مجموعة من طفيليات فصيلة معقدات القمة حيث تظهر المقوسة (أعلى يمين) والمتصورة (أسفل يسار) (يو إس سي دي سي- ويكيبيديا)
قد يؤدي التوصل لفهم آلية بسيطة، على المستوي الجزيئى والخلوي، إلى تطوير أدوية ناجعة لعلاج أصعب الأمراض وأكثرها تأثيرا في تاريخ البشرية، وقد أظهرت دراسة علمية حديثة نشرت بدورية "كومينيكيشنز بيولوجي" (Communications Biology)، يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أدلة إضافية تؤيد تلك الحقيقة الراسخة.
في الدراسة الجديدة، تمكن الباحثون من فهم الآلية الدقيقة التي يعمل من خلالها مركب بروتيني في بعض الطفيليات، وكيف يتفاعل مع العديد من البروتينات الأخرى، ويمكن أن يؤدي فهم هذه الآلية لتطوير الأدوية وتوقف تطور أمراض مثل الملاريا وداء المقوسات.
الانزلاق
من الناحية البيولوجية، يشير الانْزِلاَق إلى نوع حركة الخلية على طول السطح دون تغيير شكله، ولكن هذه الحركة الانزلاقية فريد من نوعها في الطفيليات من فصيلة معقدات القمة (Apicomplexa)، مثل المُتَصَوِّرة أو "بلازموديوم" (Plasmodium)، والمقوسة أو "توكسوبلازما" (Toxoplasma).
والمتصورة جنس من الأوليات الطفيلية التي تسبب الملاريا، والمقوسة طفيلي أحادي الخلية يتميز بقدرته على الحركة السريعة والنشيطة واختراق اعضاء جسم الشخص المصاب، حيث يتكاثر داخل الأعضاء المختلفة، ويتسبب في الإصابة بداء المقوسات.
ينتقل العامل المسبب لمرض الملاريا عن طريق البعوض، وينتقل العامل المسبب لداء المقوسات من الحيوانات المصابة، مثل القطط، إلى البشر، وإذا التُقط من قِبل امرأة حامل يمكن أن يؤدي إلى ضرر بالغ للجنين، ولكلا العاملين تأثير هائل على الصحة.
تسبب المتصورة 228 مليون إصابة بالملاريا ونحو 400 ألف حالة وفاة سنويا، ويمكن أن تسبب "توكسوبلازما"، التي تصيب ما يصل إلي ثلث البشر، أعراضا وخيمة لدى بعض الأشخاص، وهي خطيرة بشكل خاص أثناء الحمل.
تحصل بعوضة أنوفيليس الناقلة للمتصورة على وجبة دم من مضيف بشري وهي ناقل معروف للملاريا (جيمس سانت جون- ويكيبيديا)
أرجل جزيئية
يمكّن الانزلاق طفيليات فصيلة معقدات القمة من الدخول والتنقل بين الخلايا المضيفة. على سبيل المثال، عند دخول جسم الإنسان من خلال لدغة البعوض، تنزلق المُتَصَوِّرة عبر جلد الإنسان قبل العبور إلى الأوعية الدموية البشرية.
ويعتمد هذا النوع من الحركة على الأكتين والميوسين، وهما نفس البروتينات التي تُمكِّن من حركة العضلات لدى البشر والفقاريات الأخرى.
ويحتوي الميوسين، وهو من عائلة كبيرة من البروتينات المحركة، على شكل من "الأرجل" الجزيئية التي "تسير" على طول خيوط الأكتين، وبالتالي تخلق الحركة.
وفي طفيليات فصيلة المعقدات، يتفاعل الميوسين مع العديد من البروتينات الأخرى، والتي تشكل معا مركب "جليديوسوم" (Glideosome)، ولم يتم فهم الآلية الدقيقة التي يعمل من خلالها هذا المركب، لأن التركيب الجزيئي لمعظم بروتينات جليديوسوم غير معروف.
التركيب الجزيئي لبروتين السلسلة الخفيفة الأساسي لمركب جليديوسوم
(صموئيل بازيكي-المختبر الأوروبي للبيولوجيا الجزيئية)
ركائز جزيئية
قام العلماء في مختبر البيولوجيا الجزيئية الأوروبي بهامبورغ (EMBL Hamburg) بتحليل التركيب الجزيئي لبروتين يرتبط مباشرة بالميوسين، يعرف باسم بروتين السلسلة الخفيفة (Essential Light Chain Protein)، ومن المعروف أنه ضروري للتزحلق، لكن بنيته ودوره لم يكن معروفا حتى الآن.
وقد حصل الباحثون على البني الجزيئية لهذه البروتينات المرتبطة بالميوسين "أ" (Myosin A) لكل من المُتَصَوِّرة والمقوسة باستخدام علم البلورات بالأشعة السينية والرنين المغناطيسي النووي "إن إم آر" (NMR).
وتُظهر دراستهم أن بروتينات السلسلة الخفيفة تعمل مثل "الركائز الجزيئية"، وعند ارتباطها بالميوسين "أ" تصبح مراكزها صلبة، وتبدأ في العمل كذراع رافعة له، وتتيح هذه التقوية للميوسين اتخاذ خطوات أطول، مما يؤدي على الأرجح إلى تسريع حركات انزلاق الطفيلي.وقد قام الباحثون أيضا بالتحقيق في دور الكالسيوم في التفاعل، واكتشفوا -بشكل مفاجئ- أن الكالسيوم لا يؤثر على بنية بروتينات السلسلة الخفيفة. ومع ذلك، فإنه يزيد من استقرار المركب الناتج عن التفاعل بينهما.
يقول ماثيو بولر، الباحث في مختبر البيولوجيا الجزيئية الأوروبي في غرينوبل (EMBL Grenoble)، في بيان صحفي نشر على موقع المختبر على الإنترنت "قدم هذا العمل أول لمحة عن كيفية تحرك هذه الكائنات الحية.. إنه لأمر رائع أن نرى تفاصيل جزيئية جديدة تظهر حول كيفية عمل هذه الطفيليات خارج الخلية المضيفة".
الباحثون حصلوا على البنى الجزيئية لهذه البروتينات باستخدام علم البلورات بالأشعة السينية والرنين المغناطيسي النووي "إن إم آر" ("كومينيكيشنز بيولوجي")
تعاون متعدد التخصصات
جاء هذا العمل نتيجة للتعاون متعدد التخصصات بين العديد من العلماء في مجالات علمية وطبية مختلفة، ويظهر بوضوح أن مثل هذا التعاون قد يساهم في فهمنا للعمليات البيولوجية والإستراتيجيات المستقبلية المحتملة لمكافحة الأمراض الطفيلية.
ويمكن أن يساعد فهم هذه الآلية في تطوير الأدوية التي تمنع تجمع بروتينات جليديوسوم، وبالتالي توقف تطور الأمراض.
ويختم كريستيان لوف قائد المجموعة البحثية في مختبر البيولوجيا الجزيئية الأوروبي بهامبورغ بالقول في نفس البيان الصحفي "لقد كان الدخول في أبحاث الملاريا مسعى مثيرا. فقد ساعدنا التبادل المنتظم مع الخبراء والبيئة متعددة التخصصات على استكشاف مجال علم الطفيليات".