رواية "ذائقة طعام هتلر" رواية إنسانية بكل معنى الكلمة، لأنها تفضح وحشية الإنسان ودمويته حين يمتلك السلطة المطلقة، وهي سرد ممتع لنسوة صغيرات فقدن كل عزيز وأمكنة خلال الحرب، وها هن يُسقن لفقدان حياتهن أيضا.


غلاف ذائقة طعام هتلر


عادة ما نأخذ الحروب بعد انتهائها من زاوية الأرقام، كأن نعرف كم قتل فيها، وكم من الجيوش شاركت، وكم من المدن دمّرت، وكم كلفت إعادة الإعمار، وكيف وقّعت معاهدات الاستسلام، وإلى كم دولة تفتت الإمبراطورية الفلانية.
وهذا ما يعثر عليه المرء في كتب التاريخ، والدراسات المتعلقة بذلك، وفي سلاسل الأفلام الوثائقية. في المقابل هناك كتب وأفلام تعطينا تفاصيل شخصية وفردية في الحروب، وهي أكثر تأثيرا في القارئ والمشاهد، إذ تدوم تلك التفاصيل الصغيرة وتعيد النظر إلى الشخص كونه من لحم ودم وذكريات وعلاقات وآمال وآلام، وليس فقط على أنه رقم مجهول.
رواية "ذائقة طعام هتلر" للكاتبة الإيطالية روزيلا بوستورينو تأتي ضمن ذلك النوع الذي يقوم على فكرة معينة وجديدة لتقدم تفاصيل صغيرة وإنسانية ضمن كتلة الحرب الحارقة، لا سيما إن كانت هذه الحرب مثل الحرب العالمية الثانية التي استمرّت من الأول من سبتمبر/أيلول 1939 إلى الثاني من سبتمبر/أيلول 1945، ويقدّر عدد ضحاياها بـ60 مليون شخص، وهو رقم كبير وفظيع يجعل تلك الحرب أكثر الصراعات العسكرية دموية على مرّ التاريخ. وقد صدرت النسخة المعربة من هذه الرواية عن المركز الثقافي العربي بترجمة الناقد المغربي محمد التهامي العماري.


قصة حقيقية

الكاتبة الإيطالية الشابة (ولدت عام 1978) كانت قد بدأت بلفت الأنظار إليها مع صدور روايتها الأولى "الغرفة العلوية" في عام 2007، ولكن روايتها الرابعة "المتذوقات" كانت الأكثر لفتا للنظر عند صدورها في عام 2018، إذ لاقت ترحيبا كبيرا من النقاد، ومع نيلها العديد من الجوائز تُرجمت إلى كثير من اللغات العالمية، ومنها اللغة العربية.
وفي عام 2014 طالعت الروائية الإيطالية مقابلة مع سيدة ألمانية تدعى مارغو فولك تقول فيها إنها كانت واحدة من بين 15 شابة وقع عليهن الاختيار ليكنّ ذائقات لطعام الزعيم النازي أدولف هتلر في مقرّه "وكر الذئاب" الذي أدار منه المعارك الحربية في بروسيا الشرقية (بولندا حاليا). كان التكليف بهذه المهمة في الأشهر الأخيرة من حياة ذلك الزعيم وتلك الحرب، خوفا من أن يُسمّمه الأعداء لإجبار ألمانيا على إنهاء الحرب.
هذه الفكرة المثيرة جعلت الروائية روزيلا تبحث عن السيدة فولك، بخاصة أنها لم تذكر تفاصيل كثيرة عن تلك المرحلة التي عملت فيها ذائقة لطعام هتلر، وربما كانت روزيلا تريد معلومات أكثر لبناء رواية جديدة لها، ولكن تلك السيدة سترحل عن العالم في عام 2014، ومع ذلك فإن رحيلها لم يثبط من عزيمة روزيلا، فكتبت روايتها الأخيرة التي فازت بـ8 جوائز أدبية.


خيال إيطالي

وما يثير الانتباه أن كاتبة إيطالية تكتب عن هذه المسألة، ولم يكتب عنها كتّاب ألمان، رغم أن السيدة فولك ظلت تعيش في برلين حتى بلوغها 96 عاما. وربما كانت السيدة فولك تظن أن عليها الاحتفاظ بسرّية مهمتها تلك حتى بعد انتهاء الحرب العالمية، وانتحار هتلر، بما يقارب 70 عاما، ولا ندري السبب الذي جعل السيدة الألمانية تفشي ذلك السر في أشهر حياتها الأخيرة، لتراود هذه الفكرة خيال الكاتبة الإيطالية الشابة لتأليف رواية.
ورغم رحيل مصدر المعلومات تلك، وعدم وجود أرشيف لهذه المهمة التي كانت تحت نظر الشرطة العسكرية الألمانية، فإن الخيال دفع بروزيلا إلى تأليف رواية من 3 أقسام بأكثر من 380 صفحة.
تستخدم روزيلا 10 شخصيات أنثوية للقيام بذلك الدور، وهو تذوق طعام هتلر في خريف عام 1943، عندما انعزل الزعيم النازي في ملجئه "وكر الذئاب" في بروسيا الشرقية، مع كثير من القادة والأتباع والأصدقاء المقربين والمخلصين له، حيث واجه محاولة اغتيال فاشلة.


تذوق الطعام.. عمل شاق

هؤلاء الفتيات المتذوقات لسن متطوعات لتذوق السم بدلا من الزعيم، بل اختارهن الأمن وخصص راتبا شهريا لهن.
يجلبهن الأمن في الصباح، ويعيدهن في الليل، في حافلات خاصة بالشرطة العسكرية. "كنّ مثل سجينات" يؤدّين عملا شاقا ووحيدا، وهو تعريض حياتهن لخطر الموت بدلا من الزعيم الخائف من أن يدسّ أحدهم السم في طعامه.
"كنا نتضوّر جوعا رغم أن الساعة لم تجاوز 11، ليس بسبب جو الريف ولا بسبب السفر بالحافلة، مردّ هذا الثقب الذي نشعر به في معدتنا هو الخوف. مضت سنوات ونحن نعاني الجوع والخوف، ولما كانت تنفذ رائحة الطعام إلى خياشيمنا، كان الدم يشرع في النبض في صدوغنا، واللعاب يجري في أفواهنا".
الراوية هي روزا ساور، وهي شابة برلينية تبلغ 26 عاما، وتعيش في غروس بارتش بعد زواجها من غريغور، ولكنها في الحرب تبقى مع والديه جوزيف وهيرتا، لأن زوجها غريغور تطوع في الحرب، ومن ثم صار مفقودا بعد تلقي أهله برقية بذلك.
روزا ستنقل لنا ذلك القلق "الحاضر" خلال ساعات تذوق الطعام، ووقوع حوادث تسمم حقيقية ووهمية عدة، مقدمة لنا تلك النسوة المختلفات والفزعات والجائعات وفاقدات الأزواج والموارد المالية. ففي ذلك الوقت من الحرب كان العثور على حليب للأطفال مغامرة كبيرة، فما بالك بأكل 3 وجبات فاخرة مخصصة لزعيم البلاد! وكذلك أكل الحلويات المختلفة كل يوم قبل تقديمها للفوهرر (القائد بالألمانية).
خلال ذلك يتعرف القارئ أكثر على ألفريد وليني وبيت وأوغستين وبقية الفتيات، وكذلك الملازم زيغلر الذي يقع في غرام روزا، رغم أنه متزوج وهي متزوجة من جندي في عداد المفقودين. وتنقل روزا تفاصيل حياتها في بيت أهل زوجها، وتعرفها على الدوقة ماريا وزوجها العقيد الذي كان صاحب المحاولة الفاشلة في اغتيال هتلر في مقر إقامته ذاك.


العنف السلطوي

وتقدم لنا روزا "الماضي" العذب خلال عيشها في برلين وتعرّفها على غريغور في العمل، وزواجهما، وانتقالهما من برلين إلى بيت الزوجية الذي لم يدم إلا أشهرا قبل تطوعه في الحرب.
ما تقدمه هذه الرواية هو ذلك العنف الذي يمارس على الفرد من أجل حياة الزعيم. إذ ما ذنب تلك النسوة، ومنهن من لديها أطفال، أن يمتن بطعام مسموم؟ وكيف اختُرعت هذه الوظيفة الغريبة؟ ولماذا على النسوة أن يواجهن هذا الحبس المجاني؟
كذلك تتحدث الرواية عن العوز الكبير للفتيات خلال الحرب، عن فقدان الأب والأخ والزوج والحبيب، وعن عدم تفكيرهن سوى بانتهاء الحرب، وعن الخوف الدائم من أصوات القصف وهي تقترب، وعن الحياة بين الشقق وعلى السلالم باتجاه الملاجئ المكتظة بالناس الخائفين الذين قد يموتون جميعا في أي وقت.
ورغم مضي زمن طويل على انتهاء هذه الحرب، فإن الرواية تقدم عملا يحتفظ بطزاجته المرعبة بسرد ممتع ومتنقل بين أزمنة وشخصيات مختلفة، وبسبب كثرة الحوارات التي تستخدمها الكاتبة الإيطالية، فمن خلال ذلك نتعرف على شخصيات وقصص مختلفة، ومنها قصة ألفريد التي هي فتاة تحمل اسما آخر، ولكنها تنكرت بهذا الاسم لكي لا يكتشف حراس هتلر أنها يهودية، غير أنهم يكتشفون ذلك ويرحلونها إلى معسكر الإبادة.
رواية "ذائقة طعام هتلر" رواية إنسانية بكل معنى الكلمة، لأنها تفضح وحشية الإنسان ودمويته حين يمتلك السلطة المطلقة، وهي سرد ممتع لنسوة صغيرات فقدن كل عزيز وأمكنة خلال الحرب، وها هن يُسقن لفقدان حياتهن أيضا.