من النّصّ إلى الفعل، ظواهرُ مَرَضية في قراءَة الرواية، على هامش روايَة آلام فارتر للشاعر الألماني جوته، وتأثيرها السلبي في القرّاء الشباب
مصيرُ أبطال الروايَة: انتحر البطلُ في نهايةِ الروايَة، والمُثيرُ أنّه انتحرَ بعدَه كثيرٌ من الشباب في ألمانيا بعد قراءته…
“آلام فارتر” لشاعر ألمانيا وفيلسوفها في فرنكفورت: “جوته” بترجمة حسن الزيات وتقديم طه حسين.
***
الانتحارُ بسبب الحُبّ البائس، والغَرام اليائس، نفذه في نفسِه فارتر، فجَعَلَه جوته مَثلاً أعلى للشبيبَة الحساسَة وسبيلاً إلى تصوير عواطف مُتّقدة وخواطر ملتهبة ونفوسٍ مضطرِبَة، وجعَلَ جوته بطَلَه هذا نفْساً لطيفةً شاعرةً أشجاها غصَّةُ الهمّ وحرقةُ الجَوى، ليستمدَّ منه الشبابُ الصبرَ والعَزاءَ من الآلام، ويتلمّسون البرءَ والشفاءَ من الأسقام.
وبعدُ، فهل يُعدّ الانتحارُ فعلاً طبيعياً بعدَ فعلِ القراءَةِ، هل هو انتقالٌ منطقيٌّ من النّصّ إلى الفعلِ، هل الانتحارُ استجابةٌ طبيعيّةٌ لحوادثَ حصَلَت في الرّوايَةِ، وتقليدٌ طبيعيٌّ من القُرّاءِ للبطَلِ؟
الحقيقةُ أنّ الانتحارَ إزهاقٌ للنفس، واعتداءٌ على الروح، وجريمَةٌ في حقّ الذّات، ولا يَبدو أنّها تضحيةٌ سليمَةٌ يَنتفعُ منها المُحبُّ والمَحْبوب.
ومن الناسِ مَن انتَحَر من شدّة الطّربِ من الأصواتِ؛ في ما حَكاه الجاحظُ: «أَمْرُ الصَّوتِ عَجيبٌ، وتَصرُّفُه في الوُجوه عَجبٌ، فَمن ذلكَ أنّ منه ما يَقتُلُ، كَصوت الصّاعقة، ومنها ما يَسُرُّ النّفوسَ حتى يُفْرِط عليها السُّرُورُ؛ فتقلَقَ حتى تَرقُص، وحَتّى رُبما رَمى الرَّجُل بنفْسه مِن حالق…» [كتاب الحيوان للجاحظ: تأثير الأصوات]
ونحن ههنا نتكلم عن الذين انتحَروا من شدّة الحبّ، حبّ الأشخاص أو الأصواتِ أو الأشياءِ، هَلْ كانَ المنتحِرونَ أنموذجاً ومَثلاً في المُحبّينَ، نعرفُ أنّ من المحبّينَ مَجانينَ مثل مجنون ليْلى وغيره، وهائمينَ على وُجوههم، ومَن تَعرّضَ للمَهالك، أيكْفي أن نصفَ النّماذجَ البشريّة التي أهلكَها الحبّ أو أهلَكَت نفسَها بنفسِها، بأنّها نَماذجُ عاليةٌ في التّضحيةِ البشريّة، والمشاعرِ المفْعَمَةِ الغاليةِ.
والرأي عندي أنّ الانتحارَ في سبيلِ المحبّةِ ليسَ تَعبيراً سَليماً عن المحبّة؛ لأنّ المفترَضَ أنّ المحبّةَ تولّدُ العجائبَ ولا تَقودُ إلى قَتْلِ النّفسِ: فهيَ حَياةٌ وليسَت موتاً، وأملٌ وليسَت يأساً، ونورٌ وليسَت ظَلاماً، وأنسٌ وليسَت غربةً ووحشةً، وشعورٌ إيجابيّ وليسَت سلْباً، وسموٌّ بالنّفْسِ وليسَت هُبوطاً، وظاهرةٌ صحيّة تدفعُ إلى الإبْداعِ وليسَت انكفاءً، وفيها انسجامُ النُّفوس وتآلُفُها، وليسَت تَنافُراً، وفيها مُواكبةُ طَبائع الأشياء لا مُعارضتها، أما الانتحار فهو شذوذ ومَرضُ نَفسٍ يضرّ بالمحبّ والمحْبوب ويُزهِّدُ الناسَ في المحبّة أصلاً.
فإذا قالَ القائلُ: ذا كان المحبُّ يفقد عقلَه من الحب فهل يمكن التماسُ العذر له لأنّه لَم يعُدْ يتحكّمُ في أفعالِه ولا يملكُ إرادَتَه وقلبُه أفلَتَ منه واستقرَّ بين يدي المَحْبوبِ ليفعلَ به ما يشاءُ…
فالجوابُ أنّه إذا ثبَتَ بالطّبّ الشّرعي والفَحص أنّ الإنسانَ مريضٌ عقلياً أو مَجنونٌ فهذا ممّن رُفع عنه القَلم، أمّا إذا كان يُميّزُ وعرّضَ نفسَه للهلاك فهو مسؤولٌ، وغُلاةُ المتصوّفَة من الحُلوليّة والفرقِ الضّالّةِ قَصدوا إلى ذلِك قصداً ووجدوا راحَتَهُم وضالَّتَهم في الجُنون، ولم يكونوا مَجانينَ خارجَ إرادتهم؛ لأنّهم ترَكوا كتباً ورَسائلَ تشهدُ عليْهم وتُقيمُ عليهم الحجّةَ. وقد كانَ كثيرٌ منهم قَوماً بهاليلَ مَعتوهين، كما قالَ ابنُ خلدونَ في المقدّمة، أشبه بالمجانين وأقربَ إليهم من العقلاء، وكانوا يَدّعونَ أنّ لهم مَقامات الولاية و أحوال الصديقين، وغير ذلِك ممّا يُوهمُ أنّهم رُفِعَ عنهم القلمُ ولم يَعودوا مُكَلَّفين، وأنّهم أهلُ محبّةٍ وذَوقٍ، وأنّهم يَقعُ لهم من الأخبار عن المغَيَّبات عجائبُ لأنهم لا يَتقيَّدون بقاعدةٍ ولا بتَكليفٍ شرعيّ.
والحقيقةُ أنَّ التّفانيَ في حبّ الله لا يؤدّي إلى الجُنون والتّعرّي واختلاطِ العَقْلِ… وإنّما يؤدّي إلى البناءِ والانسجام مع الكون ومحبّة الناسِ والتآلُف معهم وإنشاء الحَضارات الإنسانيّةِ النافعةِ وإبداعِ المَعارِفِ العلميّةِ والثّقافيّة.
والانتحارُ من أجل المَحْبوب ثقافةٌ عُرِفَت في المجتَمَعاتِ الغربيّةِ عامّةً ولم يُعرَفْ بالقوّةِ ذاتها في المجتمعَع العربيّ على الرّغم ممّا يُقالُ عنه من أنّه مجتمع التشدّد الدّيني والعنف الفكريّ وهلمّ جراً ، فالانتحارُ تضحيةً بالنّفس من أجل المَحْبوب عُرفَ عندَهُم بقوّة ، وما زالَ إلى اليوم، بسبب الخَواء الرّوحيّ ، وكلّما وُجدَ هذا الشّرطُ [الخَواء الرّوحيّ والعَراء عن الثقافَة المحصِّنة] تحقّقَت النتيجَة : الانتحار