروفها لم تلق مني جواباً .. مذهلة هي .. بحيث أنني تركت سيكارتي تعبث بأصابعي حتى توارت بينها ورجوت للحظة لو أني ألقي القبض على قلمها وأحاكمه على هذا التيه الذي أغرقني فيه دون سابق معرفة أو إنذار حتى بل قذفني فيه دفعة واحدة لم ينتظرني حتى ألملم رأسي الذي بعثره وحيه الأول ........
هذا أنـا مبعثرٌ عقلي على أرصفة الذكرى, كالرماد ..هي لم تتركْ لي مجالاً للمواجهة ولم أملك خياراً للإجابة ..
أُبصر كل الأشياء من حولي..سيكارتي التي تنتظر تلك اليد لتُطفئها, أوراقي المُتعطشة للإجابة وقلمي الصامت الذي جعلني أستبدلهُ بقلمٍ آخر عسى أن ينطق بحضرتها..تمنيتُ لو أن قلمها يكون ضيفاً عندي ولو لخمس دقائق لكي أُشبع أوراقي وأُخبر قلمي الأصم عنه..على أية حال,أتى الصباح التالي مُبعثراً خيوط الشمس هنا وهناك..فتحتُ عيني وكان أول الصبح أفكار,لهفة و ضياع بسبب ذات القلم الذي لا يمتلك الإجابة الشجاعة .. كيف أداوي هذا القلم وأنقذهُ من ضياعهِ وكيف أغرسُ بذور الذكاء والفطنة بعقله .. بل كيف سأقنعهُ بأن يتمهل ولا يتهور بالحديث معها؟؟
حاولت أن ألملم شتاتي المبعثر وأستجمع قواي التي خارت وأنا تسوقني هواجسي وأفكاري ... فجلست مستقيماً على الكرسي وأطلقت زفرة قوية من نفسي الذي حبسته بعد أن سحبته من سيكارتي للمرة الثانية والتي ذابت بين أصابعي وتحولت إلى رماد دون أن أعي وأنا مشدوه بين لمسات حروفها .... عليَّ أن أهدأ لأواجه تلك المخلوقة ... مددت يدي إلى حاسوبي لأبحث عنها وأفاصلها .... ولكنني بعد كل هذا العناء وتلك الأنفاس المقطوعة التي يملؤها دخان السكائر ... لم أجدها وتمنيت لو أنها كانت حاضرة لأجد عندها ما قد يبلُ رمقي ويروي تعطشي ولهفتي لمعرفة ما يجول في خاطرها وما تخبئ عنا من دهاء حبر قلمها الذي يمكر بي وبالآخرين فلازالت تلك العبارات التي تطلقها عنواناً لمواضيعها تشدني ....!!!وبقوة قررت في النهاية أن أمارس طقوسي المفضلة هرباً....غادرت غرفتي التي خلت أنها امتلأتْ بها حد الفوضى ...قررت أن أتطهر من استعمارها لأطول فترة ممكنة ...تناولت جهاز التحكم و شغلت التلفاز و أنا في طريقي إلى الحمام ...سمعتُ صوت فيروز يصدح ُ من مكان ما حين فتحتُ النافذة .......أنصتُّ محاولاً أن أعرف ماذا كانت تقول تلك الشحرورة الصباحية ....إنها حتما ً (يا طير الوروار )....كعادتها ترسل هذه الملاك سلاماً لأحبة ٍ بعيدين ....تنهدتُ لا شعورياً و رششت وجهي بماء الحنفية بكل العنف و الفوضى الممكنين ...كأن شيئاً في أعماقي كان يصرخُ (أفِقْ (......
مررت بالتلفاز مرة أخرى و أنا في الطريق لأعد قهوتي ...لفتت انتباهي مذيعة جميلة لبقة ...عاد دماغي لحظتها إلى سكره : ترى ما هو شكلها ؟....أنيقة كما كلماتها ؟...رشيقة كما قلمها ؟...كدتُ الطم وجهي احتجاجاً على كسر الهدنة ...لكنني هرولت نافضاً أفكاري باتجاه المطبخ ...
بدأت بإعداد قهوتي أملاً مني بأنها ستساعدني على الاستفاقة من عالم "الاشتباه "تساعدني على مسح علامات الاستفهام؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟ والتعجب !!!!!!!!!!!!!!! التي تخيم على رأسي وتملأ كل فراغ ، وعندما انتهيت من إعداد قهوتي حملتها معي إلى غرفة الجلوس محتضناً إياها بشغف ومستنجداً بها كالغريق الذي يتعلق بقشة .. رشفت منها رشفة طويلة
شعرت معها بدفء يملأ قلبي وأحسست بأني بدأت أستفيق من عالم الخيال ، وقررت أن أكمل يومي بشكل اعتيادي مستعيناً بتذكر لحظات الصفاء وراحة البال التي كنت متنعماً بها قبل أن تنبهر عينيّ ببريق كلماتها المتناثرة ..
في الطرف المقابل كنت أجلس أمام حاسوبي أحتضنه بين يدي لكنه أبعد مما كان أي كتاب .. ترى لماذا لا أحتضنه كما لو أنه كتاب ؟ .. هل هو يقيني أنه ليس بصدق ولا إخلاص الكتب ؟ .... كنت أجول بين عالم الأزياء والموضات قبل أن أفرغ عقلي من الشحنات السالبة وأندمج أكثر مع هذا العالم المتسامي في خيالي وفكري فأدخل المنتدى من جديد وهناك خرجت أمامي رسالة تملأ الصفحة كاملة ( المنتدى تحت الصيانة عُدْ بعد أسبوع (
ياااااااااااه صعقتني هذه الصفحة بخروج الإشارة لي بما يحدث في ملتقاي مع هواجسي التي لا أعلم إن كانت حقيقة أم خيال .... انتابني شعور هستيري كالذي يصيب المدمنين حين لا يجدون ما أدمنوا عليه .... ولم أعرف ماذا أفعل .... وقفت أمام المرآة وأخذت نفساً عميقاً بعد أن أحسست بحمق ردة فعلي وانتقادي لذاتي وأخذت أهدئ من روع نفسي ..... ولكني سرعان ما عدت أسأل نفسي ماذا عساي أفعل كل هذه الفترة كيف سأحتمل هذه الأيام الطويلة دون أن أعرف ما قد يحدث في الجانب الآخر من عالمي الافتراضي الذي حبستُ فيه روحي ..... ونسيتُ فيه نفسي وكل من حولي
كنت حائراً جداً.. انتبهت لنفسي وأنا أحدثها عنها :
تجيئين ولن أرحل .. تعبت من ضجيج الليل .. تجيئين وأكتب في مجيئك كل تساؤلاتي - تجيئين وأرسم في عيونك بعض إجاباتي .. لن أرحل .. فقد طال انتظاري للقائك ، وإن لم تجيئي سأحضر وأحمل كلماتي ومنجلي ..
طال انتظاري ولم تأتي – وها أنا أحمل حقيبة الكلمات لأبدأ الرحيل في هدوء أطراف المساء .. كلماتك وتساؤلاتك باتت تلاحقني ، أحاول نسيانها ,لكنها تتأنق كعادتها , تغمرني نشوة بحضورك بعد انتظار , ولكن دون جدوى , أنتِ لن تأتي ... أفكاري مشتتة , وفي سكون ليلتي يظهر القلق بين عينيّ .. وينتابني الحزن .. وأنا اردد لن تأتي .. بدأ النعاس يداعب جفوني وأنتِ تلتئمين مع حزني و... رباه ما هذا الشوق اللامنتهي لرؤية ما ستكتب .. تساورني لهفة مشتهاة لرؤية بصيص قلمك .. ماذا فعلتِ ومن أين جئتِ ؟ كيف أعدتِ لي المساومة مع نفسي كي لا أذوب في سحر ما تكتبين .. كوني أقل سحراً أو ابزغي حتى , فقد مللت النداء الصامت .. أريد موجاً صارخاً .. ابزغي أيتها الغائبة إذ لازلت أقف حائراً أمام كلماتك التي جرت أذيالها إلى حيث لا أدري ...
ومرة أخرى أتأمل ....أحمل الأماني ..ولا أعرف متى عليّ طرحها ...
لا أجد عقلي !! ما لذي دهاني ؟؟ تهت مع حرف و سطر ..
تاهت أفكاري .. حلقتُ مع حرف إلى ....هناك حيث هي ...أحتضن حسرتي مع بياض كلمة ...
إلى متى أقبع هنا انتظاراً .....سأخرج .
************************************************** **************************
كانت الكلمات التي وصلتني منه لا تشبه الكلمات أحسست فيها نهماً يستجدي الإشباع أو ربما رغبات مكبوتة من طفولة حائرة بين الممنوع و اللاممنوع أو ربما يبحث بصدق عما يشرعن له الأفكار ليستطيع أن يغمض عقله وينعم بقيلولة ما بعد الاشتباه , لم أشأ أن أجبه في البداية , وقررت أن لا أستعجل فتح صفحات إدراكي للتطفل لكنني أحسست بشئ غريب ,أتلقى كلمات وكلمات لكنها ليست كهذه , فيها شئ ما يتخطى الاشتباه
كانت كلماتي مختارة بدقة لأجعله يصاب بإحباط أو تخبط من نوع ما لأستطيع اكتشاف كنهه , أو ولعه , ربما بخوض تجارب متاحة عبر العالم الافتراضي لكن بطريقته الفلسفية عندما يوقع الآخرين بحيرة بين الكلمات , لا أنكر أن كلماته بقي صداها يتردد في تجاويف عقلي مع أني حاولت إبعادها تحت ركامات اللاشعور و أردت أن أوحي له بفكرة أو أرسم في ذهنه صورة عكس ما أوقع نصي الأدبي في نفسه لأزيد من إرباكه , كتبتها بصعوبة بالغة ,وراعيت أن لا أدع فيها ثغرة توحي له بمجاراتي لمتواليته العقلية اللاواعية التي اختزنت كماً هائلاً من الرغبات العارمة التي تبحث عن ضوء أخضر لتنطلق مثل شلال منهمر سيحفر في نفسي أثراً ربما يبقى إلى الأبد , أنا أعرف أن حروفي سترميه في غيابت جبّ لن يجد سيّارة يلتقطونه منه لكني لن أدع تماهيه يلقيني ولو بحفرة صغيرة تتعثر بها قدميّ ..
لماذا يراودني شيطان يدفع بي لألعب دوراً لم أتعوده ,,,, لكن ,,, هناك ما يجب أن أكتشفه
فرغم قلة ما تلقيته منه من كلمات ,,,, كان هناك دفقاً هائلاً من أخرى لم يكتبها لكنني أحسستها ....
شبحتُ ببصري تعلقتْ نظراتي بتلك الجملة ( مساؤك ضجيج ) من هذا الذي قرن مسائي بالضجيج أتخيله رائعاً بإدراكه .. سأسحبه إلى فراغاتي ليريح نفسي من ضنك ألآمها سأختار عبارة أخرى .. تبعثرت أصابعي على الحاسوب لتضيف لغزاً آخر .. أيها البعيد المقترن بالقرب سأدعوك إلى مأدبة تغريداتي .. هل ترى أن التشابه يقرن الاشتباه أم تشابهت عليك صورك المتعددة ؟ كم صورة لديك ؟ لا تدّعي أنك لم تشتبه يوماً في طرح التشابه , سأكون ظلك الرمادي الذي يزيح عنك اشتباه التشابه .. كن كما بدأت ضاجاً بمساءاتك المتشابهة لأن سكوني متعلق بأفق سورتي التي اكتنزت آياتها طراوة البلاغة ونشوة المعرفة لا أريد تسويرك بردي لكن اقتحامك غربة كلماتي جعلني أرفع درجة طغياني
أرفعها إلى درجة أخرى لعلها تهديني إلى رأسه الموبوء بامتلاء تام فأملأه فراغاً تاماً ... يا لروعة الانتقال من تمام إلى تمام من نوع آخر .. إنها لعبة أخرى سأمارسها بطواعية معه .. لكن .. أفأستطيع أن أحمل وزر هذا التنقل بين الامتلاء والفراغ ؟؟ أفأجرؤ على أن أكون المسار الذي يوجه وطنه الساكن ؟ هل بإمكاني أن أتكوّر فيه على نحو غير مألوف ؟ .. لم أشأ أن أتكوّر في مخيلته بطريقة توحي بوجه غير وجهي أو على الأقل بفمٍ غير فمي لكنني وجدت نفسي مجبرة على التكوّر عنده إذ إن فيه ما شدني إلى رأسه فرحت أنسج من كلماته خارطة أخرى لوطن آخر ربما سأجعله على الشاشة الزرقاء ضمن خرائط العم كوكل .. .. هي المرة الأولى التي أجد نفسي عاجزة عن إتمام ما قمت به أولاً ... أية لعبة صرت ألعبها معه ؟ حتى غدت هوايتي ... بئست الهواية هي ..
حيرتي كانت تنبع من عمق معيّن أعرفه في ذاتي ... رغم كل ما يتملكني أحب أن أجد من يستفز في داخلي مشاعر لا تعرفها إلا أنثى حتى أنني لا أدرك بالضبط ما هي لكنها تشبه نوم الصباح في لذتها ودغدغة فرو قطتي عندما تحاول إيقاظي لأطعمها , ابتسمت مع نفسي للفكرة .... ربما يحاول دغدغتي ليوقظني حاجة لما يطعم به شعوراً ما هو الآخر , أنا ككل النساء ... أعشق أن يعشقني أحدهم ويتيه في ثنايا سحر الأنوثة الوردي , لن أقع في حبه ... لكنني سأدغدغ شعوره لأدع بعدها المارد يستيقظ في داخله .
هل يراني مجرد حروف يا ترى ؟؟
هل بصمتي أصيبه بالملل ؟؟ ما هي قصص الفضول في رأسه عني يا ترى ؟؟
يااااااااه أتخيل الأمور المخيفة من وراء لعبة الغميضة التي لعبتها معه ..لمَ أبدو وكأنني لا أطيق الحياة هاااا ؟ آآآآه أيتها المتحاذقة لمَ ترتعشين هااا ؟ ....أتخافين من وسادة أحلام أنت صنعتها ؟؟؟
كفى .. يا لذلك العقل ..
أشعر بالبرد ولا يدفئني سوى جلسة قرفصاء طويلة ...وضوء صباح جديد .
استيقظت في الصباح كالعادة , أتابع وأكمل ما بدأته ليلاً في الانترنت قبل أن أتوجه لعملي , فتحت الصفحات متلهفة أبحث عن اسمه في قائمة المرسلين وتجاوزت جميع الأسماء رغم ارتباطي بها بعملي وعلاقاتي الاجتماعية لأصاب بالإحباط حين لم يكن( ذاكرة الرمل ) على قائمتي , أصبت بحزن وأنا التي كنت أعتقد أنه سيرسل لي كلمات تنم عن شئ ما من الإحساس والمشاعر أو على الأقل اعتراف بهزيمة من نوع ما ,,,,, ولكن ؟ لماذا أريد هزيمته ؟ أو ماذا أريد أن أهزم ؟ هل أريد أن أهزم الفراغات العجاف من الوحدة ؟ أم أريد أن ترتوي الصحراء في خريطة شعوري بكلمات ندية ,,,, حتى لو كانت بسيطة ,,,, غير منمقة ولا متماهية ,,, كم أوجعتني الكلمات المختارة بعناية فائقة كما لو أنها تشبه العناية المركزة في المشفى لإنقاذ حياة إنسان في خطر ,,,, هل تراني في خطر يستدعي أن يعالجني بالكلمات المركزة ؟
كلا ,,, كلا ,,, لست بهكذا حال ,,, تكفيني يا هذا كلمات صادقة ببساطة ,,,, كالكلمات التي يكتبها المراهقون عندما يحبون لأول مرة ,,,, ويحاولون أن يصطادوا ابنة الجيران بها
لماذا وببساطة شديدة لا يقول لي : أريد أن أعرفك وأسبر غور حقيقتك ؟ وأخوض غمار لا شعورك ؟ واقرأ ما بين سطورك ؟
أنا لست ككلماتي العتيدة ,,,, أنا ببساطة أنثى ,,, رغم كل شئ ,,, أتوق لما تقت له منذ الأزل ,,, حتى غروري الذي اصطنعته في الصفحات الالكترونية ما عاد يحبسني بين قضبانه
فقط ما أحتاج إليه نفحة تعيدني إلى طبيعتي بعد تقوقعي .
اجتاحتني موجة ذعر شديدة ونهضت من مكاني كأن أفعى قرصتني وأفرغت سمها في جسدي ,,,, لقد صرت أستجديه ؟ ,,, نعم أنت تستجدينه ,,, يا للهول !!!!
توجهت لعملي وسحابة من الحزن تسيطر عليّ ,,, حاولت أن أعود لطبيعتي ,,,, شغلت شريطاً كنت أحب سماعه كل صباح لفيروز وفتحت نوافذ سيارتي وجعلت الصوت يعلو ليغمرني بكلماتها التي أحب ,,,, دخلك يا طير الوروار ,,, أزعجني أن أحدهم ألقى عقب سيكارة مشتعل من نافذته سقطت على مقدمة سيارتي الصغيرة ,,, هههههه ,,, ربما هو الآخر تائه مثلي ,,,, كم هو محزن شعورك بمرارة التيه ؟ .
هادئ أنت اليوم على غير عادتك .. يا ترى أهو شوق وحنين أم بؤس وأنين؟؟
صمت مسافر أتعبه السفر وهدوء حدائق الفجر ...
على غير عادتك أراك اليوم مترنحاً ,,,كأنك سكبت بحراً من الخمر على فمك وغرقت فيه حتى النوم
وكأنني أنظر إلى لوحة مر عليها قرن من الزمن وأصبحت أثراً ..وحيدة في ركن من أركان الحياة ..بعيدة تنظر لا تتكلم
هكذا أنت اليوم يا سيدي هائماً سارحاً في أفق فكرك ...تبحث عن مرسى لخيالك
أيحدث هذا فعلا أم أنني أتخيل ذلك لأنك هادئ على غير عادتك؟؟
قلت لنفسي سأحاول أن أشغل وقتي علّني لا أفكر فيه .. وبدأتُ بالتصفح والتنقل من موقع إلى آخر .. تحدثتُ مع بعض الأصدقاء الذين كنت قد بدأت أتناساهم .. مضى من الوقت ساعة وبضع الساعة أشعر بارتياح قليل...لكني عدت لانشغالي به ..وها أنا أنتظره ...
وطال الانتظار..وها قد حل المساء .. هناك بحر لا يجف هو بحر اللقاء...
أراك عالماً بلا حدود .. أناديك .. ساعاتي طويلة وثقيلة وأنت بعيد ..ليتك تفهمني..الوقت يمر ببطيء وفضولي لرؤيتك لا يحتمل الانتظار طويلاً..
لازلت أسترق النظر بين الحين والآخر..
رباه ما هذا.. لم أعد أصدق..جميلة هي أشياؤك .. ترى من علّمها أن تصمت في لحظة اللقاء .. في حضرة صاحب أشياء لا تشبه تلكم الأشياء .. من علّم أطواق الورود أن تصمت على طاولة صماء .. من علّمها الانتظار.. بل من علّمها الصمت وهي الناطقة ..
أنا من الأمس أو من الأبد .. لكن قدري أن أكتب إليك كما كتبت إليك في المرة الأولى أيها الحلم والألم والأمل ...
أوليس غريباً أن نشعر أن هناك شيئاً ما يشدنا كالطوفان .. هذا الشعور الذي يملؤنا دفئاً ثم يحملنا حتى الأفق البعيد ويرمينا على ضفاف صيف ناعس..تختبئ - تتكتم - تتعذب .. دون أن أقرأ لك كلمة صريحة...تخاف على نفسك ؟ أناني أنت أم قديس ؟ لا أدري ولم أعد أدري .
كثيراً ما يحسن لنا القدر .. ولكننا لا نشعر بذلك غالباً , بل قد لا ندين له في قرارة أنفسنا بمجرد الشكر , ها هو قدري المسائي يمنحني فرصة التفكير خارج طائلة التواصل , كان الأمس المنصرم موعداً لإجازة منه , إجازة لأسبوع كامل , أمدٌ لصيانة افتراضات الأرقام , وإعادة النظر في اجتياح هذا الرجل لعالمي , أو ربما قبولي بهذا الاجتياح .. بدا هذا الصباح حيوياً بالقدر الذي يعمّق اشتهاء التسوق وإرسال قدميّ بشكل عبثي إلى آخر مدى في شوارع بغداد التي ما رأيتها منذ زمن إلا في حدود رتابة الذهاب والإياب اليومي إلى العمل ومنه , فكرتُ في تدليل تأنقي لمثل هذه الجولة المزمعة , ملابس وإكسسوارات تناسب تجوالاً صباحياً قد يمتد لما بعد الظهيرة , صوت معزوفة ( آخر رجال الموهاكينز) قطعت عليّ تسلسل نية الترتيب هذه .. أهااا إنه هاتفي ..
ــ مرحبااااااا أيتها الجافية
ردتْ عليّ بتهكم :
ــ تعنين نفسك أليس كذلك ؟ قاطعتني وأنا أحاول شن حرب هاتفية عليها قائلة :
ــ افتحي الباب ولا تقضي على المتبقي من الرصيد أيتها الشئ , ضحكت وأنا أغلق الهاتف وأفتح لها الباب , قلتُ وأنا أعترض طريق دخولها منزلي :
ــ أليس من مفارقةٍ في أن أغلق الهاتف وأفتح الباب ؟!! كلاهما يحملك إليّ أيتها الصديقة مع إنهما على طرفي ضدّ !! انبرت كعادتها في تسفيه تأملاتي الارتجالية :
ــ ماذا لو ناقشنا كشفك المذهل هذا ونحن نطفح كوب قهوة أو شاي من يديك أيتها الفيلسوفة ؟!! على الأقل لن نواجه تكذيباً لثقافة الكرم خاصتنا , ابتسمتُ وأومأتُ لها بالدخول متنحية عن الباب , وبعد نصف ساعة كنت مع ( أمنية ) صديقتي المقربة ندلف إلى شارع المتنبي , إذ على عادتها كانت شوارع بغداد أقل زحاماً في أيام العطل وهذا ما مكّننا من الوصول بهذا الوقت القليل , لفت انتباهي رجل خمسيني يقف على ناصية الشارع الممتلئ كتباً وباعة ورواداً , لا أعلم لمَ تسمّرت نظرتي عليه , ونحن نمرّ بمحاذاته سمعته يقول لمرافقه :
ــ أحتجّ على الصلاة التي لا تأتي بكِ ...... , ولأننا كنا نتابع السير لم يتح لي أن أسمع قوله اللاحق الذي ربما يقدم تفسيراً لهذه الجملة المثيرة , بدت أنها جملة مقتطعة من نص شعري , لكنها بدأت مفعولها في ذهني ورحت أتتبع الاحتمالات الممكنة لمعنى ( بكِ ) أهي امرأة ؟ جملة ما من جمل الصلاة ؟ مظهر ما ؟ أم تراها الصلاة ذاتها ؟ ... قطعت عليّ أمنية تسلسل الاحتمالات وهي تشدني من يدي قائلة :
ــ تعالي وجدت ما تبحثين عنه .. أخيراً سنغادر هذا الشارع لندلل أنفسنا بالعصير والتسوق الممتع .. تعالي هنا
وأشارت بإصبعها إلى كتاب في أقصى يسار كتب تفترش الرصيف
ــ نعم إنه هو ، قلت وأنا أرفعه
فرحتُ لأني وجدته بسرعة , مرة أخرى تقاطعني ( أمنية ) :
ــ هل ستظلين تتأملينه أم أنك ستتجرئين وتقطعين الصمت بعدّ ثمنه من حقيبتك ؟ أم تراكِ لا تستطيعين تهجئة عنوانه ؟ حسناً عنوانه هو ( ما فوق اللون ) .. ، قاطعت تهكمها بدفع ثمنه وشكر البائع على تسامحه في الثمن , وعادت هي لأسلوبها المازح الذي غالباً ما تصطاد به الأجوبة دون عناء الاستفهام , فأجبتها بأنه رواية كنت أبحث عنها منذ زمن , وأطلقنا أشرعة الرغبة الجامحة في التسكع , وفي آخر المطاف وبعد رحلة تسوق بذّرنا فيها الكثير على الملابس وأشياء أخر تتعلق بالمظهر كنا على منضدة جميلة في ( ركن بعيد ) نشرب العصير ونتمتع بذوق صاحب المحل في انتقاء كل شئ بدقة عالية وذوق رصين , المكان يعجبني بشدة لا شئ فيه خارج إعجابي سوى اسمه ( ركن بعيد ) أحس أن صاحبه لم يوفق في ذلك فقط , واندهشت ( أمنية ) حين علقت على الاسم وأنا أنقد صاحب المحل ثمن العصائر ,
ــ سيدي ألم تك ثمة بدائل أفضل في اختيارك لاسم هذا المكان الرائع ؟
بدت عليه الثقة وهو يجيب :
ــ الأمكنة هي من تختار أسماءها .. ذلك لا يعني أبداً أن الأسماء هي هويات الأمكنة .. ولذلك قد تتغير أسماء الأمكنة لكنها هي ذاتها لا تتغير .. هنا ستجدين الإجابة بكل وضوح .
كانت إجابة دالة على ثقافة الرجل , ولكي أتجنب ما وراء دهشة ( أمنية ) من تصرفي هذا سألتها بعد أن غادرنا المكان مباشرة :
ــ يبدو أن الرجل أكثر من مجرد صاحب محل عصائر , ربما يكون متقاعداً كما يبدو من عمره , ربما كان موظفاً حكومياً , مدرساً ربما , أجابت متلقية الطعم :
ــ نعم هو كذلك , سألتُ بفضول :
ــ وما أدراك ؟
ــ أتذكرين المرة الأولى التي اكتشفنا فيها هذا المكان ؟
ــ نعم نعم ، أجبتها بلهفة , أكملتْ :
ــ حين عدت للبيت حدثت أبي عن المكان ونصحته بارتياده , فأجابني مبتسماً ابتسامة انتصار ورضا :
ــ أعرفه وقد سبقتك إليه بنيتي , هو لصديق قديم من أيام الجامعة , لم أره منذ أن تخرجنا , ولكن القدر شاء أن أرتاد محله هذا ذات نيسان , وأخذنا باستذكار أيام الجامعة مرها وحلوها , قاطعتُها بشغف :
ــ أكملي أكملي أمنية
بدا على وجهها ـ الذي أعرفه تماماً كما الطريق إلى بيتي ـ شيئاً من الحزن الخفي .
ــ للرجل قصة يا صديقتي , كان طالباً مميزاً في الجامعة , أنهى دراسته فيها في نهاية سبعينيات القرن المنصرم , في سنته الجامعية الأولى أحب طالبة مبتعثة من لبنان , كانت قصة حب جارفة امتدت لأربع سنوات متواصلة , حينها كانا يلتقيان في المكان نفسه ( ركن بعيد ) , والذي احتفظ باسمه القديم ذاته , كانا قد خططا بعد تخرجهما على اللقاء فيه ليعلنا ارتباطهما الرسمي فيه ، وحان الموعد فعلاً .. إذ مضى على حفل تخرجهما أسبوعاً وهو ما اتفقا عليه كموعدٍ للقاء .. ويمر الوقت عليه وحيداً .. حتى تسربت احتمالاته أمام مغادرة آخر مدعو للركن , دفع ثمن حجزه للمكان وغادره , لم يقف طوال هذه السنوات على سبب تغيبها , ولم يلتقِ بها بعد ذلك أبداً , بقي مع أسئلته فقط , ولو أنكِ لاحظت الزاوية التي كان يجلس فيها لوجدتِ أنها تغاير المحل المفترض الذي يمكن أن يتموضع فيه صاحب محل , إنها بعيدة نسبياً عن المكان المخصص الذي نلاحظه في أي محل , كان الركن الذي يجلسان فيه بالضبط ، احتفظ به لنفسه ,هو الآن في نهاية أيامه , صحته متدهورة بشكل شبه مستمر .
سكتت أمنية مطولاً ولذت أنا بصمتي أمامها , ورحت أكلم نفسي : لهذا كان جوابه عن الأمكنة بهذا الشكل , الأمكنة .. حين تعني مفردة ( ركن ) ( لا ركن ) ( بعيد ) ( لا بعيد ) حين يجئ بها قدرها من بيروت إلى بغداد لتلتقي به , أي عبث هذا ؟ هل يمكن أن يكون القدر مخططاً لهذا كله ؟!! وأي وفاء هذا الذي يحمله كي لا يقترن بواحدة غيرها ؟ أحقاً يستمر الحب ؟ أم تراه أثر الصدمة ووقعها عليه , لا أعلم حقاً أهو الحب أم الفقد من يعيش معه طوال هذه السنوات , تبدو لي أنها المعادلة ذاتها بين الأسئلة والأجوبة , بين قيمة الاستفهام ومؤدى الإجابة عليه , يبدو أن الصمت أوصلنا سريعاً لمنزلي , دعوت أمنية أن تقضي بعض الوقت معي في المنزل , فأجابت :
ــ لا أنتِ ولا أنا نستطيع تمضية وقت ممتع بعد أن غيرتُ اتجاه المزاج 180 درجة , آسفة حقاً على استرسالي في قصة صاحب المحل , عكرتُ لك مزاجك صديقتي , إلى اللقاء
ودعتها محتضنة إياها بحرارة , لا شئ في المنزل أكثر عطفاً عليّ من السرير , عسى أن يكون الصباح الآتي كصباح اليوم .
ارتميت على سريري , توقع مني أن أكون خائرة القوى ولكني فاجأته ........ كنت كما لو أنني أرفرف... شئ ما يرفعني ... هل تراها العوالم التي فتحتها هذه الجولة صدفة أمامي... وما أكثرك أيتها الصدف المثيرة في حياتي ..... حاولت أن أطبق أجفاني .... لكأنه يشاكسني ... ماذا دهاه ؟؟ هذا النعاس لم يكن يوماً ليقف طارقاً على بابي ... فموعدنا ثابت يأخذ دوره دون استئذاني ... إنه ضميري أعرف صوته عندما أهمل واحدة من مهماتي ... أيها يا ترى ... مسحت ذاكرتي ... لاشيء في أجندتي ... ولكن هناك شيء علي أن أقوم به قبل أن أحتضن وسادتي ؟؟
هرولت مسرعة إلى حاسوبي وفتحته فقد استأثر بتفكيري عنوان ذلك الركن البعيد وما كان يحويه من معاناة صاحبه حين قال :
( الأمكنة هي من تختار أسماءها .. ولذلك قد تتغير أسماء الأمكنة لكنها هي ذاتها لا تتغير .. ( بدأت أجمع تركيزي وقدرتي على انتقاء العناوين لمواضيعي ... علّي أستطيع أن أرفد قرائي ومتابعيّ ... بموضوع يثيرهم ويشدهم لمتابعة ما أطرحه لهم فعنوان المحل يوحي بأفكار عدّة يمكن أن أستشف منها ما أريد من نصوص أوصلها بحلةٍ تليق بشغفهم لما أقدمه لهم ... وفجأةً وبين ما أنا أستجمع الأفكار قفز من بينها ما جعل كل فكرة استدرجتها إلى مخيلتي تنفر هرباً من هذا القادم من بين شتات أفكاري وبدأ الفضول يسوقني إلى أن أتتبع ذلك القابع في العالم البعيد واسأل نفسي أتراه موجوداً الآن وهل استطاع أن يفسرني ولكني صدمت نفسي بتذكري إن مهلة الأسبوع لم تنقضِ بعد ... فأسبوع الصيانة الذي شمل المنتدى شملني معه أيضاً فأنا كنت بحاجة ماسة لان أريح تفكيري وعقلي من تلكم الخلجات الفايروسية التي انتابته مؤخراً , فتفكيري صار محدوداً بعبارات غامضة يحاول عقلي بكل ما لديه أن يفهم معناها..(الركن البعيد)؟؟..(أحتجّ على الصلاة التي لا تأتي بكِ )؟؟..ومن غير هذا وذاك....ذهبتُ قليلاً لمكتبي أردتُ أن اقرأ كتاباً يثيرُ فضولي أكثر,لم أجدْ.فجأة واذا بهاتفي يرنْ..
ــ نعم ألووو من معي ؟ .. كنتُ مرهقةً وعينيّ متعبة..أنها صديقتي تسألني :
ــ ما زلتِ تفكرين بالركن البعيد وقصة صاحبه ؟
أجبت بعدما تخيطَ فمي بإبرة الصمت..
ــ ولمَ ظننتِ أنني لا زلتُ أفكر فيه ؟
ــ لأن ملامح وجهكِ تغيرت عندما قصصتها عليك
ــ نعم, لا زال عقلي عالقاً بتلك القصة
ــ ماذا تفعلين الآن؟
ــ أشاهد التلفاز
ــ حسناً إلى اللقاء
كأن الجميع يعرف ملامحي كيف رُسمتْ , رباااااه إنها الساعة الثانية عشر من منتصف الليل وأحلامي تطرق أبوابي.. هل أخلد إلى النوم ؟ أم أسهر مع رفيقيّ الورقة والقلم ؟ لا أعرف حقاً .
مساء آخر ...
ومن أين أبدأ ؟
لستُ بخير .. ولكن رغم عدم قدرتي على أداء نشاطي المعتاد , أمسكت قلمي ولمحت ورقة تمازحني وتقول:
- ألم تشتاقي لي أيتها المتشحة بالسواد ؟ ..تعالي هنا , ليمتزج بياضي بسواد وشاحك الحزين.. اقتربي أيتها الصديقة وهات ما عندك
- من أين أبدأ ؟ هل أبدأ من الأمل الذي يسبح في أشعة القمر الفضية..؟
أم من أحزان القلب؟ أتراني أبدأ من صمتك أم من ثرثرتي المسكينة ؟ وأين سننتهي؟
تعالي أيتها البيضاء لنصنع من همومي وهمومك أغنية ننشدها لنجوم الليل..
فلعل مسافرنا القابع أمام الشاشة من العالم الافتراضي أن يسمع حزن معزوفتنا وشوقنا لإلقاء تحية المساء
ـ لنهمس يا كل المواسم , دعي ضحكاتك تكتب حزني..ودعيني أغرق حلماً في خيالك .. ومري بأناملك واهمسي..
فصوتك يلفني لف الحبيب , يقلبني مثل الريح يملأ جفوني.. وأعرف أني كالنورس ينكر ثقله الماء , ويمسح الموج آثاره فيختفي ..
تذكري يا صديقتي أنه يسترق النظر إلينا بين الحين والآخر..
-أعلم أيتها الصماء البيضاء .. أسكتي وإلا مزقتك
شعرتُ وأنا أكلمه في المرة الأخيرة أنه أخذ جزءً مني .. من بعض حزني ورحل ..
ها هي أجزائي مشتتة هنا وهناك .. وها أنا أحاول أن أجمع شتاتي ..لكن يا صديقتي ما يهرب مني هو هذا الجزء الذي رحل ..
هذا الجزء الموصول بين الحياة والأمل .. ما الذي أجمع إذن ؟ وما سر هذا الاشتياق والانتظار؟؟!!
تعبتْ أنفاس الرجاء .. وتمخضت عن ثورة في أعماقي
تناثرت روحي واستقرت على شاشة حاسوبك الآن كل كلماتي ..
يا قابعاً هناك .. أولم تعلم بأن الليل الحزين يمر ومعه تتحجر مشاعر الصبر لدي ..
أنفجر , أتوعد .. لم أعد أطيق .. لأني أشعر أن أزهاري التي تفيأ تحتها المتعبون قد ذبلت..
أخاف عليها من احتمالات مجهولة ..
من أنت؟؟ ومن وضعك في طريقي؟؟؟
فعبر كل المسافات .. في البعد والقرب..يبقى الإحساس واحداً .. لا تصمتْ .
الأيام تتكرر وتتداعى وسط صمته , وأنا لم أعد أفتح صفحة المنتدى لأتحاشاه , ترى لماذا لم يعد يرسل لي بكلماته ؟ ولماذا أنتظرها ؟ هل حقاً ستكون مثل حقن المورفين ؟ هل أدمنتها ؟ هل سألجأ لعادتي القديمة ؟ ألملم أشلائي وأهرب ؟ وأنا لم أتمّ استكشافه بعد ؟ رغم كلماته القليلة التي لامست شغافاً في روحي أو ربما صفعت وجهاً رسمته في عالم افتراضي لأضع عليه الرتوش التي توحي للآخرين بشخص آخر لست عليه .
اليوم يمر أسبوع وأنا أعيش حيرتي , يجب أن اتخذ قراراً ما ؟ هل قاطعت المنتدى لأعذبه ؟ أم إن خوفي من ترك حدود عالمي الذي رسمته بحمق يرعبني ؟
في نهاية المطاف ليس هو وحده ( ذاكرة الرمل ) أنا أيضاً ذاكرة الرمل التي تنمحي عندما تغمرها موجة صغيرة من مياه البحر أو نسمة تهب من الهواء ربما من جنح طائر صغير .
في المساء
قررت أن أدفن هذا كله .. لن أدخل المنتدى إياه لأني سأحس بكبريائي يهزم بعد أن تركني , وهل أحبني ليتركني ؟ رباه كم أتهاوى في الأعماق التي أخافها , سأسجل بمنتدى آخر وباسم مختلف , اخترت منتدى من ضمن المنتديات العديدة وسجلت فيه تحت اسم ( سيدة الكلمات ) وكلمة السر ( ذاكرة الرمل ( , واتخذت قراري النهائي بان غداً سيكون أول يوم لي كـ (سيدة الكلمات ) , كانت هناك رغبة جامحة في العدول عن هذا القرار , ودوافع كثيرة تدحرجني لذلك السابق لأكسر تلك الأسئلة التي بدأت تنهال على أفكاري وتسرق مني ساعات النوم التي لابد من استغلالها لأكون غداً في كامل نشاطي وحتى تكون قراراتي صائبة , اتجهت نظراتي إلى الوسادة , وبدأت الأفكار تجتاح مخيلتي مرة ً أخرى ...وهمست أكلمَها ..
يا كاتمة أسراري كيف لك أن تتحملي ذلك العبء الذي أحمّلك إياه ؟ أما زلت تستمعين لما أحدثك ِكل ليلةٍ عنه...؟
لكن الأمر الآن مختلف ربما ذلك الجهاز سيأتيني بما يسعدني ..ربما ..فأملي بربي كبير ومازلت مؤمنة ومتيقنة بأن العسر سيأتيني بيسرٍ بعده ..
آآه كم تلقيتِ مني رسائل بعد انتصاف الليل ..كم ابتلت ثناياك بدموعي ...
كانت ليالينا متعبة ..عدمت الثقة بمن حولي منذ أن هجرني ذلك الذي هز كبريائي ..أتذكرين كم كنت ساذجة ؟
هل أنا سيئة أو أنا تائهة في دنيا الظلام..... لقد أمسيت امرأة صماء وسط ضجيج يقتل الأنفاس..أمسينا كالرمال تذروها الرياح ودمية مرسومة في الخيال ..
لا بكاء ولا صراخ يريح قلباً قد مات .. أريد أن أنسى نفسي في نوم عميق يسألني عن الممات ..لتموت كلماتي و سطوري بين أوراق ملأها البكاء .....
أريدُ أن أُنهي صراعاتي الداخلية .. صراعٌ بين الواقع والخيال وآخر بيني وبين أصابع يدي .. أريدُ أن تُطبقْ جفون عيني وأنا مُرتاحة البال ..
غفوتُ وإذا بيد الأحلام تخطفني من سريري .. كانتْ هناك طاولات متعددة , صالة فخمة , ألآت موسيقية , كُتّاب مشاركين
في تلك الأمسية و ناس مُتجمهرة ومحتشدة.
كان الضجيجُ صاخباً يتعالى في المكان رغم ذلك الصخب ألا أنني كنتُ أنتظر شيئاً ما
وأنظرُ إلى ورقتي بلهفة..متى يحينُ دوري ؟ متى ينادون باسمي ؟ كأني أردتُ أن أُفجر براكين أسراري المخبأة أمام الملأ ..
فجأة
وقفَ على المنصة شاب لا أتذكر ملامحهُ جيداً..عزفَ على البيانو وبجانبهِ رجل آخر يُمسك بورقة
قال الرجل شيئاً ما لا أتذكره .. كان شعراً ..
وتوقفَ عن الكلام.. ناديته : أكمل بيتك , لكنهُ ترك الأمسية والكل أستغربَ تصرفهِ
ــ سيدة الكلمات الآن حان دوركِ لتُلقي كلمتكِ .. قالها عريف الحفل
يا الله !! أصابعي بدأتْ ترتجفْ كما لو أنني حضرتُ حفلاً على أرضٍ جليدية .. وقفتُ على المنصة
وأمسكتُ المايكروفون وقلتُ:
ــ مساؤكم حب أيها السادة الكرام ..أنا اليوم هنا لأقرأ لكم قصيدة بعنوان ...... وقاطعني أحدهم قائلاً
من مكان بعيد عن المنصة ( ذاكرة الرمل )
أصابتني الدهشة وتصلّب جسدي واتخذت عيناي مساراً واحداً للنظر...يا الله!!
سألتُ عريف الحفل
ــ أوليس هذا الرجل الذي ترك المنصة فجأة قبل قليل ؟
ــ نعم سيدتي أنه هو .. انتابتني الحيرة والسؤال
وكيف عرفتَ بعنوان قصيدتي ؟ أيها السيد لمَ لا تجيب ؟
كيف عرفت بأمر العنوان ؟...فأنقطع الحلمُ واستيقظت وأنا مذهولة من حلمي..شربت قدحاً من الماء ..
ذاكرة الرمل, سيدة الكلمات ؟ بقيتُ أردد هذه العبارات....
ما هذا الحلم ؟
يوم جديد .. أدلف للشارع على نية استيقاف أول سيارة أجرة تصادفني .. فقد تأخرت عن العمل كثيراً .. كان مزاجي سيئاً للغاية ... لأول مرة أجد فجوة حقيقية بين إنسانيتي وعملي .... محتارة أنا حد اللعن .. مشبعة بالتذمر ... عندما اخترت هذه المهنة أردت أن أحمل الخير للجميع ... حلمت أن أضمد بعض الجراح وأن أجعل الحياة أقل سوءً ... لكن رباه ..لما هذا ... لماذا نحتار في فعل الخير أو تركه ؟؟ ... لم نكن هكذا حين كنا صغاراً ... أنا قطعاً لا أقول هذا لأني سأقف أمام القاضي في قضية قذف وتشويه السمعة ... لكن مازال قلبي يبكي تلك المسنة التي طردت من بيتها وهي الآن تفترش الشارع وأسرتها في هذه الأيام العصيبة ... لم أكد أتنفس يقيناً وثقةً بان ما قمت به لا يجب أن أندم عليه فهو صوت الضمير فيَّ .. حتى رن هاتفي .. كان جمال مصور الجريدة ..........
ها قد أنهيت مهامي في الصحيفة التي أعمل فيها .. كان يوماً متعباً .. أحسست وأنا أعود للمنزل بضغط نفسي هائل .. العمل والقضية الجديدة التي أعمل عليها .. الأجواء السلبية التي أتشاركها مع زملائي .. كان أنسب شئ أقوم به بعد العشاء هو اللجوء إلى السرير .
وما هي إلا إغفاءة واحدة حتى رن هاتفي وأفزعني بشدة ..... ودون إدراك ضغطت على أحد الأزرار لأسكته .. صمت فعدت ورميته قرب وسادتي .. لكني سمعت صوتاً بعيداً جاء يقول
ــ وأخيراً أيتها المتكبرة وأخيراً رددت على اتصالي
أصابتني الدهشة فهذا صوت جمال ... أفقت واعتدلت في جلوسي وحملت الهاتف
ــ ألو جمال ؟؟؟
ــ نعم هذا أنا جمال لما كنت تغلقين دائماً الخط في وجهي ؟
ــ لا بد أنك تعرف السبب
ــ ليس من عادتك إساءة الظن .. لمَ تفعلين هذا معي ؟
ــ والله ... صحبتكم علمتني الكثير وجعلتني أرى العديد من المسلمات تتهاوى أمام عينيّ وكأنها غير صالحة للبقاء لعجزها عن الصمود في عالمكم الـ ...
ــ حسناً.... لا تكملي .... لا داعي لأن تتفوهي بكلام تندمين عليه فيما بعد
ــ لا لن أندم أعرف ما أقول
ــ لا تجعليني أبدأ بالصراخ والناس نيام ... اتصلت لأقول لك أنني جلبت لك أدلة تساندك في قضيتك أمام العدالة .. ورئيس التحرير رآها وقد اقتنع بها وهو ينوي غداً رفع دعوى قضائية أخرى ضد المحافظ
ــ أدلة ؟ أي نوع من الأدلة ؟
ــ ماذا قد يجلب المصور غير الصور .. عمت مساء .. نلتقي غداً
ــ جمال ...انتظر .... انتظر
أقفل جمال الخط وسرت في جسدي رعشة غريبة إنه الأمل الجديد كم هو جميل ألا تجد نفسك وحيداً ... طالما هربت من مواجهة هذا الأمر وقلت فليحدث ما يحدث لن أبالي ولن أشتكي ولن أتذمر ... أنا قمت بما آمنت به ولن أتراجع ... لكني ظللت مستاءة من زملائي الذين تبرؤوا مني واتهموني بأني أسعى وراء الشهرة والسبق وإن بالتلفيق .... تشابكت الأفكار في رأسي وطار النوم من عيني واحترت ماذا أفعل وأين أمضي ... دلفت إلى الحمام غسلت وجهي ... ولجت المطبخ أعددت كوب شاي وعدت سريعاً إلى غرفتي جلست على أقرب كرسي , كنت كما لو أني شاردة لكن أردت أن أفعل شيئاً ... كم سيطول هذا الليل ... قابلني حاسوبي ..تركت كوب الشاي من يدي وفتحته بشكل آلي وجدت نفسي أتواصل مع ( سيدة الكلمات) .. لم أكن أريد شيئاً محدداً لذا كنت أقوم بجولة استكشافية لهذا المنتدى الجديد ... كنت أجده بلا طعم فقد اعتدت على المنتدى الأول ... ليتني ما تركته ... لمَ هربت منه ؟ ... أمن ذاكرة الرمل أهرب أم من آية في سورة لم تخلق معالمها بعد ؟ فجأة توقفتُ أمام المنتدى القانوني هناك موضوع تفاعلي ..ركن استشارات قانونية ... لما لا أسجل مشكلتي هنا قد أجد العون والرأي من هذا المحامي ... وللحظة أحسست بمدى سذاجتي , ترى ماذا يمكن أن يقدم هذا المحامي الذي يبدو منهمكاً مع رواد قسمه القانوني في المنتدى ؟ استشارات عن قانون الأحوال الشخصية لا أكثر , عدلت عن نية استشارته , وأحسست بعمق الفجوة بيني وبين هذا المنتدى الجديد الذي لم أستسغ فكرة كوني عضواً من أعضائه , ودون تخطيط مسبق وجدتني أمام واجهة المنتدى القديم , همست وأنا أضغط زر الدخول ( تباً لسيدة الكلمات تلك ) كانت فترة هجري له مبرراً كافياً لوجود أكثر من 50 رسالة في ملفي , لا أعلم حقاً لمَ كنت أبحث عن اسمه بالتحديد , وما هو شعوري بالضبط حين وجدت اسمه مقروناً برسالتين , لكن ما أعلمه فقط أنه شعور جميل .. جميل حقاً .
ها أنا أمام شاشة الحاسوب مرة أخرى , آخر ما أتذكره أنني كنت أعدّ الأيام لانتهاء فترة أسبوع الصيانة لكنه المرض باغتني وها أنا على مسافة أكثر من أسبوع آخر بعد انتهاء الصيانة , ترى كم رسالة سأجد من تلك الآنسة / السيدة المختلفة ؟ كل هذه الأيام كفيلة حتماً ولو بفضول منها عن سبب تغيبي كل هذه الأيام التي تلت انتهاء صيانة المنتدى , تمتد أصابعي على لوحة المفاتيح هوناً إذ ما زلت أعاني بعض الوهن الذي أتبع فترة انتكاسة عافيتي , رباه !! مرة أخرى تكسر هذه المرأة أفق توقعي .. لا رسائل منها , ولا حتى واحدة !! لم أقاوم فضولي , دخلت ملفها لأجده مزدحماً بالرسائل , أكثر من 20 رسالة , يبدو أنها لم تدخل منذ أيام , أحسست ببعض الرضا , هي لم تكن موجودة يا رجل وإلا لأرسلت ولو على نية الاطمئنان والسؤال المعتاد عن الأحوال , كتبت لها ( صباح الشرفات المغلقة على الورد .. يقال أن التواصل يدعونا لمتوالية الاستفهام ومطاردة الإجابة كقضية مصير , اليوم أكتشفُ مغالطة هذه المقولة التي سبق وقرأتها في حدود نظريات التواصل , إذ نافذتك الافتراضية المغلقة هذه هي ما دفعني للسؤال : أين أنتِ ؟ لتحتشد بعد الأين أدوات الاستفهام الأخرى كناتج لطبيعة الاستفهام ورغبة محمومة للتعرف على تفاصيل تغيبكِ , الغياب كما الحضور أثير للتواصل على خلاف ما قرأته سابقاً .. مودة محمومة ودعاء لكِ بالسلامة من الغياب والحضور أيضاً ) , شعرت بعدها بشئ يشبه الغربة , أن لا تجد من تعتقد أنه يتواصل معك على الموجة أو الذبذبة ذاتها تلك هي الخسارة في جزء مهم من معنى الخسارة , لذا كان بحثي عن مطالعة شئ ما ضمن اهتماماتي في المنتدى أشبه ما يكون بالانسحاب من موقع شعور باللاجدوى , وهكذا كان لأدخل مكتبة المنتدى منتقياً بعض الكتب للتحميل لأقرأها لاحقاً , وبطيئاً مرّ الوقت , وكان الفاصل وجبة الغداء , وقيلولة كنت بأشد الحاجة إليها لأعين جسدي المتعب وأمنحه بعض الراحة الضرورية .
بعد ثلاثة أيام من رسالتي تلك , كان المنتدى يصرّح بغيابها المستمر , دخلت ملفها وكتبتُ ( القصدية محض توهم , ما نظن أننا قصدناه قد يكون هو ما قصدنا نحن , كثيراً ما تسخر بنا علاقات العكس والتضاد , هذا يبرر على الأقل مواساتنا لأنفسنا / ذواتنا بأننا لم نختر العالم بل العالم من اختارنا لنكون , أرجو أن لا تكوني ضمن أفق القصدية هذا .. أن لا تكوني قد قصدت واخترت غيابك هذا , لأنه سيكون مرعباً لو كان هو من اختاركِ وقصدكِ .......... مساء النوافذ المشرعة على غياب الحضور وحضور الغياب صديقتي ) , وأشعلتُ حضوري غياباً بعدها , فما أن أنهيت كتابتي لرسالتي هذه حتى أرفقت ساعدي لأشرعة الخروج من عالم الأرقام هذا , لأكمل ليلتي مع الرسم , كان هناك جدار يصرخ بي لأملأه خطوطاً .. فمددت قدمي لأدخل عالمه عبر ما انتقيتُ من كومة الفحم التي يزدحم بها كيس أسود في ركن مهمل من الحجرة التي تقلني كباص أهوج , واستغرقت بما تبقى من طاقتي التي أرهقها وضعي الصحي الذي يبدو أفضل هذه الليلة , حين نستغرق في شئ فإننا نقارب روحه أو ما يمكن أن تكون عليه روحه , الساعة الثالثة صباحاً وأنا أنظر لما انتهى إليه عملي على الجدار , امرأة ثلاثينية بشعر أسود مائل للبني كما توهم فراغات الضوء والظل , ممشوقة القوام , ابتسامة نصف مطفأة ونصفها الآخر مشرع للغرابة والاختلاف , نظرة محيرة لا يصفها نص , أنف دقيق طويل , شفة عليا مائلة للاختصار والسفلى أكثر شغلاً للمتبقي من مساحة مفترضة لشفاه امرأة , عنق مائل للاستطالة , دونت تحت رسمتي هذه توقيعي مؤرخاً .. وأعلاه بخط رقيق ( آية من سورة ..... هذه هي كما أتوهمها أو كما هي بالضبط )
بعد إن أتممت لوحة آيتي ذهبت إلى فراشي فقد أعياني تعب الانتظار ... وأجهدني التفكير فأنا لازلت على أعتاب المرض أقف لم اخرج منه بعد .... استلقيت على فراشي ... وأخذت أتأمل آيتي التي رسمتها ... فارتسمت على شفتي ابتسامة رضا شعرت بلذتها حينما ملأ قلبي الغرور .. أيعقل أن تكون هذه هي ... ؟؟؟ ومنيت نفسي الأماني ماذا كان سيحدث لو أن تلك الآية هي كما رسمتها ... وماذا كان سيحدث لونها كانت تفكر بي كما أفكر بها .... ماذا لو كانت القصدية ليست توهم .... وكانت هي أيضاً تقصدني بالبحث ... كم تمنيت لو أني أنا من سخر من عكسية التضاد تلك ... اااااهٍ لو أنها أشرعت أبواب شرفاتها المغلقة الآن وأطلت .. ولكن .............. مجرد أمنيات
بدأت أفكاري بالتضاؤل وأخذت صورتها بالانحسار بين أجفان عينيَّ التي أطبقهما النعاس ولم أقاوم النوم على أمل الاستيقاظ لغدٍ تكون فيه النوافذ مشرعة ...
استيقظت من رقاد مشوب بعلَّة ألقت عواهنها على جوارح بدت شبه مشلولة .. يالهذا الصباح المثقل بألم التوجع وفقدان التجانس , شعرت برغبة متدافعة لتقليب حاسوبي .. كان أول ما قراءته طلسم انقض على هدوء صباحي .. كانت هي المرسلة : (( شرفاتي ليست مشرعة على الورد بل مغلقة على شوك النحل الدائر حول ورودي .. التواصل سيأخذ منك الترتيب .. والترتيب يحتاج إلى أبجدية بدورها تحتاج إلى فهم العوالق .. وهكذا فكل المتواليات شئت أم أبيتَ يحكمها تجانس المصير ومصير التجانس .. أنا هنا لا أسوق الأعذار لغيابي لأن الأعذار تلقى للاختصار وترتيب الفهم ولست بحاجة إلى ترتيب الأرتب وشد التلقي .. أنا مهووسة بجنون الإدراك الخفي وخفة لمعان الكلمات ))
كانت كلماتها معزوفة خيال دفعتني إلى انتشال لفافة التبغ قبل الإفطار لوقع أسرار غموض فطنتها العميق وجمال ترتيبها التراكيب بصيغة تدعو للاستغراب حد الدهشة..جعلتْ لعباراتها عقلاً يفهم الأمور والتفاصيل العالقة وآمنتْ بالمصير ..فعلاً هي مهووسة .. ليس فقط بالإدراك وإنما بالجمال المنبعث من ملامح كلماتها.. ترى كم وجهاً جميلاً يمتلكُ قلبها ؟؟..وكم لغةً وطُلسماً يحوي قلمها ؟؟..
رغم وابل الأسئلة التي أمطرها عقلي ورغم هذا الصباح الذي بدا لي من البداية ثقيلاً ألا أنني شعرتُ بالبهجة فبعدما رسمتُ ملامحها البريئة على جدران غرفتي وبعدما احتضنت عينيَّ طيف كلماتها .. شعرتُ بالارتياح ...
يا لها من رسالة !! كما لو إنني قد قرأتُ بيتاً شعرياً مليئاً بالطلاسم والألغاز التي تحتاج معاجم لتفسيرها..نظرتُ إلى الجدار مرة أخرى والفضول يساورني .. ترى كيف تبدو ؟
لم أعش سحراً كهذا وأنا البارع في فك طلاسم الوجوه .... امممممم .. (( بانتظار ما ينهمر هناك سيكون موعد الألق في الوجوه مثمراً ... وعقدة الفم تمتد كسراب تاه في حروفه )) .. كانت الدهشة تصل لآخرها ... يا للعبة الألغاز هذه ... كتبتُ العبارة على ورقة كنت استدنتها من دفترٍ قديم يحتفي بما لذ وطاب من تراجيديا الحروف .. وبدأتُ أسطر ما يتناهى له رأسي .. ( الانهمار ... الألق .... الإثمار... الفم .... الحروف ..) ما العلاقة بين هذه الأركان ؟ .. صرت أركبها بطرق مختلفة أحرر بعضها من قبضة البعض الآخر أرسم خطوطاً متقاطعة ما بين الانهمار وألقه من جهة وبين حروف الفم من جهة أخرى ...ثم أمحو فأخط ... و أمحو وأخط .... وهكذا حتى استفاقت جرائد الصباح تحت عتبة الباب بعد طرقٍ خفيفٍ ... هرعت إلى الباب أفتحه .. أخذت الجرائد .... غير عابئ بما احتوت من أخبارها فما لدي هو أحرى بالعبء .... أكملتُ ما بدأتُ بلغة الأرقام ... دون جدوى .... ترفقت قليلاً بورقتي .... أطلت النظر لها ... سخطت عليها فكورتها ورميت بها بعيداً وعدت أستجلي جرائدي ... فرَّقتُ صفحاتها كعادتي ... لا شيء مهم اليوم ذهبت لتحضير كأسي فهو في موعده لا يتأخر عني وأنا أقطع المسافة بين بابين مشياً قابضاً على كأسي الصباحي وماراً لمرات عديدة على صفحات الجرائد المنتشرة على الأرض .... يالسذاجتي من أين ورثت هذه العادة في القراءة ؟؟؟؟؟؟
مروراً بين هذا وذاك استوقفتني فجأة كلمات نشرت في ركن إحدى الصفحات (( ينعقد الملتقى القصصي في الساحة الخضراء في الهواء الطلق )) رباااااااااااااااااه هذا هو الموعد ....
تباً لها حتى المواعيد متاهة في الرأس ... امتلاء حد التورم في التلاشي .... في الاختباء خلف الكلمات ... أية امرأة هي هذه التي تعشق التخفي دون مواربة ... دون حرج ... ودون تفكير بالتكوّر ... نظرت لساعتي فالموعد اقترب مرة أخرى ارتديت ملابسي بسرعة غير معتادة وتوجهت إلى الباب مسرعاً حتى أنني دهست دفتري القديم ضارباً بأوراقه عرض الجدار الأيمن للباب .... ونزلت ...........
اختصرتُ خطواتي رغم المسافات الطويلة .. وبسبب تلكَ السرعة العمياء نسيتُ أن آخذ محفظة نقودي لأستأجر سيارة توصلني في الوقت المناسب..أجبرتني قدمي على الصمود .. وبدأتْ ترشدني إلى مكان لا أعرف أين يكون .. لا أعرف عنه سوى أنه مكان تنبعثُ منهُ الحياة..مليء بالاخضرار .. صادفني رجل مسنٌّ لم يستطع عبور الشارع .. كنتُ أريد أن أساعده وعقلي غارق في التفكير بالموعد .. مشيتُ ثم رجعت إليه .. أمسكتُ يده ونقلتهُ للجهة الأخرى .. قال كما لو أنه يشكرني (( لا تكنْ عجولاً فإن أجمل الأشياء هي تلك التي تأتي بالصدفة يا بني )) لم ينطقْ لساني بعد سماع هذه العبارة أي جواب .. لا أعلم ربما رآني على عجلةٍ من أمري؟؟ .. ربما هي تلك الصدفة التي عشتُ لحظاتها بين الفضول والانتظار .. انتظار تلك السيدة الذكية .. ويا للصدفة إذ بينما كنتُ أمشي وإذا بصديقي أحمد يناديني من سيارته .. قائلاً :
ــ ما بك اليوم ؟ لست على طبيعتك , ملابسك ليست مرتبة..هل ذهبتْ أناقتك مع أيام الجامعة ؟ ، ويبتسم..
أجبتهُ :
ــ يا صديقي تأخرتُ على موعد في ساحة خضراء ..
سألني عن المكان كي يوصلني لكنني أخبرتهُ بأنه في مكان ما..استغرب هذا الوصف لكنهُ لم يجعلني أقنطُ في البحث وساعدني.. وصلنا لساحة كبيرة بدت مزدحمة بالناس , فقلت له :
ــ هذا المكان لا يوجد غيره..
نظراتهُ كانت توحي لي بأنني أتصرف بجنون !! دخلنا الحفل وشغلنا مقعدين للجلوس .. لا يوجد غير الفضول الذي رُسم على وجهي وعلامات الاستفهام تدور في رأسي بحثاً عن الإجابة..
إجابة تريح هذا الرأس وتوقفه عن الدوار .... وما هي إلا لحظات حتى ابتدأت أعمال الملتقى وصعد مقرر الجلسة ممسكاً كتاباً بطبعته الأولى ليُنبأ الحاضرين بمن سيقدم قصته معرِفاً به بطريقة تبدو غريبة بعض الشيء .... طريقة لم تغب عني إطلاقاً ... أحسست بغرابتها قريبة مني بل إني أعيش فيها .... وبدت كلماته كأنها مسارٌ لحياتي بل انعطافة لهذا المسار .... ما أبدعه حين يرسم لي مساراً منعطفاً بلحظة واحدة .... حتى أخذت شفتاي تردد معه ما يقول
(( قد تبدو الأشياء في حقيقتها على عكس ما نتصور تماماً ، العالم كمـا نتصوره قـد يخدعنا بشكل لا يمكن تصديقه )) بلا وعي أردد معه ... وبلا وعي أبصرتها تتسلق المنصة بمشية الواثق ونظرة عين لم تصوب حدقتها إلا عليّ .. وبلا وعي تماماً صرخت واقفاً وسط الحاضرين :
ــ إنها هي ...
بين دهشة الحاضرين وابتسامتها وبين إحساسي بمن حولي طوق فرحتي خجل .. جلست موزعاً بين الكرسي وهو يشدني إليه وبين جنون يدفعني إلى الصعود إليها لأفرغ كل دوار رأسي عليها وبين يديها ... وبين هذا وذاك قطعت كلماتها أنين الصمت في رأسي ....
((هكذا هي الأشياء تتشظى بين أعيينا فنبصر بعضها بحقيقة البعض الآخر إلا أننا لا نرسم منها كاملة إلا صورة مغرر بها ... صورة أخرى لا تمت بصلة للصورة الأصلية للأشياء ..... ))
تسمرتُ على الكرسي طوال الجلسة وحتى بعد أن انتهت وبدأ الحاضرون بالتجمهر حولها بقيت أزيد سرعة الدوران في رأسي لتفرغ كل الفراغ الذي احتواه ليستعد لفراغ آخر لم أشعر بمن حولي بيد أني أشعر بظلّ يتطاول بين الجمع ... أشعر بأن وجهي المعلق في ملفي الأنترنيتي قد أنصفني اليوم فصار لي علامة دالة على انعطاف آخر .. أشعر بامرأة وقفت أمامي لتدعوني إلى جلسة أخرى من نوع آخر ....
ــ تعبتَ ؟
ــ كثيراً ... ما هذه المتاهة سيدتي ؟
ــ متاهة ؟ بل هو عالمك سيدي .. ألم تسمعني وأنا أتكلم عن قصتي ؟
ــ بلى سمعت .... ولكن لماذا أنا ؟
ــ لا أعرف ... ربما هو القدر ... لكنه قدرٌ ممتع .... ألم تشعر بإمتاعه ؟
ــ بلى شعرت
ربما كنت أغالط نفسي بحقيقة كونه ممتعاً .. ربما ليس ممتعاً بقدر ما كان مؤلماً ... لأول مرة أفقد القدرة على توصيف الأشياء التي أشعر بها .
كان المساء مربكاً جداً .. فما حمله الصباح كان غير اعتيادي إطلاقاً .. تلك القاصّة وكيف كانت شبيهة بها لهذه الدرجة !! ولهفتي للقائها المقبل الذي بقي مشرعاً على أبواب احتمالات الفراغ من الانشغال كما اتفقنا معاً .. تحسست جيبي للتأكد من وجود البطاقة التعريفية خاصتها .. نعم ها هي ذي .. للمواعيد المؤجلة لذة أيضاً .. لعلها لذة الترقب .. وهكذا محاوراً نفسي دخلت غرفتي لأجلس أمام حاسوبي متسائلاً :
من هذه الكائنة تحت ستار المعاني ؟ لابد لي من استفزاز بواطن أحداثها وأزمنة حوادثها .. لا يجدر بي الوقوف على أطلال الكلمات وبحث المعاني سأهجم بكل مفردات الأنساق وألباب الرموز لأتبين حجم تداعي صورها المتباينة امتدت أناملي إلى لوحة المفاتيح ونقشت رسالتي (( الصياغة ضالة الباحث عن الجمال أما ما أثبتهِ من أن الاعتذار هو الاختصار فاسمحي لي سيدتي قائلاً .. الاعتذار هو بداية التواصل وأنا هنا لا أريد اعتذاراً بقدر ولعي الجامح بتنسيق الرؤى لعل القادم سيكون بداية إزاحة الأوهام ورسم صور اللقاء .. وفق رؤيتي .. الحياة أمكنة جميلة تتسع لكل الأشياء .. هكذا تقترن النفائس وتتخبط الأحلام فلا تدعي إسرافكِ في التناول يضيع عليك فرص الاستكشاف .. وددت مرة أخرى أن أعترف لك ببراءة اختراع .
شعرت بتعب اليوم كله يتسلل إليّ , ومللت الفراغ الذي يملأ انتظاري لها فتوجهت مجدداً إلى سريري.
اليوم أخذت قسطاً من الراحة كما أريد ..
استيقظت في صفاء تام لا يشوبه تعكير من أحلام حديث نفسي ونتاج ما فكرت فيه الأمس أو حتى كوابيس معتادة ..
علقت يدي على مقبض كوب قهوتي ـ الغريب كصاحبه ـ كما يحلو لأصدقائي أن يسموه ..
اليوم أحتاج لأن أدع روحي تقبع بسلام .. نعم أحتاج ذلك ..
سأترك جلوسي أمام تلك الشاشة الرشيقة .. خوفاً من انفجار بركاني , تحديداً بعد أن حشوت صندوقها الوارد بثرثرتي أمس ...
وظللت أتساءل .. هل ما قلته الأمس يضر برجولتي ؟
لماذا أتيت ؟!
لا شئ عندي .....
مجدداً .. أوواه ...لازلت أتأبط الكثير .. لم يتغير شي
انتابني شعور يشبه التذمر... يقارب الاحتجاج ... هل تراني بت أسيراً لهذا العلبة الالكترونية السوداء ؟ ... أي سحر هناك يجتذبني؟؟ ... هل تراني بدأت أدخل في دوامتها وأنسحب شيئاً فشيئاً إلى عالم افتراضي ؟ .. الخيال لا يغني عن الواقع والحلم أبداً لا يحل محل الحقيقة ... هل نرتاح هناك دون هنا لأننا نحن من نختار ونصنع وإن لم يعجبنا نغلق ونرحل ... أما من واقعنا فلا هروب ؟ .. أرسلت مندوباً من رئتاي يعبر عن ما يختلج في داخلي من آهات ودفاتر لا تريد أن تفتح , و جدران ترفض أن تنهار .. حدقت طويلاً في السقف ثم بسرعة انتبهت لنفسي .. أي سخافة هذه ..إنني فعلاً أصنع صورة مدعاة للشفقة ...حركت رأسي يميناً وشمالاً لأقطع مساراً يريد أن يجتذبني إلى متاهة لا تطاق .... قادم أنا إليك أيها العالم الذي دائماً ما كنت أرتاح فيك وأستهلك الأفكار والكلمات تماماً كما الحلويات .. أصدقاء حسب الطلب ... مواضيع حسب الطلب ... وحياة حسب الطلب .. لولا ذلك الاستثناء .. نعم .. بالنسبة لي ظهر كاستثناء .. فهل تراني أستطيع أن أجاري ذلك الاستثناء أم تراها بسرعة ستنفد بضاعتي وأُلفظ بعيداً وأعود وحيداً أنا والسراب ....
شعرت بلذة وأنا أحوم حول هذه الهواجس الفارغات ... يالني من مستهلك جبان ... لكن يروق لي أن أستمر وأتسمر على جدارها .. أفرغ شحنة وأملأ بالاً ... يا إلهي .. ليس الآن ... أرجوكِ لا تَقدُمي الآن .... لا لا لا ... عبثاً أحاول .. عبثاً أستجدي وأترجى ... ستقدم ويحلو لها القدوم .. ستسكن ويطيب لها المكوث ... لتجثم على صدري وتنأى بي عن كل العالم فتقذفني في بحر لجي من الآلام ... لم أعد أحتمل هذه الموجة من السعال .. تذكرني دوماً بإغفالي موعدي مع الطبيب .. ذلك الموعد السخيف .. وبصوت يلح داخلي عن ابنة خالتي ماجدة التي كانت في السابعة عشر من عمرها حين أخبرها الأطباء بأنه لم يبق لها إلا شهر وتنتقل إلى رحمة الله .. فأخرجوها من المستشفى قالوا لها دعي أهلك يشبعون منك واشبعي أنت منهم ... وأوصوا خالتي رحمها الله ألا يُمنع عنها أي شيء تشتهيه مهما كان ... ابنة خالتي ماجدة تحضِّر الآن رسالة تخرجها من الجامعة .... طلبت نفسي ضحكة لكن خنقها السعال وامتلأت عيني بالعبرات حتى لم أعد أبصر أي شيء غير وميض خافت من ذلك الإطار .... ثم اختفى ...
لا شيء آخر غير شعوري بالإرهاق وأنا مُمددّ على ذلك السرير .. أغلقُ جفون عيني لأرى شبح وجه ( آية من سورة.... ) المرسوم على جدار غرفتي..
يا الهي !!..هل ستكون حالتي يُرثى لها كحالة ابنة خالتي ماجدة ؟ أتذكرها حينما تنسى آلامها بابتسامة صغيرة تراها على شفاه الحاضرين المواسين لها .. كأن جميع أيامي قد اختُصرت في هذا اليوم .. لم يأتِ أحد حتى الآن ليراني.. لأنني كنتُ بغرفة شقتي وحيداً.. أُغمي عليّ .. لم أعلم حين نقلني جاري محمد إلى المستشفى .. إنه رجل طيب كبير في السن يسكن مع زوجته اللطيفة في الطابق السفلي .. لولاهما لبقيتُ أعاني من أحلامي تلك مع احتمالات الرحيل بأقرب وقتْ .. أسمع قلبي ينبض لكنه صار وَهِناً وأقل جلادة من قبل ..
أتى المساء , رحلت الشمس لتُلقي التحية على بلدٍ آخر .. ترى هل ستترك لي رسالة أخرى منقوشة بحجر القمر على رمال البحر ؟
آآآه رجعتُ لأفكر بذلك العالم مهملاً حالي .. بدأتْ ترتفع حرارتي وشعرتُ بالعطش كما لو أنني في صحراء .. مددتُ يدي لأتناول الكأس فإذا به ينزلق منها .. دخلت الممرضة بوجهٍ خائف..
ــ ماذا حصل ؟ ما هذا الصوت ؟
ــ يا آنسة أوقعتُ الكأس بالخطأ فهلا تجلبين لي كأس ماءٍ آخر..من فضلكِ ؟
ــ بالطبع , سأجلبه في ثواني.
ــ شكراً لكِ
رنَّ هاتفي .. أنهُ أحمد لابد أنهُ ذهب لزيارتي في شقتي ولم يجدني .. أجبتهُ وكان يسأل عني .. إحساسي بمحله لقد ذهب لرؤيتي في الشقة ولم يجدني .. أخبرته بأنني في المستشفى واستبد الصمت في فمي ولم أنطق بعدها كلمة أخرى ..
ــ ألووو صديقي لمَ لا تُجيب.. الووو ..
عندها دخلت الممرضة وبيدها كأس الماء .. وأجابتْ على الهاتف
ــ الوووو.. أعتذر منك صديقك لا يستطيع محادثتك الآن .. هو متعب فحسب
ــ حسناً ، لقد قلقتُ عليه لأنه سكت فجأة .. سآتي غداً لزيارته .. شكراً لك أختي
ــ لا شكر على واجب .
كم هو مؤلم هذا الشعور عندما تُحدّث شخصاً ما وأنت تمسك بيدك الهاتف وفجأة تخونك عيناك تاركةً هذا العالم بلا وداع..
لا أدري كم مضى عليهما وهما مغلقتان ....
لكن نور النهار ....و وجه أحمد و هو جالس على كرسي في طرف السرير ....و ابتسامته العريضة التي استقبل بها عودتي للصحو ....كونت صورة انبأتني بمرور ساعات على غيابي الاضطراري عن اليقظة ....
ــ صباح الخير ... و شعرتُ بيد رقيقة تمسك بمعصمي مطمئنة ....كانت بالقرب مني ممرضة لم أرها بالأمس ....بدت ممشوقة القوام من حيث استسلمتُ لرقادي ... أكملت خطوات عملها ... ووجهت الحديث لأحمد : لا داعي للقلق ...هو بخير اليوم ...كانت نوبة انخفاضٍ حاد في الضغط ..لابد أنه كان يهمل نفسه في الآونة الأخيرة ....الطبيب في طريقه إليكم وأظن أنه سيسمح له بالمغادرة ...
سمعت أحمد يشكر اهتمامها ....فيما لم أحول بصري عن وجهها الجميل ....أحسست بالسعادة و أنا ألامس بروحي صباحاً يحمل وجوهاً جميلة و أخرى صديقة ...وأغمضت عينيّ انغماساً في الفكرة....
ــ ما الأمر ؟... لماذا يبدو عليك الوهن هكذا ؟...أنت شاحب ...و لابد أنك قد أهملت نفسك كما قالت ....حتى ملابسك تبدو فضفاضة ...أنا أعرفك جيداً حين يشتعل جنونك بشيء ما ...تحرق السجائر و تحرق نفسك بالقهوة فقط ....ترى ما الجديد هذه المرة ؟ ذكرني كلام أحمد بصورتها على الحائط ...و تبسمت .........
سألني أحمد ما سر ابتسامتي تلك ... فأومأت براسي لاشيء ... ألح علّي بان أنوه له عما يجول في خاطري ... ولكني شعرت بالخجل .... ما عساني أقول له ... هل أقولَ لهُ بأن قلبي يهفو لتلك الآية التي لم تنزل ولا في أية سورة ... هل أقول له إن عقلي شتته التفكير في ما وراء الخيال ... هل أقول له إني رسمت صورة على لوح بشيء من الفحم الأسود من محض خيالي وأخذت امني نفسي معها الأماني ... هناك أقوالٌ كثيرة ليتني أستطيع أن أبوح بها لأحد ولكني خفت على نفسي وعلى هيبتي التي أصبحت مقرونةً بتلك الإنسانة الشبحية التي أصبح ظلها يرافقني كما روحي والتي نسجت أعشاش خيالها في كياني وأصابني بالهزال ... فأنا الآن سجينها وسجين ذلك اللوح ... أخذت عيناي ترمقان تلك الممرضة وهي تتحرك بتلك الخطوات الرشيقة ممتلئة بحيوية المنقذ الذي يحاول المساعدة ولباقة المتحدث في شرح حالة المرض ومسبباته ... مما جعلني أتذكرها حين تقوم بالشرح والتبرير ووضع المسميات لتوضيح الصورة للمتلقي ... لكن خيالي المريض كما جسدي أخذ يسول لهُ شيطانه ماذا لو أنها كانت هي ... ؟؟؟
أترى تكون القصدية لعبت دورها هنا ...؟؟؟ وأن القدر هو من جعلني أمرض لكي ألتقي بها هنا ...؟؟؟
لكني سرعان ما أفقت من خيالاتي المريضة تلك على صوت أحمد وهو يناديني :
ــ ما بالك يا صديقي لمَ تسهب بالنظر , الطبيب يقف فوق رأسك يحدثك وأنت غير آبه به ...
استرجعت نظري إليه وإلى الطبيب فاعتذرت لهما عن شرودي ... فابتسم الطبيب حينها وقال لي :
ــ لولا معرفتي بأعراض ما يصيبك الآن من مرض لقلت أنك عاشق ... فملامح العشق تبدو عليك ... ما بالك يا رجل لِمَ كل هذا الوهن ... إن كل ما يصيبك هو أعراض ضغط منخفض فقط ... فلما أنت هكذا إنهض هيا انهض من رُقادك هذا فلا بأس عليك قم واجمع أشياءك واخرج إلى البيت فأنت في تحسن الآن وليس من داعٍ لبقائك هنا ...
ضحكنا جميعاً مما قاله الطبيب ... وأمر أحمد أن يأخذني إلى مطعم جيد ويطلب لي غداء دسماً مع كوب من الشاي لكي أستعيد قواي... خرجنا من باب المستشفى ... ركبنا السيارة ونحن نقصد المنزل بعد أن ألح أحمد على دعوتي إلى المطعم لكني رفضت لأني لم أكن في وضع يسمح لي بدخول مكان عام فقد كان شكلي غير مرتب وملابسي مجعدة من أثر النوم .. وأخذ احمد يمطرني بأسئلته التي لم تتوقف ملحًاً علّي بالإجابة ... فأجبته :
ــ ليس هناك شيء سوى أنني مرهق من ضغط العمل ...
فأشاح لي بإصبعه ...
ــ ضغط العمل ... !!! أنت يفعل بك العمل كل تلك الأفاعيل وأنت من أنت ... !!!إنك لم تَكلَ يوماً قط ... فقد قضيت نصف عمرك بالعمل لم أعهد منك مثل هذا الشحوب والتعب ولم ترقد يوماً من مرض ... فقد مررت بأزمات كثار ولم يصب الوهن عزمك ... أراني يا صديقي ـ بعد ان هز رأسه مبتسماً ـ أنظر إلى ما وراء الجبل ... وما وراء الجبل ذاك يُشير إلى وجود امرأة ... وضحك بصوت عالٍ وهو يخزني بيده في جنبي
ــ أليست امرأة بالله عليك قل هااااا ...
فأبديت إنكاري الشديد وأنا صادق في إنكاري هي لم تكن امرأة ...فأنا ما اعتبرتها امرأة ... هي فقط عندي محض خيال أرقني .. هي جنية لا تظهر إلا لي ولو أني حدثت أحداً عنها لكان استخف بي ... وهذا ما يدعوني إلى السكوت وعدم مشاركة احد بما يجول في نفسي .
كانت إغفاءة طويلة استغرقت المتبقي من النهار وبعض من الليل .. الساعة تشير إلى العاشرة مساءً .. شعرت بجوع شديد .. لم أتناول وجبة الغداء وها هو المساء .. هبطت من شقتي رغبة في وجبة عشاء وهواء جديد أستنشقه , الكرادة تستيقظ تواً .. وكأنه بداية النهار فيه .. مطعم هادئ جميل وفى حق ضيافة هذا الزائر الخارج من أزمة صحية , وأطلقت رغبتي الجامحة في التسكع أقصى حدودها , كنت أتأمل الوجوه الكثيرة التي تقع حيز إبصاري , أتأملها بذات العمق الذي أستنشق الهواء وكأني ولدت للتو , رغبة جارفة للاستنشاق والتعرف على الوجوه , الوجوه تحمل قصصاً , تخفيها وتظهرها بالقدر ذاته , الأمر مرهون فقط بنا كأدوات استقبال , كذوات قادرة على التقاط البث , فتاة عشرينية تمر من أمامي أراهن نفسي على قدرتي في توقع قصتها , لكنني أخسر رهاني , لم أستطع قراءة قصتها من وجهها , هناك عطب ما لحق بقدرتي على قراءة الوجوه , أحياناً ما يحدث ذلك لي , الأمر ليس بالمقلق ستعود الأمور لطبيعتها حتما , وكأن ذلك جعلني أفكر في العودة للمنزل , فكرة جيدة , فما دمت غير قادر على قراءة هذه الوجوه ربما أواسي نفسي بقراءة الوجوه المخفية التي تأتي من وراء برزخ الأرقام والكابلات .
الاستفهام له وجه أيضاً كما وجوهنا نحن البشر , بل له أكثر من وجه وهذا ما يجعله أكثر شبهاً بنا , ها هو استفهامها يطل على نافذة ملفي :
ــ براءة اختراع ؟؟
فأشعر بنشوة , الاستفهام يعني فيما يعنيه الاحتياج وإن كان يلبس رداء الإجابة , أدخل ملفها فأجده مضاءً بالضوء الأخضر , أهااا هي موجودة إذن , أن تشعر بالنشوة شئ وأن تنتشي نشوتك تلك فشئ آخر , دونتُ دون عناء :
ــ نعم , وإن كنتُ أشك ببراءة أي اختراع حتى الآن , لعل الأنسب أن تكون براعة , هذا جزء من معطى اعتيادنا على العالم كما ورثناه بأخطائه ومفرداته , ثم أنكِ لست بحاجة للاستفهام عن سبب رغبتي في منحك هذه البراءة / البراعة , كنتِ ولا زلتِ معتدة بذكائكِ ولك الحق , كل ما تنجزيه من أشكال التواصل يشكل تحدياً لذكاء الآخرين , دعكِ من كل ذلك , ما رأيكِ بلعبة ؟
يبدو أن رسالتي هذه كانت الباعث لمحاورة ستمتد لساعات , إذ جاء ردها :
ــ يبدو لي أنك أذكى من محاولة استدراج معلومة تتعلق بــ ببراءة / براعة , دعكَ من التلاعب البدئي والتدليل النهائي , ما يبنى على هكذا معادلات لا يجدي كبرهان معي , أعرف جزءً من أصول لعبتك هذه , الجزء الذي يجعلني أحاورك حتى الآن , مدركة أنك لا تحاور أي أحد , عموماً هات لعبتك وقبل ذلك أخبرني هل من غاية منها ؟
ــ صديقتي , اللعبة تكمن في التقاط ما يمكن التقاطه من خلال محاوراتنا , هي لعبتنا ذاتها التي مارسناها طيلة الأيام السابقة , ما يختلف أنها ـ وهنا تكمن الغاية ـ ستكون مقابل ثمن , الثمن يترتب على الطرف الخاسر , والثمن هو معلومة عن الخاسر يعطيها للرابح بصدر رحب .
ــ ههههه , تريد أن تتعرف أكثر للمجهولة التي أمامك إذن , لا بأس بتواضعك واعترافك الضمني هذا سفيراً لقبول العرض , تفضل وابدأ .
ــ ههههه , حسناً حسناً , قبولك العرض يكفيني مهمة إثبات رغبتكِ الموازية أيضاً , والتعرف بشكل أعمق ليس جنحة كما أعلم من معرفتي بالقانون الجنائي ههههه ... ولنبدأ إذن / ترى ما مدى صدقنا في تفسير الأشياء , وهل الأشياء بالفعل تنقاد لمهمة التفسير الساذجة فحسب أم تراها تحتاج للركون إلى التأويل بوصفه فعل تحقيق آخر , نحن نرى الشئ الواحد كل حسب ذاته , بمعنى أننا نرى الشئ الواحد بعدة أشكال وتصورات ذهنية تجعل من هذا الواحد مختلفاً بيني وبينك على أقل احتمال .
ــ أعتقد أن الحاجة للتفسير تفي بمتطلبات الإلمام بحقائق الأشياء , السبب في الاختلاف يكمن من خلل الذوات ( ذاتي وذاتك مثلاً ) في تتبع أجزاء فعل تحقيق التصور , في نقطة ما قد أخطئ أنا وتصيب أنت وهذا ما يجعل تصورك أدق وبالتالي أصح ... لن نحتاج حينها للتأويل فهو يقود لمزيد من الاضطراب في الرؤية .
ــ ولكنكِ أغفلت شيئاً مهماً , وهو حق الذات في تصوير الأشياء , في تصوير العالم , كلامكِ هذا يقودنا لفهم أن الإنسان ذا وظيفة سلبية تماماً , هو فقط عليه أن يستلم الإشارات من الأشياء من العالم ليعرفها عبر التفسير , مثلاً لابد لكِ أن تلتقطي مني ما تعبر عنه ذاتي لتعرفيني , بهذه الطريقة فقط يمكنكِ معرفتي .. وهو أمر ليس بالصحيح كما أعتقد , إذ ماذا عن قابلية الكذب ؟ نحن نكذب وقد يكون العالم أيضاً يكذب , ماذا عن معرفتكِ بأشخاص لا يودون معرفتكِ بهم هذه ؟ أليست ذاتكِ هي الفاعل الإيجابي هنا ؟؟
وتوقفت عن المحاورة بعض الوقت .. تأخرت إجابتها .. ثم بدا أن هناك رسالة منها , بالفعل هي منها :
ــ أعترف أنكَ أربكتني , حسناً هذا لا يعني أنني عجزت عن الإجابة ولكن لا مزاج لدي في تتبع الاعتراض عليك , سأقدم لك المعلومة ولك أن تعتبرها هدية لبراءة اختراع اللعبة لا ثمن لانتصار قد تتوهمه .... أنا أعمل صحفية .
ــ هههههههه ... لا يمكن لامرأة أن تعترف بهزيمة .. لا يمكن أبداً .. حسناً سأقبل توصيفك الثمن على هذا النحو .. يبدو أن الوقت تأخر .. تصبحين على خير .
ــ بل إنكَ لمولع بالالتفاف على الحقائق هههه .. تصبح على خير .
شعرت بالرضا .. وانتشت نفسي .. كانت محاورة رائعة .. تجعل الذهن يتقد .. وتجعلني أشعر بالزهو من انتصار ذكائي عليها .. هي صحفية إذن .. جميل .