إذاعة بغداد بثّت برامجها بصفة رسمية في ثلاثينيات القرن الماضي بعد مرحلة تجريبية استمرت أشهرا معدودة.
الأستوديو الحالي لإذاعة بغداد
أحدث بثٍّ لإذاعة بغداد انطلق يوم الأربعاء الأول من يوليو/تموز 1936 بحضور ملك العراق آنذاك غازي بن فيصل الأول، وكان تحولًا سياسيًّا واجتماعيًّا مهمًّا وقتئذ، في ظل محدوديَّة التقنيات وشحّ اطلاع الناس على الموجود منها.
وأسهم هذا الحدث في شدّ الانتباه وأدّى لاحقا إلى نقلة كبيرة في الوعي الاجتماعي، كما عزز مكانة الثقة الجمعية بالتطلع إلى غد أفضل، وقد ساعدت الإذاعة على ربط العراق بمحيطه وبالعالم أجمع، وأنجزت كثيرا من النشاطات الإبداعية، وعززت أواصر التعليم، وجعلت المواطن العراقي ينظر بكثير من الشغف إلى دوره في المجتمع البشري العالمي.
وبثت الإذاعة برامجها بصفة رسمية بعد مرحلة تجريبية استمرت أشهرا معدودة، وهي ثاني إذاعة عربية بعد إذاعة صوت القاهرة التي أُسّست عام 1934، وسبقتها محاولة أخرى من الملك غازي الذي أسس إذاعة (قصر الزهور)، وكان يبث فيها آراءه وتعبيره عن حبه للوطن والقومية العربية، وكان يشجع على انتقاد سياسة بريطانيا في البلد، فقاموا بتصفيته عن طريق حادثة مفتعلة باصطدام سيارته بعمود كهرباء أودى بحياته.
وفي عام 1937 صدر نظام جديد للإذاعة اللاسلكية العراقية، واستبدل اسم (محطة الإذاعة) بـ(دار الإذاعة)، وسنّ قانون الضريبة على كل مذياع قدره 500 فلس، وذلك لتمويل مصروفاتها، ووُزّع عدد من هذه الأجهزة على المحافظات العراقية والمدارس والأماكن المهمة.
وكان البث من دار الإذاعة العراقية غير منتظم في سنواتها الأولى إذ كانت تبث يومين في الأسبوع، وتوقفت مدة قصيرة قبل أن يزداد البث تدريجيا حتى أصبح يوميًّا في الأول من أغسطس/آب عام 1938. وقدمت السفارة البريطانية المعونات للعراق مثل المرسلات والأجهزة التقنية لإذاعة تجريبية جديدة فبدأت البث في بغداد في 16 أبريل/نيسان 1943، وكانت تفتتح برامجها صباحا بصوت بلبل ميكانيكي، واستمر الحال أكثر من 30 عاما، وكان الجمهور يعتقد أنه بلبل حقيقي وقد فقد بعد الغزو الأميركي للبلاد عام 2003.
خالد العيداني (يمين) وجمال الشرقي من رواد الإذاعة العراقية
الأوائل في الإذاعة
وكان من أوائل المذيعين في الإذاعة حسين الكيلاني ومحمد عبداللطيف، ومن أوائل الفنانين مطرب العراق الأول آنذاك محمد القبانجي والمونلوجست عزيز علي والمطربة سليمة مراد الملقبة بسليمة باشا، كذلك كان الفنان اليهودي العراقي صالح الكويتي يقدم بعض المعزوفات على آلة العود.
وفي وقت كانت فيه الإذاعة العراقية الوحيدة في البلاد على امتداد سنوات طويلة، نجد اليوم أكثر من 130 إذاعة حكومية وأهلية معظمها لا تتوفر فيها الشروط الرصينة والسليمة، وظهر هذا العدد الكبير بسبب الفوضى الإعلامية وانعدام وجود ضوابط للتأسيس وممارسة المهنة.
ويقول المذيع الرائد خالد العيداني الذي دخل الإذاعة في الأول من أغسطس/آب عام 1969 -للجزيرة نت- إنه دخل دورة إذاعية مدتها 3 أشهر لصقل موهبته وتعليمه كيفية التعامل مع المايكرفون وتعلم مخارج الحروف وإتقان اللغة.
وأشار العيداني إلى أن المذيع كان يزجّ به بادئ الأمر لتقديم كثير من البرامج المنوعة ونقل الأحداث في المناسبات، ثم تقديم الأخبار التي تعدّ المحطة الأهم له.
وعن الفارق بين مذيع التلفاز والإذاعة، يشير العيداني إلى أنه في الإذاعة يكون الصوت وتلوينه هو الأساس لأنه سيجعل المستمع يشاهد الأحداث عبر صوته وشرحه للموقف وأجواء الحدث على عكس التلفاز الذي ينشغل فيه المذيع بمظهره وملابسه لأن الصورة تتكلم.
فيصل يرى أن المذيع ليس "شهادة مهنية" بل نتاج عمل مضن وإمكانية وكفاءة وقدرة ذاتية ومواهب بالفطرة
أما شيخ المذيعين العراقيين غازي فيصل فيقول للجزيرة نت إنه "منذ أيام الدراسة المتوسطة كانت مواهبي في اللغة والخطابة والصوت الجميل المعبر بارزة جدا، وانتبه إليها معلمه حميد خلخال وتوقع له أن يصبح مذيعا".
وأشار فيصل إلى أنه تخصص بالبرامج الدينية ونقل مراسم الحج إلى مكة المكرمة، وأجرى مقابلات كثيرة مع الرؤوساء العرب، ويعتز جدا بحواره مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
ويعتقد فيصل أن العمل الإذاعي ليس "شهادة مهنية" تمنح ليصبح المرء مذيعًا، إنما هو عمل مضن وإمكانية وكفاءة وقدرة ذاتية ومجموعة مواهب بالفطرة ترفدها مقومات لاحقة، والمذيع رسالة لها أوجه عدة ولا يكتمل النجاح إلا بتضافرها، فالمذيع صوت ولغة وحضور والمذيع ثقافة وفطنة وإحاطة بالأحداث والمذيع سلامة نطق ولسان، المذيع ليس قارئ نشرة فحسب إنما يبرز نجاحه في ميادين الإذاعة الخارجية بشتى فعالياته السياسية والاجتماعية والثقافية.
وعن انطباعه عن العمل الإذاعي والإعلامي حاليا يقول فيصل "إذا كان العمل الإعلامي مشروطًا بخدمة خلق الله تعالى في مسار هادف ونبيل فهو علامة صحة، ولكننا في الوقت نفسه نلاحظ اليوم أن الاتجاهات التي تتبعها بعض هذه الوسائل هابطة ورخيصة وهدفها تجاري بحت وليس غير ذلك، وأنا شخصيًّا أعوّل على المسار الأول أما الثاني فعمره قصير ولا بد أن يهوي ويندثر".
المدرس: تعينت في الإذاعة بالمصادفة
مذيعة بالمصادفة
أما المذيعة المخضرمة أمل المدرس فتقول للجزيرة نت إنها دخلت إلى الإذاعة بالمصادفة عام 1962، وذلك عندما ذهبت مع زميلتها الممثلة المعروفة حاليا فوزية عارف، فسمع مدير الإذاعة آنذاك عبد الجبار ولي صوتها، وأعجب به وقال إنه صوت إذاعي جميل ويمتلك المقومات السليمة، وهكذا عُيّنت في الإذاعة.
وترى المدرس أن سرّ نجاح المذيع يكمن في الموهبة والدراسة وحب العمل وكذلك إتقان اللغة ومخارج الحروف والثقة الكبيرة بالنفس والشخصية المرموقة واحترام كبار المهنة والتعلم منهم.
من جهتها أشارت المذيعة المخضرمة كلادس يوسف، في حديثها للجزيرة نت، إلى أنها عملت في الإذاعة أكثر من 40 عاما دون أن ترتكب خطأ واحدا، وهي ليست بالمهمة اليسيرة.
وتقول إن من الأحداث اللافتة في حياتها دخول انقلابيين عسكريين إلى الإذاعة في الثامن من فبراير/شباط عام 1963 وإثارتهم الرعب في نفوس العاملين، وإطلاقهم النار على رئيس الوزراء آنذاك عبد الكريم قاسم في أحد أقسام الإذاعة، ووصفت ذلك اليوم بأنه يوم رعب حقيقي.
الحداد: العمل جار لتطوير إذاعة بغداد وجعلها أجمل شكلًا وأكثر تأثيرًا من خلال مواكبة التقنيات الحديثة
مشروع جديد
وقال مدير إذاعة بغداد حاليا رائد الحداد للجزيرة نت إن إذاعة جمهورية العراق أثّرت في دول المنطقة كافة، الخليج ودول الجوار، وكانت مؤثرة في ثقافات المنطقة، وأسست أبجدية العمل الإذاعي العربي، وواكبتها باقي الإذاعات الخليجية مستلهمة منها فن الإعلام وبناء الإذاعات، وفعلًا بُنيت إذاعات عدة على غرارها.
وأضاف الحداد أن الإذاعة العراقية أدّت -وما زالت- مهمتها الحقيقيَّة في أن تكون نبض الشارع وتلبّي احتياجاته الثقافية والفكرية والمتغيرات السياسية، مشيرا إلى أن "العمل جار لتطويرها وجعلها أجمل شكلًا وأكثر تأثيرًا من خلال مواكبة التقنيات الحديثة، من دون أن تتخلى عن هويتها وإرثها". وكشف عن أن "الخطة المقبلة ستتضمن استخدام أستوديوهات مرئية وعمل إذاعة يصل بثها إلى آخر بقعة في العالم".
خليل قال إنه ابتدع إشاعة من أجل إجراء حوار مع الموسيقار المصري الراحل محمد عبد الوهاب
وقال المذيع طه خليل -وهو من جيل ما بعد الرواد- للجزيرة نت إنه دخل الإذاعة بصفة مذيع مباشرة بعد أن لمست لجنة الاختبار جمالية صوته ودقة مخارج الحروف عنده، وقدّم وأعدّ كثيرا من البرامج الناجحة منها ليل العاشقين الذي يقدم بعد منتصف الليل وله جمهور واسع من الشباب واستمر سنوات طويلة، وبرنامج آخر اسمه "حوار" نجح فيه باستضافة موسيقار الأجيال الراحل محمد عبد الوهاب الذي كان يرفض اللقاءات والحوارات، "ولكني ابتدعت إشاعة قوية عن وفاته، فردّ عبدالوهاب (بعيد الشر عني) ورغم أنه تأثر ساعتئذ، ولكنه ظل ودودا معي في الحديث ثم انتبه وامتدح صوتي".
علاء محسن صاحب البرنامج المعمر "ستوديو 10"
وتحدث المخرج علاء محسن صاحب البرنامج المعمر "ستوديو 10" الذي انطلق في الأول من أبريل/نيسان عام 1996 وما زال مستمرا بكادره القديم نفسه تقريبا ويبث مباشرة على الهواء، وقال للجزيرة نت إن سبب نجاح برنامجه هو متابعة شؤون الأسر العراقية وهموم المجتمع بالدرجة الأساس، ولا يغفل أيضا عن تقديم الترفيه والتسلية بين الفواصل المتعددة على مدى ساعتين من العاشرة صباحا حتى الثانية عشرة ظهرا.
وأشار محسن إلى أن برنامجه صار منبرا للمواطنين لأنه يتابع مشكلاتهم ويحلّها مباشرة، مؤكدا أن البرنامج يديره 6 أشخاص بين مذيع ومخرج وفنيين.