كيف تساعد الإشعاعات الخلفية لأجهزة التلفزيون في فهمنا للكون؟
يُعتقد أن إشعاع الخلفية الكونية قد تشكل بعد حوالي 380 ألف سنة من الانفجار العظيم، وأنه يحتوي على مؤشرات دقيقة لكيفية تشكل النجوم والمجرات الأولى.
يسقط إشعاع الخلفية الكونية على الأرض من كل اتجاه بكثافة موحدة تقريبا (ناسا)
لم يتم اكتشاف "إشعاع الخلفية الكونية الميكروي" (Cosmic Microwave Background) حتى منتصف الستينيات، وكان من الممكن أن يكتشفها مراقب دقيق لجهاز تلفزيون قديم عادي.
إشعاع الخلفية الكونية الميكروي أو إشعاع خلفية الكون أو الإشعاعات الخلفية، هي أشعة كهرومغناطيسية تتخلل الكون بأكمله بالشدة والتوزيع نفسيهما، وهي تعادل درجة حرارة 2.725 درجة كلفن. ولا يمكن تمييز مصدر معين أو ملموس لها. وتعتبر دليلا بارزا على أن الانفجار العظيم هو أصل الكون. وقد ساعد هذا الإشعاع بشكل كبير في فهم العلماء لكيفية بدء الكون.
إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، هو وهج خافت من الضوء يملأ الكون (وكالة الفضاء الأوروبية)
ما هو تحديدا؟
وفقا لموقع "يونيفيرس توداي" (Universe Today)، فإننا عندما نشاهد السماء بالتلسكوب الضوئي نرى مسافات واسعة بين النجوم والمجرات يغلبها السواد، وهذا ما يسميه العلماء الخلفية الكونية.
ولكن عندما نستخدم تلسكوب راديوي يستطيع رؤية الموجات الراديوية، فإنه سيصور لنا ضوءا خافتا يملأ تلك الخلفية. وهذه الأشعة لا تتغير من مكان إلى مكان، وإنما منتشرة بالتساوي في جميع أركان الكون.
يعتقد أن إشعاع الخلفية الكونية قد تشكّل بعد حوالي 380 ألف سنة من الانفجار العظيم، وأنه يحتوي على مؤشرات دقيقة لكيفية تشكل النجوم والمجرات الأولى.
يشرح إريك إم ليتش من "جامعة شيكاغو" (University of Chicago) على موقع "ساينتيفك أميركان" (Scientific American)، إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، فيقول إنه وهج خافت من الضوء يملأ الكون، يسقط على الأرض من كل اتجاه بكثافة موحدة تقريبا. إنها الحرارة المتبقية للخليقة، والشفق اللاحق للانفجار العظيم، والمتدفق عبر الفضاء حتى يومنا هذا.
ويمكن رؤية الأشعة الكونية على مسافة 13.8 مليار سنة ضوئية في جميع الاتجاهات من الأرض؛ مما دفع العلماء إلى تحديد أن هذا هو العمر الحقيقي للكون.
مع ذلك، فهو ليس مؤشرا على المدى الحقيقي للكون. نظرا لأن الفضاء كان في حالة توسع منذ بداية الكون، ويتمدد بشكل أسرع من سرعة الضوء، ومن ثم فإن الأشعة الكونية هي مجرد أبعد وقت في الزمن يمكننا رؤيته.
روث الحمام وقصة الاكتشاف
وضع الفيزيائي الأميركي الأوكراني جورج جامو، وطالباه رالف ألفير وروبرت هيرمان، نظرية وجود الأشعة الكونية الميكروية لأول مرة عام 1948.
وقد استندت هذه النظرية إلى دراساتهم حول نتائج التخليق النووي لعناصر الضوء، الهيدروجين والهيليوم والليثيوم، خلال بدايات الكون، وأدركوا أنه من أجل تجميع نوى هذه العناصر، يجب أن يكون الكون المبكر شديد الحرارة. وافترضوا أيضا أن الإشعاع المتبقي من هذه الفترة من شأنه أن يتخلل الكون، ويمكن اكتشافه.
ونظرا لتوسع الكون، فقد قدّروا أن درجة حرارة إشعاع الخلفية هذه ستكون منخفضة بمقدار 5 كلفنات (-268 درجة مئوية)، ومع ذلك لم يتم الكشف عن أول دليل على وجود الأشعة الكونية إلا بالصدفة عام 1964، من قبل عالمين آخرين هما أرنو بنزياس وزميله الباحث روبرت ويلسون.
كان عالما الفلك الأميركيان يقومان بتجريب مقياس "إشعاع ديك" (the Dicke radiometer)، الذي كان يعتزم استخدامه في تجارب علم الفلك الراديوي والاتصال عبر الأقمار الصناعية.
خريطة سماء الخلفية الكونية الميكروية بواسطة القمر الصناعي بلانك (يوريك ألرت)
وعند إجرائهما القياس الأول لاحظا وجود ضجيج وتشويش في الخلفية كان أكثر مما ينبغي، ولم يظهر أنه صادر من اتجاه معين، فظنا أن الطيور وخصوصا الحمام هي السبب؛ لأنها تبني أعشاشها في قلب الهوائي، وتترك فضلاتها هناك، فقاما بالتخلص من هذه المشكلة، ومن ثم بحثا عن كل خلل يمكن أن يتسبب في ذلك؛ إلا أن الضجيج ظل كما هو لم يتغير أيا كان اتجاه الهوائي.
استنتج الباحثان أن المصدر لا بد أن يكون آتيا من خارج الأرض. ولأن الضجيج ثابت خلال الليل والنهار وعلى مدار السنة رغم دوران الأرض حول محورها وحول الشمس، اتضح كذلك أن هذا الإشعاع آتٍ من وراء النظام الشمسي ومن وراء المجرة. فلو أنه كان غير ذلك لتغير بتغير اتجاهات الأرض. وقد حصل العالمان على جائزة نوبل للفيزياء لعام 1978 لاكتشافهما إشعاع الخلفية الكوني.
بعد اكتشاف إشعاع الخلفية الكوني، اختلف العلماء حول مصدره، في حين ادعى مؤيدو نظرية الانفجار العظيم أن هذا هو "الإشعاع المتبقي" من الانفجار العظيم.وقد جادل مؤيدو نظرية الكون الثابت غير المتغير بأنها كانت نتيجة لتشتت ضوء النجوم من المجرات البعيدة. ومع ذلك، بحلول السبعينيات، ظهر إجماع علمي لصالح تفسير الانفجار العظيم.
بعد اكتشاف إشعاع الخلفية الكوني، اختلف العلماء حول مصدره (ناسا)
راقب جهاز التلفزيون
عندما تفتح إحدى قنوات التلفزيون التي لا تعمل سوف تسمع صوتا وترى شاشة بيضا تكاد تتقافز منها الجزيئات، وهو أمر ناتج عن الكهرباء الساكنة.
جزء مما تراه صادر عن الشفق اللاحق للانفجار العظيم، إنه جزء من إشعاع الخلفية الكونية الميكروي المسؤول عن كمية كبيرة من الشحنات الساكنة على جهاز التلفزيون، مع الأخذ في الاعتبار أنه لا يمكن التخلص من هذه الكمية الصغيرة من الكهرباء الساكنة، وأنه لن يتغير حجمها بتغيير اتجاه الهوائي.
ومن ثم فقد كان يمكن لأي شخص منذ أربعينيات القرن الماضي، ومنذ اختراع جهاز التلفزيون، أن يتوصل لاكتشاف الخلفية الكونية الميكروية في المنزل؛ مما يثبت الانفجار العظيم، قبل عقود من اكتشاف العلماء لها.
تأتي الشحنات الساكنة على جهاز التلفزيون من مزيج متنوع المصادر، كالبث الإذاعي من صنع الإنسان، ومن الشمس، والثقوب السوداء، وجميع أنواع الظواهر الفيزيائية الفلكية الأخرى؛ مثل النجوم النابضة والأشعة الكونية وغيرها.
وبالتالي إذا تم تنحية المصادر المختلفة المسؤولة عن الإشارة الساكنة بالتلفزيون وقياس ما تبقى، أو ببساطة أخذ هذه المصادر المختلفة في الاعتبار وطرحها منها، سيلاحظ بقاء 1% من الأشعة على جهاز التلفزيون، وهي الآتية من توهج بقايا الانفجار العظيم، فأنت تشاهد حرفيا الخلفية الكونية الميكروية على جهاز التلفاز الخاص بك.