صديق فعال
تاريخ التسجيل: June-2018
الجنس: ذكر
المشاركات: 770 المواضيع: 645
صوتيات:
42
سوالف عراقية:
0
آخر نشاط: 3/October/2024
الشرح التفصيلي لقضية آية الغار الكريمة ، مع بيان الحوادث والمعاني بالتحليل الدقيق
قال تعالى في الآية الأربعين من سورة التوبة : ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ .
الآية تتحدث عن قصة لجوء الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الغار بعد أن خرج وحيداً في الليل ، ثم في صباح اليوم التالي جاء صاحبه أبو بكرٍ والتقيا معاً في الغار ، وذلك في رحلة الهجرة إلى المدينة المنورة . ولكن ما السبب الذي جعل الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يذهب إلى الغار ؟! لنرجع إلى الآيات التي سبقت هذه الآية الكريمة ، قَالَ تَعَالَى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ - [سُّورَةُ التَّوْبَةِ : 38 - 40.]
إنّ هذه الآيات البينات من سورة التوبة تقصُّ علينا معاناة الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قومه ، الذين تخاذلوا وتثاقلوا عن نصرة الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورفضوا أن ينصروه ويحاربوا ضِدّ الكُفّار والمشركين مِن الّذين يتربّصون به ويريدون محاربته وقتله ؛ والسبب في ذلك هو خوفهِم مِن القتال في سبيل الله وحُبِّهم للحياة الدُنيا ، كما أنّ كثيراً منهم قد جَبُنَ منهم في أُحدٍ وحُنينٍ كما صرّح القرآن الكريم .
تقول بعض الروايات المختلقة أنّ النبي كان في بيت أبي بكرٍ وأنّه استراح فيه قليلاً ثمّ خرجا معاً سويّة ، ومن بعد ذلك كانت أسماء بنت أبي بكرٍ تأخذ اليهما الطعام في الغار ... فهذا أمرٌ يتناقض مع القرآن الكريم الذي صرّح بخروج الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحيداً ؛ لقوله تعالى : ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ، فالله لم يقل (إذا أخرجهما الذين كفروا) ، وأنّما صرّح بخروج الرسول وحيداً ثم بعد ذلك تبع أبو بكر النبي إلى الغار ، فقال الله لأجل ذلك : ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾ .
كما أنّ تلك الروايات تتناقض مع العقل والمنطق ؛ لأنه لو كان أبو بكر مهاجراً مع النبي منذ البداية فعلاً لكان من أيسر اليسير على مشركي قريش أن يتعقبوا أبنته التي تخرج كل يوم ، ويتتبعوا خطواتها حتى يتوصلوا إلى مكان الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ومن ثم كيف يمكن أن تكون أسماء في مكانين يبعد كل منهما عن الآخر آلاف الأميال ؟! وكيف يتوجه النبي إلى بيت أبي بكر في هذه الليلة الخطيرة التي خططت فيها قريش لقتله ؟ وقد كان المشركين أحاطوا حول الدار وربما كان البيت يحوي مشركين أيضاً ! فهل يعقل أن يلجأ النبي إلى الذين يحاربونه ويرصدونه ؟ فلقد حرص النبيُّ على انجاح الهجرة والتستر عن أعين المجرمين ، كما أنّه طلب من المسلمين المتبقين في مكّة المكرمة عدم الهجرة في تلك الليلة التي سيهاجر فيها - مخفياً عنهم سبب طلبه - ، وكان من حرصه أن اختار وقت الهجرة ليلاً في نهاية شهر صفر ؛ لئلا يكون في السماء ضوء القمر فينكشف في الطرقات . وهذا يدلل على أنّ الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يخرج من بيت أبي بكرٍ اطلاقاً ولا ذهب إليه أبداً .
والصحيح أنّه خرج من بيته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد أن أمر الإمام علي (عليه السلام) بالمبيت على فراشه ، فعن المستدرك على الصحيحين للحاكم - الجزء (3) - الصفحة (5) - الحلقة (4263) :- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثنا زِيَادُ بْنُ الْخَلِيلِ التُّسْتَرِيُّ، ثنا كَثِيرُ بْنُ يَحْيَى، ثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «شَرَى عَلِيٌّ نَفْسَهُ، وَلَبِسَ ثَوْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَامَ مَكَانَهُ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرْمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْبَسَهُ بُرْدَةً، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلُوا يَرْمُونَ عَلِيًّا، وَيَرَوْنَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ لَبِسَ بُرْدَةً، وَجَعَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَضَوَّرُ، فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ فَقَالُوا: إِنَّكَ لَلَئِيمٌ إِنَّكَ لَتَتَضَوَّرُ، وَكَانَ صَاحِبُكَ لَا يَتَضَوَّرُ وَلَقَدِ اسْتَنْكَرْنَاهُ مِنْكَ» . هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ بِزِيَادَةِ أَلْفَاظٍ .
فعندما أحسّ كفّار قريش بخطر الإسلام والدعوة السماوية وتزايد المسلمين يوماً بعد يوم ، اجتمعوا في دار الندوة ليتّخذوا قراراً لقمع الدّين ، فطرحوا ثلاث خطط إمّا أن يقتلوا الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، أو يلقوه في السجن بحيث لا يتمكن أيُّ شخص من رؤيته والحديث معه ، أو يقوموا بإبعاده عن أرض الحجاز . وبعد مناقشات طويلة صمّموا علی قتل الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، فاختاروا من كلّ قبيلة رجلاً للاشتراك في قتله ، حتى يضيع دمه بين القبائل ، ولا يستطيع بنو هاشم أن يحاربوا كلّ هذه القبائل فيقتنعوا بالديّة ، فلا يضيرهم أن يسلّموا الدية إلی بني هاشم . فجاء أربعون شخصاً من مختلف قبائل العرب يتصفون بالشجاعة والمهارة ، فأحاطوا ببيت الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليلاً ، ثمّ تسلّقوا الجدار أو نفذوا من كوة فيه وانتظروا حتّى تحين الفرصة المناسبة لقتل النبي .
فنزل جبرائيل (عليه السلام) على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأطلعه علی الأمر ، وتلا هذه الآية علیه : ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ ، فأمره أن يهاجر إلی المدينة ويترك الإمام علي (عليه السلام) مكانه . فأرسل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلی الإمام علي (عليه السلام) وقال له : «يَا عَلِيُّ ، إِنَّ الرُّوحَ هَبَطَ عَلَيَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ آنِفاً يُخْبِرُنِي أَنَّ قُرَيْشاً اجْتَمَعَتْ عَلَى الْمَكْرِ بِي وَقَتْلِي ، وَإِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ عَنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي ، وَأَنْ أَنْطَلِقَ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ تَحْتَ لَيْلَتِي . وَأَنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ آمُرَكَ بِالْمَبِيتِ عَلَى ضِجَاعِي أَوْ قَالَ مَضْجَعِي ؛ لِتُخْفِيَ بِمَبِيتِكَ عَلَيْهِ أَثَرِي ، فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ وَصَانِعٌ» ؟
فَقَالَ عَلِيٌّ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ) : «أَوَ تَسْلَمَنَّ بِمَبِيتِي هُنَاكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ» ؟ قَالَ نَعَمْ . فَتَبَسَّمَ عَلِيٌّ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ) ضَاحِكاً وَأَهْوَى إِلَى الْأَرْضِ سَاجِداً شُكْراً لِمَا أَنْبَأَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) مِنْ سَلَامَتِهِ . فَكَانَ عَلِيٌّ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ) أَوَّلَ مَنْ سَجَدَ لِلَّهِ شُكْراً وَأَوَّلَ مَنْ وَضَعَ وَجْهَهُ عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ سَجْدَتِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) . فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ لَهُ : «امْضِ فِيمَا أُمِرْتَ ، فِدَاكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَسُوَيْدَاءُ قَلْبِي ، وَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ أَكُنْ فِيهِ كَمَسَرَّتِكَ وَاقِعٌ مِنْهُ بِحَيْثُ مُرَادُكَ ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ» .
وَقَالَ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) : «وَأَنْ أُلْقِيَ عَلَيْكَ شِبْهٌ مِنِّي أَوْ قَالَ شِبْهِي» . قَالَ إِنْ يَمْنَعْنِي نَعَمْ . قَالَ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) : «فَارْقُدْ عَلَى فِرَاشِي وَاشْتَمِلْ بِبُرْدِيَ الْحَضْرَمِيِّ ، ثُمَّ إِنِّي أُخْبِرُكَ يَا عَلِيُّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَمْتَحِنُ أَوْلِيَاءَهُ عَلَى قَدْرِ إِيمَانِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ مِنْ دِينِهِ ، فَأَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَوْصِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ ، وَقَدِ امْتَحَنَكَ يَا ابْنَ أُمِ وَامْتَحَنَنِي فِيكَ بِمِثْلِ مَا امْتَحَنَ بِهِ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ، وَالذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ، فَصَبْراً صَبْراً فَإِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» . ثُمَّ ضَمَّهُ النَّبِيُّ إِلَى صَدْرِهِ وَبَكَى إِلَيْهِ وَجْداً بِهِ ، وَبَكَى عَلِيٌّ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ) جَشَعاً لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قَدْ قَالَ : «اتَّشِحْ بِبُرْدِي هَذَا الْأَخْضَرِ ، فَنَمْ فِيهِ ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ مِنْهُمْ رَجُلٌ بِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ» .
راجع بحار الأنوار : (ج19، ص60.)
قَالَ تَعَالَى : ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ، خرج الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من بيته في فحمة العشاء الآخرة (الفحمة : أقبال الليل وأول سواده) . وتمكّن الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الخروج من الدار دون أن يتمكنوا من ملاحظته ، وهو يقرأ : ﴿يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ إلى قوله : ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ ، وينثر التراب على رئوسهم وهم لايشعرون . ثم بعد ذلك انطلق الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى غار ثور ، وفي طريقه إلى الغار وحيداً في الليل سمع جرس المشركين يدقُّ بالقرب منه ، فحسبه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من المشركين فأسرع في المشي حتى انقطع قِبال نعله ففلق إبهامه حجرٌ فكثُر دمها ، فلمّا رأى أبو بكرٍ ذلك أتى مسرعاً ورفع صوته ، فإذا بالنبي يتفاجئ بأبي بكرٍ ، فعرفه النبي فقام فانطلقا معاً ورِجلُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تسيل دماً ، حتى انتهى إلى الغار مع الصبح .
وبذلك لم يكن أبو بكر موجودٌ مع الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منذ البداية ، وإنّما كانت صدفة أن ألتقى به أثناء مسيره ؛ لأنّ الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أعتمد أسلوب السرية التامة في أمر هجرته تلك الليلة ؛ لأنّ كفّار قريش كانوا يحيكون المؤامرات للحيلولة دون وصول النبي إلى يثرب ، حيث سيقود من هناك الدولة التي ستحطم ملكهم وسلطانهم وتقضي على جبروتهم ، لذا فإنّ أحداً لم يكن عالماً بخروج الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تلك الليلة سوى أهل بيته المقربين (عليهم السلام) . فعن كتاب السيرة النبوية لابن كثير - الجزء (2) - الصفحة (235) :- «وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَقَ الصِّدِّيقَ فِي الذَّهَابِ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَسِيرِهِ لِيَلْحَقَهُ، فَلَحِقَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيق» .
وعن تاريخ الطبري - الجزء (2) - الصفحة (373) :- «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ، أَنْتَ أَحَدُهُمْ وَأَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَرَوْنَهُ، فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ يس : ﴿يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ ، حَتّى فَرِغَ رَسول اللَّهِ (ص) مِنْ هَؤُلَاءِ الآيَاتِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ. فَأَتَاهُمْ آتٍ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ هَاهَنَا؟ قَالُوا: مُحَمَّدًا، قَالَ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ! قَدْ وَاللَّهِ خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، أَفَمَا تَرَوْنَ مَا بِكُمْ؟ قَالَ: فَوَضَعَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا عَلَيْهِ تُرَابٌ، ثُمَّ جَعَلُوا يَطَّلِعُونَ، فَيَرَوْنَ عَلِيًّا عَلَى الْفِرَاشِ مُتَسَجِيًّا بِبُرْدِ رَسُولِ اللَّهِ (ص)، فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمُحَمَّدٌ نَائِمٌ، عَلَيْهِ بُرْدُهُ، فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا، فَقَامَ عَلِيٌّ عَنِ الْفِرَاشِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ صَدَقَنَا الَّذِي كَانَ حَدثنَا، فَكَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَا كَانُوا أَجْمَعُوا لَهُ: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ﴾ ، وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَتَى عَلِيّاً فَسَألَهُ عَنْ نَبِي اللَّهِ (ص) فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَحِقَ بِالْغَارِ مِنْ ثَوْرٍ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ لَكَ فِيهِ حَاجَةٌ فَالْحَقْهُ، فَخَرَجَ أبُو بكْرٍ مُسْرعاً، فَلَحِقَ نَبِي اللَّهِ (ص) فِي الطَرِيقِ، فَسَمِعَ رَسول اللَّهِ (ص) جَرَسَ أَبِي بَكْرٍ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَحَسِبَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأسْرَعَ رَسُول اللَّه (ص) الْمَشْيَ، فَانْقَطَعَ قِبَالُ نَعْلِهِ فَفَلَقَ إِبْهَامَهُ حَجَرٌ فَكَثُرَ دَمُهَا، وَأَسْرَعَ السَّعْيَ، فَخَافَ أَبُو بَكْرٍ أنْ يَشُقَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (ص)، فَرَفَعَ صَوْتَهُ، وَتَكَلَّمَ، فَعَرَفَهُ رَسُول اللَّه (ص) فَقَامَ حَتَّى أَتَاهُ، فَانْطَلَقَا وَرِجْلُ رَسُولِ اللَّهِ (ص) تَسْتَنُّ دَمًا، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْغَارِ مَعَ الصُّبْحِ» .
راجع أيضاً :-
1- سيرة ابن هشام : ج1، ص482.
2- الروض الأنف للسهيلي : ج4، ص127.
3- السيرة النبوية لابن كثير : ج2، ص230.
4- البداية والنهاية لابن كثير : ج4، ص442.
5- صحيح السيرة النبوية للعلي : ج1، ص120.
6- منهاج السنة النبوية لابن تيمية : ج7، ص114.
7- سير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني : ص68.
وحاصر المشركون بيته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليَهجموا عليه في منتصف الليل ، ولكن منعهم أبو لهب من ذلك خوفاً من أن تقع يد خاطئة لا تصيب قتل النبي . فصبروا حتى طلوع الفجر وربما يقال أنّ علّة التأخير هي أنّهم أرادوا أن يقتلوا الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند الصباح أمام أعين بني هاشم ؛ حتى يروا أن قاتله جماعة وليس واحداً . حتّى إذا برق الفجر أقبل القوم على بيت الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قذفاً بالحجارة وانتضوا السيوف ووثبوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش يقدمهم خالد بن الوليد ، فقام الإمام علي (عليه السلام) من فورته وهمز يد خالد بن الوليد وجعله يقمص قماص البكر ويرغو رغاء الجمل ويذعر ويصيح ! فأجفلوا أمامه إجفال النّعم وتبصّروه وإِذا بهم يواجهون الإمام علي (عليه السلام) يثبُّ في وجوههم وهو يكشف عن نفسه بردّ رسول اللّه الأخضر ، فقالوا له : «وَإِنَّكَ لَعَلِيٌّ؟!» قَالَ : «أَنَا عَلِيٌّ» .
فقالوا له : «فَإِنَّا لَمْ نُرِدْكَ! فَمَا فَعَلَ صَاحِبُكَ؟» . قَالَ : «لَا عِلْمَ لِي بِهِ» .
فأجتمعت قريش للحديث عمّا حصل من فشل خطتهم ، فأذكت قريش على النبي العيون وركبت في طلبه الصعب والذلول ، وحددت قريش مكافأة كبيرة مقدارها مائة ناقة لمن يعيد النبي حياً كان أو ميتاً . فأقدموا فوراً على ملاحقة النبي حيث كانو يظنون أنّه لا يستطيع الخروج عن حدود مكّة في مثل تلك المدّة القصيرة ، فهو إمّا مختبئٌ في مكّة أو أنّه لا يزال في طريق المدينة . وكان الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على علمٍ أنَّ قريشاً لن تتركهُ يرحلُ ويهاجر بتلكَ السهولةِ ، وكان يعلمُ أنَّ قريشاً ستلحق به من الطريق الشمالي الرئيسي المتوجه للمدينة ، فما كان منه إلّا أن سار طريقاً عكس ما تسير به قريش ، وهو الطريق الجنوبي الذي يتجه نحو اليمن ، حتى وصل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى جبل ثور ، وهذا الجبل عُرِفَ بأنّه ذا طريقٍ وعرٍ ، صعبِ المرتقى ، كثيرِ الحجارة .
وعندما تأكدت قريش من خروج النبي من مكّة صابهم من الصدمة الكبيرة لدرجة أنَّهم سحبوا الإمام علي (عليه السلام) إلى الكعبة ، وضربوه وحبسوه لعلّه يخبرهم عن مكان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلم يجدوا أيَّ جوابٍ منه . حتى إذا أرخى الليل سدوله وساد الظلام من الليلة القابلة انطلق الإمام علي (عليه السلام) مع هند بن أبي هالة (ابن خديجة بنت خويلد وربيب الرسول محمد وأخو فاطمة الزهراء من أُمها وخال الحسن والحسين) إلى الغار ودخلا على الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، فأمر النبي هنداً أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين ، فقال أبو بكرٍ : «قَدْ كُنْتُ أَعْدَدْتُ لِي وَلَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ رَاحِلَتَيْنِ نَرْتَحِلُهُمَا إِلَى يَثْرِبَ» . فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) له : «إِنِّي لَا آخُذُهُمَا وَلَا أَحَدَهُمَا إِلَّا بِالثَّمَنِ» . فقال أبو بكرٍ : «فَهِيَ لَكَ بِذَلِكَ» . فأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الإمام علي (عليه السلام) فأقبض أبو بكرٍ الثمن ثم وصّاه بحفظ ذمّة النبي وأداء أمانته .
ففشلت مؤامرة قريش ووجدت نفسها أمام هزيمة نكراء بدّدت كلّ أحلامهم ، وبعد أن يأس الأعداء من العثور على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحرّك إلى المدينة ووصل إليها بسلام . وحينما كان النبي في طريق المدينة أنزل الله عليه الآية التالية في شأن الإمام علي (عليه السلام) : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ .
تحليل آية الغار :-
بالنسبة إلى : ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾ :-
هذا المقطع من الآية الكريمة يبين أنّ الله تعالى وحده فقط من نصر الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ولا فضل لأبي بكرٍ في نصرة النبي حتى لو كان مع النبي في الغار ، كما أنّ ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ﴾ : هو أخبارٌ للعدد كأن تقول مثلاً "كانا اثنين" وقد يكونا صادقين وقد يكونا كاذبين ، وقد يكون أحدهما صادق والآخر كاذب ، فأين الفضل في ذلك ؟! أمّا بالنسبة إلى ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾ : فهو إخبارٌ بالاجتماع في المكان ، فمسجد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أشرف من الغار ، وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفّار ، وفي ذلك قول الله تعالى : ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ﴾ - [سُّورَةُ الْمَعَارِجِ : 36 - 37.]
بالنسبة إلى : ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ﴾ :-
أنّ الله تعالى سمّى أبو بكرٍ بالصاحب ، والصحبة تجمع المؤمن والكافر ، والدليل على ذلك قول الله عز وجل ، قَالَ تَعَالَى : ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا﴾ - [سُّورَةُ الْكَهْفِ : 37.] . كما أنّ يوسف (عليه السلام) قد قال لصاحبه في السجن : ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾ - [سُّورَةُ يُوسُفَ : 41.] . وأيضاً فأنّ اسم الصُحبة يقع بين العاقل وبين البهيمة ، فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر وبين العاقل وبين البهيمة ، وبين الحيوان والجماد ، فأيُّ فضيلة هذه لأبي بكرٍ ؟! والدليل على ذلك من كلام العرب ، وقد سمّوا الحمار صاحباً ، فقالوا :-
«بال الحمار فاستبال أحمرةٌ
للوضيع يأتي أمراً فيقتدي به أقرانه
كنت كربّ الحمار أعيا ... فظلّ يسطو على الإكاف
كم من حمارٍ على جوادٍ ... ومن جوادٍ على حمار
حمارٌ ولج الكو ... ة قد قيل بجرجان
فهذا العير والكوّ ... ة يا قوم عتيدان
إنّ الحمار مع الحمار مطيّةٌ ... فإذا خلوت به فبئس الصّاحب
إذا ذهب الحمار بأمّ عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار»
المصدر : (التمثيل والمحاضرة للثعالبي : ص345.)
بالنسبة إلى : ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ :-
أما الحزن ، فقد أظهر أبو بكر حزنه وخوفه مع ما رأى من دلائل الله وآياته في الغار ، فدّل على عدم توكلّه على الله وعدم وثوقه بما وعد الله رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالنصر ، فكانت العنكبوت حافظاً بما نسجت على فتحة الغار ، وباضت الحمامتان على بابه . فلا داعي لحزن أبي بكر ؛ لأنّ هذا الحزن قد يتسبب بكشف وفضح وجود النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويؤدي إلى قتله .
وأمّا قول ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ : إن كان المراد المعيّة العامّة ، فإنّ الله تعالى مع الكلّ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ﴾ - [سُّورَةُ الْمُجَادِلَةِ : 7.] فلو كانا منافقين فالله ثالثهما ، وإن كانا مؤمنين فالله ثالثهما , وإن كان أحدهما مؤمناً ونبيّاً والآخر منافقاً وشقيّاً فالله ثالثهما . وإن كان المراد المعيّة الخاصّة (أي معيّة النصرة أو الحفظ) ، فقد نصّت الآية أنّ الله نصر نبيّه وحده ؛ إذ جاء الضمير فيها مفرداً ؛ فلا فضل لصاحب الغار بهذه المعيّة . وقد قيل في مناسبة هذا : «إِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ : "يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حُزْنِي عَلَى أَخِيكَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَا كَانَ مِنْهُ" . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) : "لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا" ، أَيْ مَعِي وَمَعَ أَخِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ)» . (البحار : ج27، ص330، عن الاحتجاج على أهل اللجاج : ج2، ص328.)
بالنسبة إلى : ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا...﴾ :-
يزعمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يحتاج إلى السكينة حتى تنزل عليه ؛ لأنّ السكينة لا تفارق النبي قط ! فنقول لهم :- ما تقولون إذاً في هذه الآية : ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ - [سُّورَةُ التَّوْبَةِ : 26.] ؟ وهذه الآية : ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ - [سُّورَةُ الْفَتْحِ : 26.] ؟
الآية الأُولى بينت أنّ السكينة نزلت في حُنين ، والآية الثانية نزلت في الحديبية ، وهما بعد حادثة الغار بسنين ، فالسكينة تنزل على الرسول والمؤمنين ، ثم يتبعها نصرٌ غيبي بجنودٍ لا نراها . فإذا كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يحتاج إلى سكينة فهاتين الآيتين تصرّحان بنزولها عليه ، ولمّا كان الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الغار خصّه الله تعالى وحده بالسكينة ، فَقَالَ تَعَالَى : ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾ . وقد عُرِفَتْ السكينة في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أنّها الإيمان الكثير والمدد الغيبي ، ولا يلزم لنزول الإيمان في قلب أحد أن يكون حزيناً أو خالياً من الإيمان ، حتّى تنزل عليه السكينة ؛ يقول تعالى : ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤمِنِينَ لِيَزدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِم﴾ . وقد صرّح القرآن بنزول السكينة على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حُنين ولم يكن حزيناً ، فلا يقال بعدم حاجة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لنزول السكينة بعد تصريح القرآن بذلك .
ويزعمون أيضاً :- الضمير الهاء في "عليه" تعود إلى أبي بكرٍ ؛ لأنّ هناك قاعدة في اللغة تقول بعودة الضمير إلى أقرب المذكورات ، فأقرب مذكور لهذا الضمير هي (لصاحبه) فيرجع الضمير إلى أبي بكرٍ ، فبذلك تكون السكينة نازلة على الصاحب (أبو بكر) وساقطة عن الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .
والجواب على هذا بسيطٌ جداً :-
هذه القاعدة متهرهرة وغير مقبولة ؛ لأنّها تخل بسياق الآيات وتُغيّر معانيها إلى غير ما أراده الله عزّوجلّ ، ولو طبقتها تكون من المحرفين للكلم عن مواضعه . وعلى فرض تطبيقها فأنتم تريدون عطف (وأيده) على (نصره) الأبعد جداً ، كي تحشروا أبا بكرٍ بالغصبِ والكسر لكل المقاييس ! كذلك في آية الوضوء عندكم ، فمع الإخلال بالمعنى تقولون بالعطف على الأبعد ! وهذا والله لا يقبل به عقلٌ أو نقلٌ أو شرعٌ أو لغة .
والدليل على رجوع الضمير في قوله ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : هو رجوع الضمائر التي قبله وبعده إلى الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحده ، كقوله : ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ﴾ ، و﴿نَصَرَهُ﴾ ، و﴿أَخرَجَهُ﴾ ، و﴿وَأَيَّدَهُ﴾ ، حتّى في كلمة صاحبه (أي بمعنى صاحب النبي) . كما أنّ عود الضمير على أبي بكرٍ يؤدي إلى الإخلال بالمعنى ؛ لأنّ ما بعده سوف يعود على الأبعد ؛ بالإضافة إلى وحدة الخطاب مع الكفّار الموجه إليهم مباشرةً في الضمائر العائدة على المتحدث عنه الرئيسي في الخطاب .
فلا سبيل إلى رجوع ضمير ﴿عَلَيهِ﴾ من بينها وحده إلى أبي بكرٍ من غير قرينة قاطعة تدلّ عليه ، فكل الضمائر والخطاب يخص الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحده . فالآية تجري في سياقٍ واحد حتّى يقول : ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ﴾ ، ولا ريب أنّه بيان لما قبله , وأنّ المراد بـ﴿كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى﴾ : هي ما قضوا به في دار الندوة وعزموا عليه من قتله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإطفاء نور الله , والمراد بـ﴿كَلِمَةُ اللَّهِ﴾ : هي ما وعده من نصره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإتمام نوره . فكيف يجوز أن يفرّق بين البيان والمبيّن ؟! وجعل البيان راجعاً إلى نصره تعالى إياه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ! والمبيّن راجعاً إلى نصرة غيره ؟! مع أنّ الله تعالى لم يذكر أبو بكر في خطابه ، وإنّما هو تقريعٌ للكفّار أو للمسلمين ؛ لعدم نصرهم للرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فحسب ! وذكر أبا بكر أو من كان معه استطراداً وخارج سياق الخطاب أصلاً .
ثم أنّ الذي نزلت عليه السكينة (أي الرسول مُحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي أيّده بالجنود : ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾ ؛ لأنّ الكلام في الآية مسوقٌ لبيان نصر الله تعالى نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، حيث لم يكن معه أحد ممّن يتمكّن من نصرته ؛ يقول تعالى : ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ إِذ...﴾ ، وإنزال السكينة والتقوية بالجنود من النصر ، وذاك النصر للرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقط . فإن كان أبو بكرٍ صاحب السكينة فهو صاحب الجنود ، وهذا إخراجٌ للرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من النبوة والرسالة ، وطعنٌ بالنبي بكل تأكيد ؛ لأنّ انزال السكينة على أحدهما دون الآخر قطعاً هو تعريض بالآخر .
يتبين أنّ الله تعالى أنزل السكينة فقط على رسوله مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم ينزلها أبداً على أبي بكرٍ ، في حين أنّ الله تعالى يُنزل السكينة على المؤمنين ، قَالَ تَعَالَى : ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ - [سُّورَةُ الْفَتْحِ : 4.] فلماذا لم تنزل السكينة على أبي بكرٍ ؟ الجواب ببساطة لأنّه ليس من المؤمنين ، فلو كان مؤمناً صادقاً لأنزلها الله عليه ، ولصارت الآية هكذا : (فأنزل الله سكينته عليهما) .