يقول المؤرخ العراقي خزعل الماجدي إن أطروحته في الدكتوراه كانت عن الطب والسحر والأسطورة والدين في وادي الرافدين، وقد ظهرت بكتاب اسمه "بخور الآلهة" صدر بطبعتين، ولذلك كانت هذه الجغرافيا الرافدينية وما أنتجته محط اهتمامه الأكبر
المؤرخ العراقي خزعل الماجدي متخصص في علم وتاريخ الأديان والحضارات القديمة ويكتب الشعر والمسرحيات أيضا (مواقع التواصل الاجتماعي)
المؤرخ العراقي خزعل الماجدي من طليعة الباحثين العرب الذين استطاعوا اجتراح مشروع تاريخي، يرصد سيرة الأديان من زاوية تاريخية محضة، لكن هذا العشق التاريخي لا يتوقف عند حدود الأديان، وإنما يتشعب أكثر فأكثر صوب المعتقدات والأساطير وحضارات ما قبل التاريخ وفنونها وجمالياتها، إلى جانب كتاباته الشعرية والمسرحية، مما جعل مؤلفاته تفوق 90 كتابا متعددة الرؤى والأحلام والمشارب الإبداعية والمنطلقات المنهحية والمعرفية التي تؤسس مسار وعيه بالكتابة.
والمؤرخ الحاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ القديم، ويقيم حاليا في هولندا، أصدر 95 كتابا، وترجمت 7 من كتبه إلى الإنجليزية والفرنسية والرومانية والفارسية والكردية.
ففي حقل تاريخ الحضارات والأديان والميثولوجيا صدر له 55 كتابا، منها "علم الأديان.. حضارات ما قبل التاريخ، الحضارة السومرية، الحضارة المصرية، الحضارة الهندية، الحضارة البابلية، الحضارة الآشورية".
وفي حقل تاريخ الفن أصدر مجموعة من الكتب المهمة التي تشكل مرجعا أساسيا في تاريخ الصورة الفنية، مثل: الفن الإغريقي، وفنون ما قبل التاريخ.
أما في حقل الشعر فقد صدرت أعماله الشعرية في 8 مجلدات و40 مجموعة شعرية، وله كتاب نظري شامل عن الشعر بعنوان "العقل الشعري"، وفي حقل المسرح صدرت أعماله المسرحية في مجلدين نشرا في المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت.
في هذه المقابلة حاورت الجزيرة نت المؤرخ العراقي خزعل الماجدي حول العديد من شؤون الكتابة التاريخية وسلطتها ومآزقها داخل التأريخ العربي المعاصر.
وطن الكتابة
- خزعل الماجدي، أولا، صدر لك ما يقارب 95 مؤلفا، كيف يستطيع -في نظرك- المفكر/المؤرخ/الشاعر/المسرحي إيجاد وقت كافٍ للكتابة بهذا الحجم أمام عالم يلهث وراء البلادة والاستهلاك؟
يستطيع، إذا كان يملك هدفا ويعرف ما يريده من الكتابة ولماذا هو يكتب، عيني على هدفي لا تغمض، منذ نصف قرن، منذ بداياتي الأولى كنت أسعى لأن تكون الكتابة فقط هي هدفي الوحيد، وكل ما عداها يشتغل لأجله، ولذلك تبرمجت أهدافي وتعدلت وتزايدت وتناقصت وتهذبت، وفي النهاية وجدت أني انشغلت بها وليس بأجناس أخرى من الكتابة.
منذ أكثر من ربع قرن توقفت كليا عن أي كتابة إعلامية أو مقالات سريعة، وقررت أن أكتب الكتب النوعية فقط، حتى في الشعر لم أجمع -مثل الآخرين- نصوصي وأضعها في كتاب، بل كنت أصنع كتبي الشعرية بعناية شديدة قبل صدورها بزمن طويل، وكذلك في المسرح.
وحين بدأت بأعمالي الفكرية صنفتها بعناية ولم أخلط بينها، فظهرت في حقول أساسية "الحضارات، الأديان، الأساطير، تاريخ الفن، الاستشراق" بترادف دقيق مع الشعر والمسرح.
يحاول كتاب "فنون ما قبل التاريخ" تقديم صورة شاملة للفنون والعقائد والأفكار التي صنعتها البشرية عبر تاريخها
- كتاباتك متنوعة بين التاريخ والشعر والمسرح، وهذا أمر ليس سهلا بحكم تباعد المجالات المعرفية التي تؤسس مسار ووعي وشكل الكتابة لديك، ورغم أنه ثمة وشائج دقيقة بين هذه المجالات لكن كيف تعيش في جسدك هذا التعدد المعرفي لحظة التفكير ثم الكتابة؟
بل هذا ما يعزز تعايش هذه التنوعات، حتى أنها تسقي بعضها وتعتاش على بعضها، كنت وما زلت أقول إن كل المبدعين في الشعر مثلا يتوقفون في منتصف الطريق لأنهم لم يكتبوا سواه، ويبدؤون بتكرار أنفسهم.
التنوع المتقارب في الكتابة يعطي تنوعها طاقة مضاعفة ويجعلها أكثر إبداعا، أما لحظة التفكير في الكتابة فلا تنفتح فيها نافذة واحدة، بل ينفتح بيت فيه عدد من الغرف والنوافذ ويكون اللحن أجمل وأعلى.
من الأدب إلى التاريخ
- في كتاباتك التاريخية هنالك اهتمام بالغ بالتاريخ القديم على حساب مراحل وأزمنة أخرى داخل الوسيط أو الحديث أو حتى المعاصر، كيف جاء اختيار التاريخ القديم، ولا سيما ما يتصل به من معتقدات وأساطير وأديان وفنون؟
لأن تخصصي الأكاديمي هو في التاريخ القديم وليس في غيره، ولذلك تجد غزارتي هناك، لكني أعتني بما حصل في التاريخ الوسيط والحديث والمعاصر، لكي أتابع ما رصدته في القديم نحو العصور التالية، وهذا مطلب فكري وليس أكاديميا، لكنه لا يعني التخلي عن أدوات البحث العلمي، ولذلك تقصيت الحضارات والفنون والأديان والأساطير فيها.
- صدرت لك كتب كثيرة عن حضارات أخرى خارج بلاد ما بين النهرين، لكن رغم ذلك تبقى هذه الجغرافيا التاريخية العربية مهمة داخل كتاباتك إلى درجة أنها غدت علامة بارزة في تاريخها، لماذا؟
أيضا لنفس السبب السابق، لأن أطروحتي في الدكتوراه كانت عن الطب والسحر والأسطورة والدين في وادي الرافدين، وقد ظهرت بكتاب اسمه "بخور الآلهة" صدر بطبعتين، ولذلك تجد هذه الجغرافيا الرافدينية وما أنتجته محط اهتمامي الأكبر، ثم إن وادي الرافدين هو أكثر بقاع التاريخ القديم غزارة في حضاراته وأديانه وأساطيره ونصوصه.
- في الكتب العديدة التي أنجزتها حول تاريخ الفن -سواء من خلال نماذج عربية أو تمثيلات أخرى غربية- لا تزال تثير بعض الإشكالات بالنسبة لي، منها ما يرتبط بمفهوم التحقيب التاريخي، هل خزعل الماجدي حين يروم كتابة تاريخ فن من الفنون البصرية يعتمد على التحقيب التاريخي المتعارف عليه أكاديميا، أي ما تخضع له التواريخ السياسية والاجتماعية، أم أن الفن عموما له يحتاج إلى تحقيباته الخاصة؟
ما دمنا نسميه تاريخ الفن فلا بد من الالتزام بالتحقيبات التاريخية الأكاديمية، لأن فيها تتجلى التطورات والانعطافات الفنية وتتنوع بوضوح أشد، لكني لو كتبت عن تيار معين محدد كالفنون السريالية أو التجريدية فسأكون خارج التحقيب التاريخي وسأكتب بحرية أكبر.
قلق المنهج
- ماذا عن المنهج لمقاربة وكتابة تاريخ الفن، هل هناك منهج واحد يقوم باستقراء الظواهر الفنية وسياقاتها التاريخية التي أفرزت لوحة أو منحوتة أو نقوشا صخرية، أم أن تعدد المناهج هو ما يساهم ضمنيا في اجتراح كتابة تتوغل أكثر في مسام الأعمال الفنية؟
بلا شك أن تعدد المناهج التاريخية والفكرية يزيد البحث والتحليل ثراء وخصبا، ويمكن للباحث هنا أن يستعمل أكثر من عدسة منهجية ليصل إلى جوهر العمل الفني، المهم تقديم العرض الفكري والنقدي للفنون بطريقة واضحة وبترادفات منهجية متعددة، وعدم الركون للبديهيات.
- التحقيب يحيلنا مباشرة إلى أزمة الكتابة التاريخية العربية، ومنها تقوقعها المخيف تجاه الظواهر الاجتماعية والأحداث السياسية ذات الارتباط الوثيق بالسلاطين وتعاقب حكمهم، ألا يؤثر ذلك في نظرك على مفهوم الهامش الذي تبلورت منه العديد من الفنون؟
التحقيب وسيلة وليس غاية، فإذا وضعناه طريقة في النظر فيجب تخطي حدوده حين نريد أن نصوغ أفكارا عميقة حول الظاهرة، ولذلك فقد يكون هو شركا حين نتقيد به بشكل كبير، لكني أود أن ألفت عنايتك إلى أن كتب تاريخ الفن العربية -سواء تلك المخصصة لماضي منطقتنا أو لحاضرها- قليلة جدا ومعدومة في بعض الأماكن والأحقاب، أتمنى أن تصدر كتب علمية ناضجة في تاريخ الفن عندنا، وأن ترافقها كتب العناية بالفن كجوهر ورؤيا وطريقة نظر.
كتاب "العود الأبدي.. العودة إلى الأصول والصراع بين الأسطورة والتاريخ" لخزعل الماجدي
- هل يمكن القول إن أزمة الكتابة التاريخية تبدأ من المصادر التي يتعامل بها المؤرخون، وهي في مجملها لا تخرج عن الوثائق المادية الرسمية، مما يعطي للقارئ أن المؤرخ المعاصر أضحى وكأنه يكتب تاريخا محددا لا يخرج عن التاريخ السلطوي وتنميطاته الاستشراقية؟
لا، ليس المصادر فقط، بل الطريقة التي يكتب بها تاريخ الظواهر الثقافية والفنية، الأكاديميون يقدمون دورا أساسيا لكنه مقيد ولا يتحرك في فضاء المعرفة بحرية، ولذا لا بد الانطلاق من الجهد الأكاديمي نحو فضاء معرفي وثقافي مفتوح يسبر الأغوار والآفاق ويخرج من سجون كل السلطات الرسمية والاجتماعية والدينية والسياسية والاستشراقية وغيرها.
الأدب والتاريخ
- خزعل الماجدي، هل تسعفك المصادر الأدبية مثلا في اجتراح كتابة عربية أصيلة ومتنوعة ولها قابلية الإحاطة بمفهوم الحدث؟
– أبدا.. بل من المستحيل هذا، ولا بد دائما من الاطلاع على المصادر الأجنبية بكل اللغات الحية، بل واللغات المندثرة أيضا لأنها لغات تاريخية دونت الماضي بعناية مباشرة.
- ثمة علاقة تجاف بين المؤرخ والأديب داخل العالم العربي، فالمؤرخ يستفيد بشكل كبير من الكتابات الأدبية المعاصرة، سواء من ناحية اللغة وكمراجع تاريخية، خاصة في التاريخ الإسلامي الذي يحتل فيه الأدب التاريخي مكانة بارزة في برنامجه انطلاقا مما يسمى عادة أدب الرحلات، ما السر في تراجع الاهتمام بهذه العلاقة داخل الكتابة التاريخية العربية؟
ربما لأن الكثير من الأنواع الأدبية التاريخية أصبحت مهجورة، فما عاد الأديب يهتم بها، وصار الأمر من اختصاص المؤرخ، وهذا ما يثير استغرابي الشخصي، وهو الطريقة التي يتعامل بها الأدباء مع التاريخ والأجناس والأنواع الأدبية والفنية التي ظهرت فيه، فهو يزدريها باعتبارها لم تستمر بفاعليتها، وأنا أراها حافزا للتطور، خذ ما فعلته في كتابي "كتاب إنكي" حين حللت أنواع وأجناس أدب وادي الرافدين لما يقارب 3 آلاف عام، وما أضفته في "أدب الكالا.. أدب النار" من إعادة بناء أجناسية جديدة لآداب قديمة.