يازيلكايا تعني بالتركية "صخرة منقوشة" وكانت موقعا مقدسا للحيثيين في الأناضول (غيتي)
قد يكون الهيكل الذي تم بناؤه منذ أكثر من 3 آلاف عام عبارة عن جهاز تقويم قديم يتضمن خريطة للكون، وفقًا لتفسير جديد يبحث دلالات أطلال "يازيلكايا"، التي كانت موقعا مقدسا للحيثيين في ولاية تشوروم، بالقرب من العاصمة التركية أنقرة، وتتميز بنتوءاتها الصخرية المثيرة للإعجاب، التي تحمل نقوشا صخرية عتيقة.
وعثر عالم الآثار والمؤرخ الفرنسي تشارلز تيكسييه على محمية يازيلكايا الصخرية وسط تركيا، على بعد حوالي 100 ميل من أنقرة، عام 1834، لكن النقوش ظلت غامضة ومحيرة لعلماء الآثار، واستغرق الأمر ما يقرب قرنين حتى يتمكن الخبراء من فك شفرة ما تعنيه العلامات.
وبسطت حضارة الحيثيين (1600-1178 قبل الميلاد) سيطرتها على الأناضول وشمالي سوريا، وكانت ندا للحضارات المعاصرة لها في بلاد الرافدين ومصر وبلاد فارس. وفي تلك الفترة ومع انتهاء العصر البرونزي المتأخر انقسمت لدويلات مستقلة في الأراضي السورية، واستمر بعضها عدة قرون أخرى، حتى خضعت للإمبراطورية الآشورية.
وتفيد دراسة جديدة -نشرت بمجلة "سكاي سكيب أركيولوجي" (Sky scape Archaeology)- بأن نخبة المجتمع الحيثي أنشأت موقع يازيلكايا لتجسيد أفكارهم حول كيفية تنظيم الكون، وتشير الدراسة إلى أن الرموز المنحوتة في الصخور الكلسية تمثل آلة تقويم وقياس زمن عملاقة عمرها أكثر من 3 آلاف عام، ولا تزال تعمل بكفاءة، "لقد استخدموا معبد الهواء الطلق كتقويم في الهواء الطلق وساعة تظهر تواريخ فلكية مهمة بدقة لا تفوت. التقويم نفسه يعمل بشكل لا تشوبه شائبة حتى اليوم"، حسب فريق من المؤرخين والفلكيين الأتراك والسويسريين والأميركيين.
ويقول تقرير مجلة "نيو ساينتيست" (New Scientist) العلمية، الذي كتبه مايكل مارشال، إن الموقع يحتوي على العديد من صور التضاريس الصخرية، ويجادل الباحثون وراء التفسير الجديد بأن لها معاني رمزية تتعلق بالعالم السفلي والأرض والسماء، فضلًا عن دورات الطبيعة مثل الفصول.
يقول إيبرهارد زانغر رئيس مؤسسة "لويان للدراسات" (Luwian Studies)، وهي مؤسسة دولية غير ربحية، "هناك العديد من الدلالات لأسماء الآلهة والترتيبات والمجموعات". في حين يقول الأكاديمي المختص في التاريخ القديم إيان راذرفورد من جامعة ريدينغ البريطانية "لست مقتنعًا بكل التفاصيل، لكنني مهتم جدًّا بالأمر برمته".
ويعود شكل موقع يازيلكايا الحالي إلى حوالي 1230 قبل الميلاد، وقام الحيثيون -الذين استخدموا الموقع لقرون- بنحت وتعديل نتوءات صخرية طبيعية لإنشاء مساحتين من دون أسطح، مزينة بصور منحوتة من الصخور لآلهتهم.
وليس من الواضح سبب قيام الحيثيين ببناء يازيلكايا، أو لماذا استخدموها على وجه التحديد، لكن تم اقتراح العديد من الأفكار. على سبيل المثال، تم استخدام إحدى المساحات المفتوحة في احتفالات العام الجديد، في حين كانت منطقة أخرى ضريحًا لملك حيثي.
في عام 2019، اقترح زانغر وزميلته السويسرية جاوتشي ريتا من جامعة بازل في سويسرا أن بعض منحوتات الآلهة قد تكون تقويمًا قادرًا على تتبع السنوات الشمسية والأشهر القمرية. كان مثل هذا التقويم يسبق وقته بقرون، وكان ذلك التفسير موضع ترحيب من الأوساط العلمية.
الآن، اتخذ الثنائي وزملاؤهما مسارًا جديدًا؛ بدل التركيز على الوظائف أو الاستخدامات المحتملة للنقوش، أخذ الباحثون في الاعتبار ما قد تعنيه هذه المنحوتات للحيثيين.
ويقول زانغر "كانت لديهم صورة معينة عن كيفية حدوث الخلق"، ويضيف أن الحيثيين تصوروا أن العالم بدأ في حالة من الفوضى، التي أصبحت منظمة في 3 مستويات: "العالم السفلي، ثم الأرض التي نسير عليها، ثم السماء".
وضمن السياق ذاته، يقول زانغر إن الحيثيين كانوا يبرزون النجوم القطبية، التي لا تغرق أبدًا تحت الأفق، ويجادل بأن مجموعة من الآلهة البارزة في يازيلكايا تمثل النجوم القطبية.
ويضيف مقارنا "هناك صور من هذا القبيل في مصر القديمة"، وقد تأثر الحيثيون بالعديد من المجتمعات المجاورة، بما في ذلك مصر، لكن المنحوتات الأخرى قد تكون لها روابط بالأرض والعالم السفلي.
يقول زانغر إن الجانب الثاني من علم الكونيات الحيثي هو "التجديد المتكرر للحياة" (أو ما يسمى العود الأبدي). على سبيل المثال، الليل يتلوه النهار، ويتحول القمر المظلم إلى قمر مكتمل، ويصبح الشتاء صيفًا وهكذا، ويجادل بأن المنحوتات التي تشبه التقويم تعكس هذه النظرة الدورية للطبيعة والكون.
وتقول الأكاديمية وباحثة الآثار إفروسيني بوتسيكاس من جامعة كنت في كانتربري بالمملكة المتحدة؛ إن "الفكرة ليست بعيدة المنال"؛ إذ استخدمت الثقافات الأخرى، بدءًا من بلاد ما بين النهرين القريبة من الأناضول إلى أميركا الوسطى البعيدة. المعالم الدينية لربط الحياة الأرضية بالكون الأوسع"، ومن الواضح أن هذا منطقي، لأن هذا هو بالضبط ما يفعله الدين؛ إذ يتناول الاهتمامات والتصورات الكونية ومكانة البشر في العالم.
وعثر على فكرة "العود أو التكرار الأبدي" في الفلسفات الهندية القديمة والفرعونية، وكذلك تناولها فلاسفة اليونان القدماء مثل الفيثاغوريين والرواقيين، وتعني أن الأحداث تتكرر مرارا وتكرارا في زمن لانهائي، وعادت الفكرة بقوة في أعمال أدبية وسينمائية في العصر الحديث.
ومع ذلك، تشعر بوتسيكاس بالقلق من ذلك التفسير؛ كون العديد من افتراضات الفريق البحثي للصور لا تستند إلى النصوص الحيثية، التي لا تذكر الكثير عن علم الفلك. وبدل ذلك، استخدم الباحثون نصوصًا من مجتمعات بلاد ما بين النهرين، التي أثّرت على الحيثيين ولكنها كانت مختلفة أيضًا. وتقول إن الدليل سيكون أقوى إذا أمكن العثور على روابط مماثلة بين الآلهة وعلم الفلك في مواقع حيثية أخرى.
وتخلص الدراسة إلى أن هناك الكثير من الأدلة على تأثير المراقبة الفلكية المنهجية والمعرفة السماوية على الثقافة في مجتمعات العصر البرونزي في مصر وبلاد ما بين النهرين وأوروبا؛ إذ يحمل الاهتمام بالأحداث السماوية أيضا انعكاسات وتأثيرات يمكن رصدها في المخطوطات الحيثية والعمارة والفنون.