لم يعد الفن التشكيلي مجرد هواية لتصوير الشخوص والطبيعة، بل انتقل ليؤرخ بصريا لكثير من الظواهر الإنسانية.



تمثل أعمال الفنان أحمد صبيح ولوحاته مدونة لتاريخ المخيم بصريا


لا يحتاج الفن التشكيلي للغة وأبجدية لفهمها، يكفي أن يقع بصر المتلقي -مهما كانت لغته- على اللون والخط لفهم ما يجري على سطح اللوحة، وما أراد الفنان أن يقوله من مفردات تروي حياة المخيم.
ولم يعد الفن التشكيلي مجرد هواية لتصوير الشخوص والطبيعة، بل انتقل ليؤرخ بصريا لكثير من الظواهر الإنسانية التي يُسقط عليها الفنان أحاسيسه ومشاعره، ومنها المخيمات الفلسطينية التي صورها الفنانون التشكيليون في بعض معارضهم بصورة مباشرة.
غير أن الفنان التشكيلي أحمد صبيح -الذي عاش في المخيم- بقي يسمع وهو يركض في زقاق المخيم صدى ما يذكره الكبار من الحنين للعودة، فبقي الحلم ينمو في رأسه بين مشاهدات المخيم وحكايات الفردوس السليب الذي أعاده من خلال رصد الحياة اليومية للأطفال واهتماماتهم والشيوخ وحكاياتهم والنساء وانشغالاتهن.
وبخلاف ما كان يصور المخيم في بعض الأعمال الفنية بشكل مباشر في الستينيات وما بعدها لرسم مأساة اللجوء، فإن الفنان أحمد صبيح يذهب -بعد 7 عقود في أعماله وتجربته التي تواصلت على مدار عقد من الزمان- إلى قراءة تحولات الهوية بتأثير المكان الطارئ، وتحولاته وطقوسه ومواسمه وأجياله بعد 73 سنة من النكبة التي توارثتها 3 أجيال.



يذهب صبيح في أعماله وتجربته التي تواصلت على مدار عقد من الزمان إلى قراءة تحولات الهوية بتأثير المكان الطارئ


بحث بصري

ومع الفترة التي امتدت فيها التجربة شكلت أعمال صبيح بحثا بصريا في المخيم وبحثا في تحول تجربة الفنان نفسه حول أسلوبه وتقنياته وموضوعاته التي تحولت بين عدد من الأساليب، وانتقلت بين الواقعي والتعبيري والرمزي والموضوع الواحد إلى الملحمي الذي يختزل صورة المخيم وزمنه في عدد من الرمزيات التي لا تخطئ معها عين المشاهد رسائل الفنان.
يحاول الفنان -الذي حصل على البكالوريوس في الرسم من جامعة الفنون- توثيق تحولات المخيم العمرانية والإنسانية، وشكل هذه التحولات عند الأجيال من خلال شكل التعبير، والأهم من ذلك مقاومة النسيان بالفن، ويقول الفنان إن "الكاتب يدون مذكراته بالكتابة، وبالنسبة لي هذه التجربة تمثل مذكرات أدونها بالريشة واللون".
ويضيف صبيح أن المشروع الذي يعمل عليه يحمل منذ وقت اسم فضاء المخيم، ويفسر ذلك بقوله "لأنه فضاء واسع ومليء بالألم"، ويشتمل على 73 عملا بعدد سنوات الشتات واغتصاب فلسطين وهي أيضا عمر المخيمات منذ العام 1948، وهي أعمال بأحجام كبيرة بين 80 سنتمترا مربعا و140 سنتمترا مربعا.


فكرة الغياب

ويقول إن "المخيم يمثل فكرة الغياب الذي يستحضر معنى المكان الأول، وأنا لم أسكنه بل يسكنني قسرا، وهو وصمة عار على جبين الإنسانية، وبالنسبة لي هو لوحه تشكيلية تكونت من شتات العمر ظلالُه، لا ترضى أن تستقر على الأرض فهي لا ترتاح إلا بالأرواح التي تهيم، وترحل كل يوم لفلسطين بثوبها المطرز الكامل فهي لوحة غنية بالألوان تستبدل حياة الذل بالأمل. اللوحة تشبه أغنية فيروز:

عيوننا إليك ترحل كل يوم
ترحل كل يوم
تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس
وتمسح الحزن عن المساجد".
ويرسم الفنان -الذي أقام عشرات المعارض في الأردن والبلدان العربية وأوروبا- المخيم لاستعادة المكان الغائب برمزياته التي تتجسد في استذكار الأجيال للفردوس المفقود من خلال تمعن سنوات الشقاء التي تجسدت بجماليات العذاب والحزن والانتظار.



تجربة صبيح في تحويل المخيم إلى ألوان مثل حالة تاريخية تراها في عيون النساء والعجائز والرجال الذين انتظروا طويلا


بناء المخيم وتشكله الهوياتي

ويقول الفنان محمد العامري إن تجربة صبيح "تمثل مدونة بصرية متكاملة توثق للمخيم بكل ذكرياته التي يضفي عليها من مشاعره وتجاربه التي عاشها والتي تمثل ذكريات تنعكس تعبيريا عن الحالة التي يعيشها الإنسان بين الواقع والحلم".
ويقول الشاعر غازي الذيبة إن "المخيم في تجربة صبيح يشكل حالة بصرية وتشكيلية، ويمثل موضوعا إنسانيا، وقضية حَرية بالتسجيل كموضوع تاريخي للأجيال، وتمثل نوعا من الخطاب التسجيلي الجديد الذي يختلف عن التجارب السابقة التي كانت تقف عند البكائيات، فيما تذهب تجربة صبيح للعمق ببحث بصري في كيانية بناء المخيم الوجودي، وتشكله الهوياتي".
ويصور الفنان زقاق المخيم الضيقة وشوارعه المتعرجة وملامح الناس ونمط البناء الذي في الغالب لا يكون مكتملا، ويرسم مواسم فرح الأطفال في الأعياد بألوان تزاحم فيها الظلال مساحة النور التي يرسمها بألوان الزيت التي تمنح المفردات إحساسا أكثر قربا من الألوان التي اختارها الفنان للتعبير عن الواقع، وبألوان الأرض والتراب والسماء والشجر والبحر وأثواب الأمهات التي حيكت بخيوط الحرير وهندسة أصابعهن.



تعد تجربة صبيح أول معرض ينظر للإنسان الفلسطيني بمخيمات الشتات من بعدها الرابع الخفي


المرأة رمزية الأرض

ويقول الفنان صبيح "إن الرسالة من مشروعي هو ألا يغفو الحلم إلا بالعودة إلى فلسطين، وقتها تتلاشى كل مظاهر الشتات ومنها المخيم الذي هو محطة للعودة يذكرنا بالوطن المسروق".
ويركز الفنان في تجربته على موضوع المرأة الفلسطينية بحالتها الواقعية والرمزية، فهي الأرض والخصب وشجرة الزيتون والسنديان وصورة فلسطين، وهي المربية للأجيال التي تزرع فيهم، وهي التي تجسد الهوية من خلال حماية الهوية في ثقافة الطعام والزي والحكايات، وهي أم الشهداء والأسرى، وهي المقاتلة والصابرة.
ويقول الفنان إن "الرمزيات ورموز لوحاتي في فضاء المخيم تعبر عن الموروث الشعبي الذي كان نتاج حضارة عريقة لشعب عريق، ومنها: العصفور والغراب والورود والزخرفات التي تطرزها على ثوبها، وهي بمثابة بستان وحديقة متنقلة تمثل فننا وحياتنا وحضارتنا".
وتمثل أعمال الفنان ولوحاته مدونة لتاريخ المخيم بصريا، حيث يرسمه بواقعية تعبيرية، وتسجل حكايات الناس وقصصهم وأحزانهم وأوجاعهم وفرح الأطفال الأبرياء، وذكريات الكبار عن قراهم ومدنهم، ويرى أن المخيم "مثل حالة تاريخية تراها في عيون النساء والعجائز والرجال الذين انتظروا طويلا، ويزرعون الأمل الذي يعبرون عنه بالورود في تنكات السمنة والحليب على أسوار تعبر عن ديمومة الحياة والتعلق بالأمل".



التشكيلي أحمد صبيح يدون مذكراته في المخيم باللون


سيكولوجية المخيم وتحولاته

يختم الفنان قائلا "هذه السنة العاشرة التي تمر على تجربتي، أوثق في هذا العمل، ليس المباني أو الشواهد فحسب بل المكون والتكوين والأرواح التي أتعبها الانتظار ولا بد أن تستريح، هذا ما أشاهده يوميا، كلما أعدت لي أمي قهوة الصباح أنظر في عينيها فتبتسم فتغرق الغربة في فنجان القهوة".
هذه التجربة، بحسب الفنان تعد أول معرض وتجربة تنظر للإنسان الفلسطيني بمخيمات الشتات من بعدها الرابع الخفي، التاريخ المنسي أو المجهول واللامرئي واللامكترث، وذاكرة المهمل والهامشي والذي يتصل بمشاعر الناس وأحلامهم وكيانهم وكينونتهم، وهو دراسة في سيكولوجية المخيم وتحولاته، وهو بحث دائم يتمنى أن يصدر في كتاب، وأن يتسنى له ليكون معرضا دائما وتضاف إليه لوحة كل عام تسجل ذاكرة المخيم، وتسجل اللحظات الغائبة من الوطن، تتذكره الأجيال كجزء من تاريخ الشتات والمعاناة، ويكون جزءا من التاريخ والماضي بعد العودة.