محمد صابر عبيد
تتعدد مفاهيم الخرافة ومعانيها ودلالاتها بتعدد الأنساق التي تستخدَم فيها والمرجعيّات التي تعتمد عليها في صياغة المفهوم وتحديد المعنى، ولعل المفهوم الاجتماعيّ للخرافة هو الأقدم والأكثر تداولا ومعرفة وشهرة حين يتعلق بتضاده العام الصريح مع العقلانيّة، فكل ما هو مخالف لمنطق العقل وإجراءاته يمكن إدراجه في حقل الخرافة الذي ينفي حضور الأثر العقليّ ويعمل خارج إطاره، وعلى الرغم من حضور هذا المفهوم لدى أكثر مجتمعات العالم في مرتبة قارّة من مراتب المعرفة، إلا أن تسيّد صنعةِ الخرافةِ على طبقات اجتماعيّة وثقافيّة أدنى من الطبقة المعرفيّة المؤمنة بالعقل ظلت فاعلة في سياق قمع العقل وتسفيهه.

تؤدّي {الخرافة الحكائيّة} التي تسلّي الأطفال دوراً تثقيفياً سردياً بالغ الأهميّة في هذه المرحلة العُمريّة، إذ يتسع الخيال الطفليّ ويرتفع سقفه حين يتماهى الطفل مع تلك التموّجات المُحلّقة في الفضاء الشاسع التي تتيحها الحكايات الخرافيّة، إذ يصدّقها ويتلقّاها بوصفها حكايات حقيقيّة تفتح أفق التصوّر لديه نحو أبعد الحدود وتنشّط أدواته العقليّة البسيطة نحو استثمار طاقة العقل على نحوٍ ما، ولا بدّ من توجيه هذا النشاط على وفق رؤية سليمة تراعي الفئات العمريّة وتقدّم لها ما يناسبها من جرعات هذه الخرافة، بما يسهم عميقاً في تكوين خيال أصيل للطفل واليافع والفتى تكون فيه الحكايات الخرافية عنصراً إيجابياً في بنائه.
تعجّ حكايات ألف ليلة وليلة على سبيل المثال بمجموعة هائلة من المحكي الخرافيّ بشتّى أنواعه وأشكاله وقضاياه، وقد يصطلح - في بعض المدوّنات التي عالجت الليالي- على قسم منه {الخيال العلميّ}، والخيال العلميّ له صلة وثيقة وحميمة بموضوع الخرافات بما ينطوي عليه من خرق شاسع وعميق وأساس للمألوف والمتداول والمتعارَف عليه، وهذا هو جوهر مفهوم الخيال العلميّ وجوهر مفهوم الخرافيّ في آنٍ بما يغذّي فضاء التخييل ويموّنه بمزيد من الطاقة والتمثّل.
يدخل مفهوم الخرافة الأدبيّة على صعيد الموضوع الأدبيّ في أشكال ومذاهب ومدارس وتيارات أدبيّة عديدة ومتشعّبة على صعيد النظر والتسميّة والفهم، منها ما اصطلح عليه مؤخّراً {الواقعيّة السحريّة} التي تميّز بها روائيّو أميركا اللاتينيّة وفي مقدّمتهم ماركيز، لتقوم صفة "السحرية" الملحقة بالموصوف {الواقعيّة} بعمل
جبّار في جعل الواقع السرديّ داخل تلك الأعمال الروائيّة خارقاً، وهي نوع متميّز وصعب من أنواع الواقعيّة التي تفترض تحقيق أمرَين متناقضَين في سياق واحد، أن تكون الحادثة السرديّة واقعيّة من طرف وخرافيّة من طرف آخر، إذ يتمّ في الظواهر الأدبيّة والفنيّة وما تتمخّض عنه من نصوص وخطابات قبولُ هذا الفضاء الأدبيّ الخرافيّ وتشجيعه، بوصفه يمتلك سمات حداثيّة أو ما بعد حداثيّة تنقل الفعاليّة الأدبيّة من أحيازها البلاغيّة المحدودة إلى فضاءات تعبيريّة وتشكيليّة لا محدودة.
تتسلّل الخرافة في سياق آخر إلى منطقة الوهم الذاتيّ {الشخصيّ}برشاقةٍ وأداءٍ برّاقٍ حين تتحوّل من {موضوع} إلى {صفة} تشتغل عادةً في محورَين مختلفَين، وإذا كانت الصيغة النعتيّة الوصفيّة {خرافيّ} تحتمل دلالتين متناقضتين بحسب طبيعة السياق الذي تستخدم فيه، فإنّ دلالتها الإيجابيّة تحيل على أقصى درجات الجمال والتألّق والسحر التي تتجاوز الحدود المعقولة في تشكيلها المُبهِر، وتحيل بالعكس تماماً من ذلك على أقصى درجات القبح والفساد والتخلّف حين نقصد الدلالة السلبيّة، فقد نقول في سياق مَدْحيّ {أفكار خرافيّة} لوصف الطاقة الخارقة لهذه الأفكار في قدرتها على الإبهار وابتكار البهاء، لكنّنا في سياق ذَمّيّ قد نطلق العبارة نفسها ونريد سقوط هذه الأفكار وتعارضها مع أبسط قوانين
العقل.
لكنّ هذه الخرافة مع ذلك قد تهيمن على عقلٍ ما بغرض إيهامه بأنّ ما يملكه من خزين المعرفة لا يملكه سواه، فيهيمُ في سرابٍ ذاتيّ لا أوّل له ولا آخر مُسلِّماً مقاليد أمره لضغط هذه الخرافة بلا خطِّ رجعةٍ، ليسقط ضحيّة هذه الخرافة داخل وعيٍ زائفٍ يغمره في متاهة خسارةٍ كبيرةٍ لا يدرك مداها إلا بعد حين، وقد لا يدرك مداها أبداً فيبقى في موقف يدافع فيه عن أوهام؛ في حين يعتقد أنّه يدافع عن حقيقة لا مراء فيها، فيكون الموهوم المُذعن لخرافته الشخصيّة التي يرى فيها ما يتوهّم أو يتمنّى خلافاً لما هو موجود فعلاً، كي يكون الضحية الأكيدة لمفارقةٍ تضعه في زاوية مهلِكة لا يُحسدُ عليها مطلقاً.
أمّا الخرافة بوصفها صنعة فيمكن وضعها في أعلى سلّم الأولويّات حين نرصد آثارها السلبيّة القاتلة على المجتمعات التي لم تنلْ حظاً كافياً من التحضّر والتقدّم والمعرفة، إذ يستثمر كثير من الدجّالين {أصحاب مهنة الخرافة} تخلّفَ بعضِ أفراد هذه المجتمعات ورجعيّته وغباءه، حتّى يوقعه في شراك الخرافة وحبائلها المتشابكة التي لا تعطيه فرصة النجاة منها، إذ يدّعي أنّ بوسعه حلّ المشاكل التي يعاني منها مهما كانت معقّدة وغامضة وعصيّة على الحلّ، فهو بحيلِهِ التي تحيط بالصنعة يمتلك طاقات استثنائيّة يحقّق له بها ما يريد –وهماً- بأساليب خاصّة لا يجيدها سواه، ولا يستطيع غيره النهوض بها؛
بعد أن يضع ضحيته في فضاء فانتازيّ يغلق عقلها ونظرها وأحاسيسها ويقفل تماماً على شخصيّتها، ويتقاضى منها أجوراً مبالغاً فيها لفرط ما يقدّم لها من خدمات سحريّة لا تقدّر بثمن بحسب قدرته على
إيهامها.