الحرب الأهلية، والتنافس على العرش، وآثار وخيمة: (1481-1482م)
على الرغم من الاستقرار الداخلي العظيم الذي نعمت به الدولة العثمانية في عهد محمد الفاتح فإنَّه بموته دخلت الدولة في اضطرابٍ كبيرٍ كان من الممكن أن يعصف بها لولا لطف الله بالمسلمين! والسبب في هذا الاضطراب هو عدم وضوح الرؤية عند قادة الجيش والوزراء والشعب فيمن سيكون سلطان البلاد بعد وفاة القائد الكبير، وكان الفاتح قد ترك ولدين؛ الأكبر بايزيد، ويبلغ من العمر أربعةً وثلاثين عامًا، والأصغر چم، والبالغ من العمر ثلاثةً وعشرين عامًا[1].
كان الصدر الأعظم محمد قرامانلي مرافقًا للحملة العسكريَّة التي مات فيها الفاتح، فقرَّر إخفاء نبأ موت السلطان حتى لا تحدث فتنةٌ في الجيش أو الدولة؛ انتظارًا لأن يتسلَّم أحد الأبناء قيادة الدولة، وتُشير بعض المصادر إلى أنَّه كان يميل إلى تولية الابن الأصغر چم للسلطنة[2][3]، وعلى هذا يكون الهدف من تكتُّم خبر الموت هو إعطاء الفرصة لچم لكي يأتي من قونية البعيدة، التي كان واليًا عليها، ليتولَّى الحكم بدلًا من بايزيد الذي كان واليًا على أماسيا الأقرب.
حُمِل السلطان إلى إسطنبول بعد إخبار الجيش بتوقُّف الحملة لمرض السلطان، وأُدخل إلى قصره تحت حماية خدم الصدر الأعظم، ولكن اكتشف الإنكشارية موته، وشكُّوا في أنَّ الصدر الأعظم يُريد تولية چم للسلطنة، وحيث إنَّهم كانوا يُريدون بايزيد فإنَّهم قتلوا الصدر الأعظم، ونظَّموا مسيرةً في شوارع إسطنبول يُنادون بولاية بايزيد الحكم[4].
كانت هذه بوادر فتنةٍ كبيرة.. وصل الأمير بايزيد إلى إسطنبول يوم 20 مايو بعد وفاة والده بسبعة عشر يومًا، وكان الصدر الأعظم السابق إسحاق باشا قد اتَّفق مع قائد الإنكشاريَّة سنان أغا على تولية بايزيد للحكم، وبالفعل تمَّت هذه الولاية في اليوم التالي مباشرة؛ أي في يوم 21 مايو من عام 1481م، ليُصبح بايزيد هو السلطان بايزيد الثاني Bayezid II[5].
لم يقبل چم بهذه الولاية لبايزيد، فأسرع جامعًا أعوانه ليدخل بهم مدينة بورصا، فيُعلن نفسه سلطانًا هناك على الدولة العثمانية[6]، وأرسل إلى أخيه بايزيد الثاني يعرض عليه الصلح، ويقترح تقسيم الدولة إلى نصفين؛ أوروبِّي يحكمه بايزيد، وأناضولي يحكمه چم! رفض بايزيد بالطبع هذا الأمر[7]، ومِنْ ثَمَّ نشبت الحرب بين الأخوين، وهُزِم چم، ففرَّ إلى سلطان المماليك قايتباي في القاهرة[8]!
والواقع إنني أريد أن أقف هنا وقفةً مع هذا الحدث المؤسف، قبل الخوض في تفصيلاته، وآثاره، وسير الأحداث بعده. إنَّ هذا التنافس المذموم بين الأخوين كشف عن خطأين كبيرين للفاتح رحمه الله؛ أمَّا الأوَّل فهو أنَّه لم يُعْطِ وقتًا كافيًا من عمره لتربية أبنائه بالشكل الذي يليق بهذه الإمبراطوريَّة الكبيرة، وأمَّا الثاني فإنَّه لم يحسم بشكلٍ قطعيٍّ مسألة ولاية العهد، فصارت القضيَّة متروكةً للظروف والأهواء، وليس بهذه الطريقة تُدار الدول الكبرى.
كان بايزيد الثاني وچم يُمثِّلان النقيضين في الشخصيَّة؛ فبايزيد الثاني شديد الالتزام ببنود الشريعة، بل يُمكن أن يُقال: إنَّه متجاوزٌ في هذا إلى حدِّ الإفراط؛ وكان يُعرف «بالتقي» Pious[9]، وعلى الناحية الأخرى كان چم منفتحًا، إلى درجةٍ يتجاوز فيها كثيرًا من أمور الشريعة[10]، وكان أحدهما -بايزيد الثاني- محبًّا للسلام، إلى درجةٍ تفوق المطلوب أحيانًا[11]، بينما كان الآخر مقبلًا على الحرب إلى درجةٍ يستغربها المؤرِّخون الأوروبِّيُّون أنفسهم[12]، وكان على الفاتح أن يسعى لتحقيق التوازن السليم في شخصيَّة كلِّ واحدٍ منهما، خاصَّةً أن أحدهما سيحكم الإمبراطورية الكبرى، والتي يتربَّص بها أعداءٌ لا حصر لهم.
ثم إنَّ الفاتح أتبع هذا الخطأ بخطأٍ أكبر عندما لم يُعيِّن بشكلٍ واضحٍ وليَّ عهده، وهذا أمرٌ عجيبٌ لقائدٍ محنَّكٍ مثل الفاتح! يتعجَّب المؤلِّف الأميركي ديڤيد تشيلدرس David Childress من هذا الأمر فيقول: «مات السلطان العثماني محمد الفاتح عام 1481م بعد أن فشل في توضيح الإجابة على سؤال الخلافة في زعامة هذه الإمبراطوريَّة العثمانيَّة القويَّة الجديدة»[13]! ترك الفاتح المعاصرين له، والمؤرِّخين من بعده، يسلكون مسالك الظنِّ لمن ينبغي أن يكون حاكم البلاد بعد وفاة السلطان الكبير.
يرى بعضهم أنَّ محمدًا الفاتح كان يُفضِّل (چم) مع كونه الأصغر؛ لشجاعته، وكذلك لانفتاحه وتفهُّمه لواقع البلاد[14][15]. ويرى آخرون أنَّ الفاتح كان يُفضِّل أن يكون بايزيد خليفته، وجزم القَرماني بذلك[16].
لقد قامت بين الأخوين حربان؛ كانت الأولى في 1481م، والثانية في 1482م، وانتهت الحربان بانتصار بايزيد الثاني، وتمكُّنه من السيطرة على العرش في كامل البلاد، ولجأ چم إلى أعداء الدولة العثمانيَّة؛ فلجأ أوَّلًا إلى المماليك في مصر، الذين رحبوا بقدومه لحدوث توتُّرٍ بينهم وبين الدولة العثمانية نتيجة نزاعاتٍ حول الحدود، ثم لجأ ثانيةً -وللعجب!- إلى فرسان القديس يوحنا في رودس، أحد ألدِّ أعداء الدولة العثمانية والمسلمين، ليستعين بهم على أخيه! ولكنَّهم غدروا به وقايضوا عليه أخاه بايزيد، الذي قَبِل دفعَ خمسٍ وأربعين ألف دوكا ذهبيَّة سنويًّا لهم مقابل احتجازه عندهم[17]!
انتهت الحرب الأهلية، ولكن هذا لم يكن بلا ثمن، بل كان الثمن باهظًا! ويمكن أن نرصد هذه الآثار المريرة للشقاق الذي دار بين الأخوين:
1. امتلك فرسان القديس يوحنا ورقة ضغطٍ قويَّةٍ أَمِنُوا بها جانب الدولة العثمانية، وبينما كان من المتوقَّع أن يعود العثمانيون لتكرار محاولة فتح الجزيرة بعد فشل الفاتح سابقًا في ذلك أدَّى هذا التطوُّر إلى تأمين الفرسان عدَّة عقود!
2. لم يتوقَّف الأمر عند تأمين فرسان القديس يوحنا، ولكن حاولت الدول الأوروبية المعادية للدولة العثمانية، وفي مقدِّمتهم المجر، والبندقية، المساومة على الأمير الأسير[18]، وهذا دفع بايزيد الثاني إلى انتهاج سياسةٍ سلميَّةٍ متواضعةٍ إلى حدٍّ ما، وكأنَّه مكبَّلٌ بقيود چم!
3. اضطر الجيش العثماني للانسحاب من إيطاليا، وخسر الأراضي التي كان قد فتحها هناك[19]، والأسوأ أنه خسر الطموح في فتح هذه البلاد، فلم يُفكِّر سلطانٌ عثمانيٌّ بعد ذلك في تكرار محاولة الفاتح في فتح روما وإيطاليا.
4. في ظلِّ هذه الأجواء استطاعت البندقية في عام 1482م أن تُجدِّد الصلح الذي أجرته مع الفاتح منذ ثلاث سنوات، مع بعض التعديلات الجديدة لصالحها[20].
5. من أخطر آثار هذه الحرب الأهلية أن چم في تمرُّده على أخيه استعان بالقبائل التركمانية القاطنة في الأناضول، وخاصَّةً في قرمان المتمرِّدة دومًا[21][22]، وهذا جدَّد العداوات التي كانت بين العثمانيين وبين هذه القبائل، وعادت الأمور إلى سابق عهدها من الشقاق، وسوف يكون من نتيجة هذا الخلاف أن يوجِّه بعض أفراد هذه القبائل ولاءهم لأعداء الدولة العثمانية، وأخطرهم الدولة الصفوية الشيعية التي ستظهر في إيران لاحقًا، وسيُسهم هذا في تفكيك الأناضول، وتوهين الدولة، وانشغال المسلمين بأنفسهم تاركين الملفات الأوروبية المهمَّة.
6. من أخطر الآثار كذلك حدوث توتُّرٍ كبيرٍ بين الدولة العثمانية والمماليك، وكان إيواء سلطان المماليك قايتباي لمتمرِّدٍ على الدولة العثمانية، وخاصَّةً أنه مطالبٌ بالعرش، معناه الضمني هو إعلان الحرب على الدولة العثمانية، أو على الأقل السعي إلى تفكيكها أو تقسيمها، وهذا التوتُّر الكبير لن يلبث إلا قليلًا حتى يتحوَّل إلى حربٍ عسكريَّةٍ حقيقيَّةٍ ستستمرُّ ستَّ سنوات.
7. اضطرَّ بايزيد الثاني إلى انتهاج سياسات داخليَّة كثيرة مخالفة لِمَا كان من المفترض أن يفعله؛ في محاولةٍ لاجتذاب أنصار چم إليه[23].
الخروج نسبيًّا من الأزمة وفتوحات قليلة في أوروبا: (1483-1484م)
بعد انتهاء أزمة چم أفاقت الدولة سنتين، وتمكَّنت فيهما من تحقيق بعض النجاحات على الصعيد الأوروبي؛ كان أبرزها اثنين:
1. ضمُّ دوقية الهرسك عام 1483م إلى الدولة العثمانية بشكلٍ كامل[24]، وكانت قد غيَّرت ولاءها للمجر في أواخر حياة الفاتح.
2. حملة مهمَّة على البغدان المتمرِّدة، وكان من نتيجتها فتح ميناءين لهما أهميَّةٌ استراتيجيَّةٌ قصوى، هما كيليا في 15 مايو 1484م، وأكرمان في 11 أغسطس 1484م[25][26]، وهما ميناءان يسيطران على مصب الدانوب في البحر الأسود (انظر خريطة رقم 21)، فكان فتحهما يعني أمورًا كثيرةً مهمَّة؛ منها تحويل البحر الأسود إلى بحيرةٍ عثمانيَّةٍ خالصةٍ لا وجود فيها لقوًى أخرى، ومنها خنق التجارة المجرية تجاه المشرق، والمعتمدة على حركة السفن في الدانوب إلى البحر الأسود، ومنها تهديد البغدان عسكريًّا من نقاطٍ قريبةٍ منها جدًّا، ومنها توفير نقطة انطلاق للشمال يمكن أن تُسْتَغل في الهجوم على بولندا أو روسيا[27].
[1] شيمشيرغيل، أحمد: سلسلة تاريخ بني عثمان، ترجمة: عبد القادر عبداللي، مهتاب محمد، ثقافة للنشر والتوزيع، أبو ظبي-بيروت، الطبعة الأولى، 1438هـ=2017م. صفحة 3/12.
[2] Babinger, Franz: Mehmed the Conqueror and His Time, Princeton University Press, 1978., 1978, p. 404.
[3] Freely, John: Inside the Seraglio: Private Lives of the Sultans in Istanbul, Viking, New York, USA, 1999., p. 28.
[4] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م. صفحة 178.
[5] Freely, 1999, p. 29.
[6] محمود، سيد محمد السيد: تاريخ الدولة العثمانية (النشأة - الازدهار) وفق المصادر العثمانية المعاصرة والدراسات التركية الحديثة، مكتبة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1428هـ=2007م.صفحة 217.
[7] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م.صفحة 180.
[8] القرماني، أحمد بن يوسف بن أحمد: أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ، تحقيق: أحمد حطيط، فهمي السعيد، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1412هـ=1992م. صفحة 3/37.
[9] Sheehan, Sean: Turkey, Marshall Cavendish, New York, USA, 2004., p. 26.
[10] Gürpınar, Doğan: Ottoman/Turkish Visions of the Nation, 1860-1950, The Palgrave Macmillan, NewYork, USA, 2013., pp. 42-43.
[11] Cragg, Kenneth B.: Christians and Muslims: From History to Healing, iUniverse, Boomington, IN, USA, 2011., p. 122.
[12] Frazee, Charles A.: Catholics and Sultans: The Church and the Ottoman Empire 1453-1923, Cambridge University Press, NewYork, USA, 1983., p. 18.
[13] Childress, David Hatcher: Pirates and the Lost Templar Fleet, Adventures Unlimited Press, Kempton, IL, USA, 2003., p. 36.
[14] Gürpınar, Doğan: Ottoman/Turkish Visions of the Nation, 1860-1950, The Palgrave Macmillan, NewYork, USA, 2013., p. 43.
[15] Imber, Colin: The Ottoman Empire, (1300-1481), Isis Press, Istanbul, 1990., p. 252
[16] القرماني، 1992 صفحة 3/36.
[17]Ágoston, Gábor: Bayezid II (b. 1448—d. 1512) (r. 1481–1512), In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009 (D).p. 83.
[18] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/187.
[19] أوزتونا، 1988 صفحة 1/185.
[20] فاتان، نيقولا: صعود العثمانيين 1362-1451م، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993 صفحة 1/153.
[21] خليفة، حاجي: فذلكة أقوال الأخيار في علم التاريخ والأخبار (تاريخ ملوك آل عثمان)، حققه وقدمه له وترجم حواشيه: سيد محمد السيد، كلية الآداب–جامعة جنوب الوادي، سوهاج-مصر، (دون سنة طبع).صفحة 216.
[22] بيتروسيان، إيرينا: الإنكشاريون في الإمبراطورية العثمانية، تقديم ومراجعة: قسم الدراسات والنشر بمركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، دبي، 1427هـ=2006م، 2006 صفحة 122.
[23] Atçıl, Abdurrahman: Scholars and Sultans in the Early Modern Ottoman Empire, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 2017., p. 86.
[24] كولن، صالح: سلاطين الدولة العثمانية، ترجمة: منى جمال الدين، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1435هـ=2014م.صفحة 84.
[25] شيمشيرغيل، 2017 صفحة 3/30.
[26] بيتروسيان، 2006 صفحة 123.
[27] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 345- 350.