من أهل الدار
تاريخ التسجيل: November-2020
الدولة: بغداد
الجنس: ذكر
المشاركات: 35,746 المواضيع: 10,494
مزاجي: متفائل دائماً
المهنة: موظف حكومي
أكلتي المفضلة: البرياني
موبايلي: غالاكسي
آخر نشاط: منذ 21 ساعات
أحلام مكسورة بطريق العودة إلى "الجنة الضائعة".. الأهوار العراقية والشغف بأرض الأجداد
صفحات كتاب "الأهوار.. الجنة الضائعة" ليست مقصورة على الشعر فحسب، بل تقدم توليفة مغايرة في أدب الرحلة، بلغة جميلة تفيض شاعرية وتجوالا.
كتاب "الأهوار.. الجنة الضائعة" للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد عن دار لندن للطباعة والنشر في لندن
يأخذ الشاعر والمترجم العراقي المقيم في المملكة المتحدة، عبد الكريم كاصد، قارئ كتابه الأحدث "الأهوار.. الجنة الضائعة"، في رحلة شعرية وتدوينية شائقة يعرّفه فيها بمنطقة الأهوار المغمورة بالماء في جنوب العراق، بجمالها وطبيعتها وناسها وهمومها وقد نال منها الوحل والإهمال الحكومي على حد سواء.
صدر كتاب كاصد حديثا عن دار لندن للطباعة والنشر في لندن، محتويا على مقدمة و6 فصول هي: زيارة أولى، باتجاه "الهوير"، هور الحويزة، ديوان الأهوار، ويضم ما يقرب من 30 قصيدة، والفصل الخامس "الحنين يزور ثانية" كتبه زياد ابن الشاعر عبد الكريم كاصد الذي ترجمه عن الإنجليزية.
أما الفصل السادس فقد قدم "لمحة عن الأهوار" كما عاش يومياتها ودوّنها الرحالة البريطاني "ويلفرد ثسيجر"، بترجمة كاصد أيضا. وثمة 12 صورة ملونة توثق ملامح ووجوها من الأهوار، بعدسة زياد عبد الكريم إحداها تصدرت غلاف الكتاب.
يبدأ الكتاب بمقدمة ثم مشاهد من رحلات قام بها عبد الكريم كاصد إلى الأهوار بدأت في السبعينيات، ثم استؤنفت في المدة الأخيرة، تحديدا في عام 2016، ثم 2017، وآخرها في 2018.
ويعدّ الكتاب منجزا مشتركا بين الشاعر عبد الكريم كاصد وابنه زياد الذي حالفه الحظ أن يزور العراق مع والده وأن تكون الأهوار وجهة مثيرة له للمتعة والاكتشاف وهو الذي عاش طفولته في لندن ولطالما حلم بزيارة أرض أجداده.
رحل الناس وبقي "القبر"
حكايات ومشاهد وغرائب ومآس وأحلام وأسفار وقصائد يقدمها كتاب "الأهوار.. الجنة الضائعة" للقارئ، ومن بينها حكايات غريبة ومريبة حتى على العراقيين الذين لا يعرفون عنها الكثير.
ففي قصيدة بعنوان "قبر" نقرأ عن "قبر" يحفر في جزيرة صغيرة بين جزر أخرى تتحرك في الماء تبنى من القصب والبردي، يرحل أهلها ويبقى القبر وحده وسط فضاءات الماء.ويشدد كاصد على أن بقاء منطقة الأهوار على وضعها الحالي، في ظل غياب الاهتمام الحكومي، يعني صعوبة مواصلة دراسة الأطفال الذين ما زالوا يقطعون المسافات الطويلة إلى مدارسهم، وندرة فرص العمل للبالغين، واستمرار وفيات الأطفال الباعثة على الحزن، كما تذكرها الإحصائيات.
ويستدعي كاصد، في السياق، ما كتبته الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف في كتاب صغير لها عن لندن، وما يمكن أن تفعله الحداثة من تغيير فيها، من دون المساس بعوالمها الأثرية، أو طابعها التقليدي التراثي.
وهنا يتحدث كاصد عن "الأهوار الشبيهة بالبشر في انبساطها، وتواضعها، وعن سمائها التي تعلوها سماء أخرى، وتموزها الذي انبعث حيًّا، وآلهتها المختبئة وراء القصب، وعن مستقبلها الذي يمكن أن نستحضره بأخف ما يحمله الناس.
ومن بين أحلام ناس الأهوار التي ينقلها كاصد التمتع "بمراكز صحية وسياحية من قصب لاستقبال السائحين من الأجانب أو من المواطنين العراقيين أنفسهم، وأن تتوفر وسائط نقل لا تكلف كثيرا، حتى ولا قليلا، لتسهيل تنقلهم، ومحطات للإقامة". وهذا لن يغير من طبيعة الأهوار البكر، بل على العكس، سيزيدها حضورا وتفتحا، وفقا لكاصد.
بين القصب
بعد مقدمة افتتاحية وتجوال بين مناطق الأهوار، وبعد كثير من التفاصيل والمواجع التي ينبشها عبد الكريم كاصد، ملخصا ما عانته المنطقة من كوارث وجرائم ابتداء من جريمة تجفيف الأهوار التي ارتكبها نظام متغطرس بحق جزء من أرض العراق، نطالع قصائد الكتاب البالغة نحو 30 قصيدة، مضامينها كلها عن الأهوار.
حتى في أجزاء الكتاب غير الشعرية، يجد القارئ نفسه مأسورا بلغة غاية في الشاعرية والجمال، وعلى هذا المنوال يحلّق كاصد بالقارئ في سماء الأهوار وقد جعلها مكانا مفتوحا للنزهة والاكتشاف ووجعا منثورا بما تحمله الكلمة من معنى.رحلة غنية بالمعلومة والتفاصيل والاستذكارات والشواهد والمآسي والأحلام أنجزها عبد الكريم كاصد، بين دفتي كتاب، كل سطر فيه مؤثث بلغة الشعر وبآهات النسيان والإهمال الحكومي، معا.
تستوقفك عبارات وجمل وعناوين كلها تفيض شعرا، وكتابة تحلم بمستقبل أفضل للأهوار وساكنيها وأطفالها المعذبين بلا مدارس ولا خدمات ولا حتى زيارة خاطفة من مسؤولي الحكومة التي تتقاسمها أحزاب فاسدة.
هنا تفيض لغة الشعر على ما سواها، فمثلا يقول كاصد "ضاق الممر .. القصب والنهر ينفضان ماءهما معا كنافورتين"، ويتابع "شجرة أثل مزهرة. قصبة ناتئة وسط قصب مستور تعلوه، كحارس يتطلع في الأفق ليستشرف الأبد".يعلن عبد الكريم كاصد، صراحة، هوسه وتعلقه بجمال الأهوار بطبيعتها وناسها وأحزانها، مستندا إلى ذاكرة تجولت فيها غير مرة، ومستشهدا بكتب الرحالة الذين عشقوا الأهوار وأفردوا لها مؤلفات مثل الإنجليزي كيفن يونغ وكتابه "العودة إلى الأهوار"، والرحالة الأرستقراطي كيفن ماكسويل صاحب كتاب "قصبة في مهب الريح"، والرحالة ثسيجر وكتابه "عرب الأهوار"، الذي كتب أنه عدّ "الأهوار الوسطى" وطنه يوما رغم ما لقيه من معاملة مريبة من قبل العراقيين.
طريق العسكر دربا للجواميس
وينوّه المؤلف ببساطة الناس في الأهوار الذين هم أكثر فهما للطبيعة، وأكثر قدرة على التكيف معها "استوقفتني قدرتهم على تحويل حتى ما هو مصطنع قبيح إلى جزء من الطبيعة، كالطريق العسكري السابق الذي غطي بالأعشاب لتجوس فيه الجواميس".
ويأسف كاصد على افتقار الأهوار إلى الخدمات الأساسية مثل أنظمة الري ومكافحة الملوحة واستصلاح الأراضي، والأهم من ذلك قلة المدارس وعناء الفتية في التنقل على "مشاحيف" (زوارق) في الماء إلى مناطق بعيدة للحصول على التعليم.
أما بعد تجفيف الأهوار فقد هاجر أغلب السكان إلى المدن، وكم هو مؤسف أن منطقة مملوءة بالقصب والبردي لا يوجد بها معمل (مصنع) واحد لصناعة الورق.
ويشير المترجم كاصد إلى أنه اعتمد في استشهاده بمدونات الرحالة الذين زاروا الأهوار على ترجمته الخاصة للفصل الأول من كتاب "عرب الأهوار" لثسيجر، وترجمته أيضا لكتاب "العودة إلى الأهوار" لكيفن يونغ، أما ما جاء به من استشهادات واقتباسات من كتاب "قصبة في مهب الريح" لكيفن ماكسويل فهي من ترجمة صادق التميمي.
كرم وإهداء
ومع بداية كل فصل، وكل زيارة، يهدي كاصد ما كتبه لاحقا إلى الأشخاص الذين رافقوه لزيارة المكان، وتتميز مدونة الكتاب بجمعها بين أسلوب الكتابة الحوارية والمقاطع والعبارات والجمل الشعرية، وتقديم تفاصيل ومعلومات وخلفيات تدعم النص المكتوب وتؤثث رحلة استثنائية في منطقة منسية من برامج التنمية الحكومية.
ويلفت الكاتب الانتباه إلى كرم الناس في الأهوار في ضيافة من يزورهم ويقترب منهم، ويذكر موقفا يعبر عن ذلك الكرم الأصيل "توقفنا عند بقعة عالية. هتفت بنا صبية: تفضلوا غداكم عندنا اليوم، مشيرة إلى أعمامها في بقعة بعيدة".
وتتابع في صفحات الكتاب، حيث "طفلان ثم جواميس أربعة تسير بوقار، وعلى مبعدة، جواميس أخرى في طابور مهيب. أحد الرعاة شرع في الغناء ليجلب انتباهنا ولكنه ابتعد الآن. الجواميس تتوقف عند كوخين".
ويتساءل كاصد "متى كان العراق مستقرا؟" لكنه يضيف "ومتى لم يكن العراق جميلا؟" متأسفا على وضع الأهوار المغيب عن اهتمام السلطات. لكن "حتى في أسوأ عهود العراق كان ثمة جمال في الطبيعة والإنسان استوقف الرحالة مشدوهين".
ثم يتطرق إلى تعامل الناس في العراق مع الآخر، وما جرّت محبة ثسيجر للأهوار عليه من تعامل سيئ إذ حسبه العراقيون جاسوسا، وعدّه مواطنوه الإنجليز مريبا.
"العودة إلى الأهوار"
ولا يتفق كاصد مع ما دوّنه بعض الرحالة مثل كيفن يونغ الذي نقل في كتابه "العودة إلى الأهوار" قول المتخصصين والتقنيين في وزارات وسلطات عراقية "أعطنا 10 سنوات من السلام والهدوء وسنصنع المعجزات"، وهنا يتصدى كاصد لمثل هذا الرأي، بقوله "لم يدر في خلد كيفن يونغ أن ما يحتاج إليه العراقيون اليوم ليس الحكومة المستقرة، وإنما العكس: الخلاص من حكومة تتناوبها أحزاب فاسدة منذ عقدين، وربما لعقدين مقبلين"، حسب الكاتب.
ولكن واقع الأهوار اليوم "خسارات فادحة، ومحو لمعالم أثرية حضارية عراقية، في مشهد مستمر" وسبق ذلك، حسب كاصد، جرائم كبرى بحق الإنسان العراقي، والطبيعة والتاريخ هناك، حسب الشاعر العراقي.
ويتوقف كاصد أمام صورة من ملامح الكرم والبساطة في الأهوار، منشدا شعرا في دجاجة الطفل أسامة الذي استقبلهم حاملا دجاجته بفرحة كبيرة وقد عبّرت الدجاجة عن ترحيبها على طريقتها إذ قبلت الضيف وداعبته وقفزت على كتفه.
وفي لحظة شاعرية جميلة أنشد فيها كاصد، مبادلا دجاجة أسامة (هذا المخلوق الجميل الأسود نهارا والأبيض ليلا) المحبة:
الطائرة بين طفل وظله
الراكضة بين شجر وشمس
ما الذي تفعلينه الآن؟
هل حقا أنت بلا ذاكرة كالبشر يا دجاجتي الصغيرة الحبيبة
أيتها الطفلة أبدا.
وفي نص آخر بعنوان "مشاهد من الأهوار" يقول:
(المشاحيف تأتي
أتحمل عرسا
ترى أم جنازة)؟
وثمة أيضا في قصيدة أخرى بعنوان "شيء عن جلجامش" أنه لا أحد ينتظر عودة جلجامش في الأهوار.
"الحنين يزور ثانية"
وفي فصل بعنوان "الحنين يزور ثانية"، يتيح عبد الكريم كاصد حيزا مهما لمقالة كتبها ابنه "زياد" الذي رافقه في آخر الزيارات إلى الأهوار، فيقول "أينما تكن فالحياة جيدة، أما هنا فهي راحة للروح".
بهذا الاستهلال بدأ زياد مقاله الموسع عن الأهوار وعن شغفه بتحقيق حلم لطالما راوده في زيارة أرض الأجداد، وهو الذي عاش طفولته في لندن، ويكتب بالإنجليزية والعربية، أيضا.
ورغم أنه من الجيل الثاني المهاجر فإن زياد يعبّر في مقاله عن شغف كبير بأرض الأجداد، في حين يعطي لمحة مهمة عن ناس الأهوار وحياتهم ومعاناتهم وتناغمهم مع الطبيعة وفرص السياحة هناك.
والمدهش أن زياد يمتلك لغة شعرية عالية، فهو الابن، ويمضي على خطى والده، ويحمل عناء الأرض والناس في العراق ومكابداتهم على محمل الجد، ناقلا هذه المعاناة إلى القارئ الأوروبي "أتيت هنا متوقعا أن ألتقي بماضي، لألتقي من خلاله بالألفة، لا كما تتجسد بالدخان، بل في كوب شاي أسود محلي. روحي، ربما، تشعر هنا براحة أفضل".