تسيطر على عموم الساحة الشعرية والأدبية في العراق أجواء الصمت والترقب بعد الانقلاب الكبير الذي شهدته البلاد في غضون العام الفائت.
وكنت أحسب عندما قدمت إلى بغداد أنني سأقع على كنز كبير من إنتاج الأدباء العراقيين من جراء الأحداث الكبرى التي مرت بها بلادهم. فالأحداث العظام تصنع أدبا عظيما إذ تغري قريحة الشعراء بالتعبير والتصوير غير أني لم أجد أدبا ولم أجد أدباء.
هذا هو الحكم للوهلة الأولى، لكن حاضرة السياب ونازك الملائكة والرصافي والجواهري والزهاوي لا يمكن أن تعجز عن التعبير أو ينضب فيها معين الشعر وفنون القول الجميل. وكما يقول الشاعر الدكتور محمد حسين آل ياسين، فإن العراق ولود يقدم دائما نجومه ومبدعيه إلا أن تسارع الأحداث وتوالي التحولات لم يدعا للأديب فرصة للتأمل.
ويبدو أن هذا الأديب أدرك بحسه عدم الاستقرار واختلاط الرؤى وتداخل التيارات وشعر بحتمية الصبر وضرورة الانتظار، فأجّل نشاطه ليسود نوع من البرود والكسل رغم ما يقال وينشر باسم الشعر والقصة والمقالة والنقد في الصحف والمجلات.وبدوره يرى الشاعر الدكتور هاني عاشور أن الواقع ربما يكون أكبر من الكلمات في هذه المحنة التي تمر بها البلاد، ولكن ذلك لا يعني موت الأدب أو الأديب، وإنما هو مخاض عسير يمر به الأدب العراقي لأنه في طور التحول من التعبير إلى المواجهة. إنها, كما يعبر عنها عاشور, فترة ولادة قيصرية لأدب جديد يحمل سمات جديدة أبرز ما فيها رفض الواقع لا تمجيده.
العراق ولود يقدم دائما نجومه ومبدعيه إلا أن تسارع الأحداث وتوالي التحولات لم يدعا للأديب فرصة للتأمل، والأصوات الكبيرة والمواهب القادرة على الغناء الشجي المبدع وسط هذا الضجيج صامتة منزوية حتى الآن”
ويضيف في حديثه للجزيرة نت أن الأديب بحاجة إلى فسحة من الوقت بسبب الفوضى الضاربة في الأعماق والتي تفقده جمهوره والإصغاء إليه. فالأديب موجود لكن المتلقي منصرف، وإلى حين هدوء العاصفة سيقول الأديب كلمته بعد أن يستوعب ضرورات المرحلة ويعيد صياغة فنه وفق مفاهيم جديدة.
أدب رديء
ورغم كل ذلك فإن هناك أدبا ينشر، ولكنه كما يقول الدكتور محمد حسين آل ياسين للجزيرة نت رديء في غالبه ولا يمكن أن يكون صورة للأدب العراقي، لأن هذا الأدب لم يكن في يوم من الأيام لعبة كلمات مضحكة يمارسها الصبيان على صفحات الجرائد تحت مسوّّغ التجريب والتجديد.
ويرى آل ياسين أن الأصوات الكبيرة والمواهب القادرة على الغناء الشجي المبدع وسط هذا الضجيج صامتة منزوية حتى الآن. والصغار إما مشغولون بالشتائم وتبادل الاتهام أو بالكتابة المتقوقعة على خواء الذات المريضة.
كما أن الثقافة تدخل مرحلة القطيعة مع كل تاريخها بشيء من الغلو على أساس من مفاهيم متشنجة أفرزها سقوط النظام. فهي قطيعة مع اللغة القومية الأم ومع الهوية الوطنية والنظرة إلى التراث والموقف من العقيدة والإحساس بالانتماء، وما يسفر عن كل ذلك من تلون الثقافة بالانفلات والضياع والتشرذم إلى أن تتم الصحوة مجددا على الكارثة وتبدأ مسيرة العودة إلى الثوابت.ويرفض الدكتور عاشور فكرة أن الأحداث العظيمة تصنع إنتاجا غزيرا بل تصنع نتاجا قليلا مؤثرا، فالأدب كما يقول ليس إعلاما لتغطية الحدث إنما هو فكر جديد معبر. وفي الفوضى تغيب القيمة المبدعة، فنتاجات بعض المبدعين المبثوثة في الصحافة عبارة عن تعبير لفظي أكثر منه تعبير عن معنى.
الأدب ليس إعلاما لتغطية الحدث إنما هو فكر جديد معبر، وفي الفوضى تغيب القيمة المبدعة، والأديب العراقي اختار مكانه الصائب في هذه الضجة ليكون مراقبا وموجها، وهو دوره الحقيقي عبر التاريخ
”
ويضيف أن الغزارة ليست قضية، القيمة العليا هي القضية، والأديب العراقي يبحث عن قيمة يطلقها في هذه المرحلة الصعبة. فمتغيرات الأحداث لا تعني الأديب كثيرا بقدر ما يعنيه أن يكون هو الثابت وكل ما حوله متحول.
ولكن رغم كل ذلك لا يزال السؤال مطروحا: أين يكمن الأديب العراقي؟ فآل ياسين يراه وحيدا يتلمس طريقه وسط ركام القنابل وجثث الضحايا وأكداس الخطب والتصريحات وبين مقرات الأحزاب.كما يراه وقد ملأه التفاؤل بغد تتخلى فيه وزارة الثقافة عن هدوئها المبالغ فيه لتلتفت إليه قيمة حضارية كبرى تقوم عليها نهضة الثقافة في العراق، ويتخلص اتحاد الأدباء من عثراته المالية والإدارية ومن المتربصين به للاستحواذ على مكاسبه المادية والمعنوية، وتعود الجامعات إلى احتضان مواهبها وتشجع طاقات طلابها بإقامة الأماسي والندوات، وإلى أن يتحقق كل ذلك فإن الأمل هو الشاعر والتفاؤل هو الأديب الحقيقي.
ويرى عاشور أن الأديب اختار مكانه الصائب في هذه الضجة ليكون مراقبا وموجها، وهو دوره الحقيقي عبر التاريخ، لأن المثقف والأديب أكبر من الأيديولوجيات والطروحات الانفعالية، وهذا في رأيه أحد أبرز علامات الصحة في الموقف، لأنه لم يرد أن يكون دعائيا وإنما رسوليا رساليا قديسا يموت في مذبح همه وفكره، ويختار دورانه حول الأرض لا في نقطة فيها.