لم تكن رحلة عشتار إلى باطن الأرض واستدعاء تموز بالخروج ليحدث الربيع، رؤية مثيولوجية عبثية، وانما كانت البداية لنوع ادبي اسماه فلاديميربروب الكوميديا، وقد اقترنت الكوميديا حركة وفكرا واسلوبا بالتجديد والتنوع والتطوير، حتى لتحسب انها الشكل الموازي للتراجيديا، بالرغم من اختفاء كتاب أرسطو عن الكوميديا، والثيمة التي أنوي معالجتها في هذه الأسطر القليلة هي ان الربيع لا يحدث على سطح الأرض، بل يحدث اول الأمر في الأعماق الأرضية او البشرية، ثم يظهر بعد أن خبّأ أسباب وجوده الثابتة على سطح الأرض، ثم نعايشه ونراه ونتفاعل معه ونعده ربيعا. وهذه الثيمة قد عولجت بطرائق شتى في مسرحيات شكسبير وغيره، وبالكيفية العملية لبناء العمل الكوميدي، من ان الكوميديا ليست شكلا ظاهريا يضحكنا عندما يقدمه المسرح، بل هي جزء مبني في اعماق الشخصية وله حيثيات عملية لتمظهراته وما نشاهده معروضا في نص روائي او مسرحي ليس إلا استجابة لذلك الواقع النفسي والاجتماعي المغمور في الشخصيات والذي لم يظهر علانية لنشاهده ونتفاعل ونضحك معه إلا بعد أن يكون قد نضج في أعماق وأبعاد الشخصيات والأحداث، لذلك فالكوميديا ليست إلا المهيئات التي تنتج فصل الربيع الكائنة في أعماق الأرض والبشر،
وما أن يظهر منها على السطح مزهرا وفكاهة مشعة ومبهجة حتى تتفتح نواة الأعماق عن
مكنونها. لا لأنها تمكنت في أعماقها من امتلاك حقيقة التغيير، بل لأننا نحن المتعايشين معها مستعدون كاستجابة نفسية واجتماعية للتغيير.فالربيع ليس فصلا لدرجات الحرارة المختلفة، بل هو نزوع طبيعي وبشري وانساني نحو التحرر من اثقال الماضي التي يمثلها الشتاء.
نلاحظ ذلك النمو في الأشجار عندما يحين فصل الربيع، لنجده لا يحدث على سطح الحياة الأرضية أول الأمر، بل يحدث في أعماقها، فتجد الأشجار تنمو وتزهر وتورق وتتغير ألوانها، وتبدو فرحة بحضورها المخضّر من جديد، مع أن المناخ بارد وممطر وأحيانا عاصف. إن من ينعش حياة الطير والكائنات الأرضية والبشر، ويغير الهواء والرؤية لتبدو الحياة انها قادرة ذاتيا على تجاوز شتائها وما فيه من عسف وظلم واسوداد، هو ربيع الأعماق وليس ربيع السطوح.
هذه الرؤية للأشجار وللاحياء وللأرض لا تصنعها حياة يومية متغيرة بل تصنعها اعماق الأرض واعماق البشر، وقد فرضت المثيولوجيا ظاهرة اقتران هذه الثيمة بالتجديد بعودة تموز أو بعيد نوروز، فالطبيعة تفكر من خلال اعماقها وليس من خلال سطوحها، فالعقل المادي للطبيعة يكمن هناك في العالم السفلي الذي قصدته عشتار لإيقاظ تموز من سباته وظلمته والعودة به إلى الأرض مصحوبا بموسيقى التغيير الصاخبة التي تتعايش بصريا وحسيا مع تغييرات الجسد البشري وهو ينزع ثياب الشتاء، تمهيدا للدخول في ثياب الربيع وثياب الصيف حيث الكوميديا تشرك في عرضها الساخر أشكالا من الأفعال والأشكال القديمة لتفتتها وتبني اشكالها الجديدة القابلة للتغيير، الضحك الذي يحدث على هذه التغييرات هو جزء من مهمة ان لا يكون البشر على سجية واحدة دائما، فالعرس الربيعي المزهر أشمل من كونه تغييرا في درجات
الحرارة. فحياة الربيع تخترق السطوح الأرضية حتى لو كان الجو باردا وممطرا، مما يعني ان للربيع مواقيت طبيعية وليست مناخية، وهذا يدلنا على التغيير الممنهج من أنه فعل من أفعال العقل وليس فعلا عاطفيا مؤقتا.