بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
* تتجسّد في الإمام المعصوم عليه السلام كلّ الكمالات التي يُمكن أن يُحيط بها البشر، فإذا هو في العِلم غايتُه، وفي الخُلق أرفعُه، وفي الإحسان كمالُه، وفي العبادة منتهاها، وفي الصَّبر أجملُه، وفي الجهاد رأسُ سنامه.. وهذا ما يتجلّى في سيرة كلّ واحدٍ من أئمّة الهدى من أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليهم أجمعين.
وهذا إمامنا جعفر الصادق عليه السلام نورٌ من تلك الأنوار الساطعة في سماء المجد، حفلت المصادر على اختلافها بما أُثر من علومه وفضائله ومكارم أخلاقه، وتبارى العلماء والمؤرّخون في الترجمة له والتشرّف برفع لوائه.
* وُلد الإِمام أبو عبد الله، جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام بالمدينة المنوّرة يوم الاثنين السابع عشر من شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وثمانين هجرية.
* والده: الإمام محمّد الباقر عليه السلام، وأُمّه فاطمة ابنة القاسم بن محمّد.
* لقبه: الصادق والفاضل والطاهر والقائم والكافل والمنجي والصابر. وكُنيته: أبو عبد الله وأبو موسی.
* تُوفّی «شهيداً» في اليوم الخامس والعشرين من شهر شوّال من سنة مائة وثمانية وأربعين من الهجرة، وله من العمر ثمان وستون سنة، ودُفن جسمه الشريف في مقبرة البقيع.
* أقام مع جدّه الإمام السجّاد عليه السلام اثنتي عشرة سنة، ومع أبيه الإمام الباقر عليه السلام تسع عشرة سنة، وكانت أيام إمامته أربعاً وثلاثين سنة.
عدّوا أخْذَهم عنه منقبةً شُرّفوا بها
كان الإمامُ جعفر الصادق عليه السلام أبرز شخصيات عصره على الإطلاق، وأكثرهم شهرةً من حيث العلم والفقه والحسَب والنّسَب والعبادة ومكارم الأخلاق، وقد شهد بذلك جمعٌ من العلماء.
* قال زيد بن عليّ: «في كلّ زمانٍ رجلٌ منّا أهل البيت يحتجُّ اللهُ به علی خلقه. وحجّةُ زماننا ابنُ أخي جعفر، لا يضلُّ مَن تبعه ولا يهتدي مَن خالفه».
* وقال اسماعيل بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس: «دخلتُ علی أبي جعفر المنصور يوماً، وقد اخضلَّت لحيته بالدموع، فقال لي: ما علمتَ ما نزل بأهلك؟
قلت: وما ذلك؟
قال: فإنّ سيدهم وعالمهم وبقية الأخيار منهم تُوفّي.
فقلت: ومن هو؟
قال: جعفر بن محمّد....إنّ جعفراً كان ممّن قال الله فيه: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا...﴾، وكان ممّن اصطفی اللهُ، وكان من السابقين إلی الخيرات»! (فاطر:32)
[يبكي المنصور الإمامَ الصادق عليه السلام، وهو الذي قتله. وقد جرى مثل ذلك مع غيره من خلفاء بني العباس؛ أبدوا الندامة بعد قتلهم أحداً من الأئمة عليهم السلام]
* ويقول أحمد بن حجر الهيتمي في (الصواعق المحرقة): «.. وخلّف محمّد الباقر عليه السلام ستّة أولاد أفضلهم وأكملهم جعفر الصادق ومن ثمّ كان خليفتَه ووصيه».
* وكتب محمّد بن طلحة الشافعي في (مطالب السؤول): «نقل عنه الحديث واستفاد منه العلمَ جماعةٌ من الأئمّة، وأعلامهم مثل: يحيی بن سعيد الأنصاري، وابن جريج، ومالك بن أنس، والثوريّ، وابنُ عيينة، وأبو حنيفة.. وغيرهم، وعدّوا أخذهم عنه منقبة شُرّفوا بها وفضيلة اكتسبوها».
* وفي (إرشاد) الشيخ المفيد، قال: «.. إنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات علی اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل».
ليست الأمانات بالرّسوم
لقد تقرّر في محلّه أن لإثبات إمامة الأئمّة المعصومين الاثني عشر أدلةً متنوعهً ومتعددةً تكفي لإثبات إمامة كلّ واحد من الأئمة وتُسمّى بالأدلة العامّة، وهناك أدلّة خاصّة تدلّ علی إمامة كلِّ واحد من الأَئمّة بخصوصه، وهي النصوص الصادرة من كلّ إمام سابق علی الإمام اللاحق، يصرّح فيها باسمه وشخصه. ولا حاجة إلی تكرار الأَدلّة العامّة، ولهذا نكتفي هنا بذكر عددٍ من الأدلّة الخاصّة.
* عن أبي نضرة، قال: «لما احتضر أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام عند الوفاة دعا بابنه الصادق عليه السلام ليعهد إليه عهداً. فقال له أخوه زيد بن عليّ: لو امتثلتَ في تمثال الحسن والحسين عليهما السلام رجوتُ أن لا تكون أتيتَ منكراً، فقال له: يا أبا الحسين، إن الأمانات ليست بالتمثال، ولا العهود بالرسوم، وإنما هي أمورٌ سابقةٌ عن حُجج الله عزّ وجلّ».
* وعن همام بن نافع، قال: «قال أبو جعفر (الباقر) عليه السلام لأصحابه يوماً: إذا افتقدتموني فاقتدوا بهذا؛ فهو الإمامُ والخليفة بعدي. وأشار إليّ أبي عبد الله الصادق عليه السلام».
* عن سَورة بن كليب، قال: «قال لي زيد بن عليّ: يا سَورة، كيف علمتم أنّ صاحبكم علی ما تذكرون؟
قال: فقلتُ: علی الخبير سقطتَ.
فقال: هات.
فقلت له: كنّا نأتي أخاك محمّد بن عليّ عليهما السلام نسأله، فيقول: (قال رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم، وقال الله عزّ وجلّ في كتابه)، حتّی مضی أخوك فأتيناكم آلَ محمّد - وأنتَ في من أتينا - فتُخبرونا ببعضٍ ولا تُخبرونا بكلّ الذي نسألكم عنه، حتّی أتينا ابن أخيك جعفراً فقال لنا كما قال أبوه: (قال رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم وقال تعالی).
فتبسّم وقال: أما والله لئنْ قلتَ هذا، فإنّ كُتبَ عليٍّ صلوات الله عليه عنده دوننا».
لا يحدّثكم أحدٌ بعدي بمثل حديثي
لقد ربّی الإمامُ جعفر الصادق عليه السلام تلامذة كثيرين وعلَّمهم آلاف الأحاديث في شتی المجالات والأصعدة. وروی عنه مالك والشافعي والحسن بن صالح، وأبو أيوب السجستاني، وعمر بن دينار وأحمد بن دينار وأحمد بن حنبل.
قال الإمام الصادق عليه السلام: «إنّي أعلمُ ما في السّماوات وما في الأَرض وما في الجنّة وما في النار، وما كان وما يكون إلى أن تقومَ الساعة. ثمّ سكت ثمّ قال:وعلمُه في كتاب الله، أنظرُ إليه هكذا، ثمّ بسط يديه وقال: إنّ الله يقول: ﴿.. وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ..﴾». (النحل:89)
* وعن صالح بن الأَسود، قال: «سمعتُ جعفر بن محمّد عليه السلام يقول: سَلوني قبل أن تفقدوني، فانّه لا يحدّثكم أحدٌ بعدي بمثل حديثي».
* وكتب ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة): «أمّا أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمّد ... فأخذوا الفقه من أبي حنيفة. وأمّا الشافعيّ فقرأ علی محمّد بن الحسن فيرجع فقهُه إلی أبي حنيفة. وأمّا أحمد بن حنبل فقرأ علی الشافعيّ فيرجع فقهُه أيضاً إلی أبي حنيفة. وأبو حنيفة قرأ علی جعفر بن محمّد عليه السلام..».
* وفي (إثبات الوصية) للمسعودي، يقول: «رُوي أنّ جعفر بن محمّد عليه السلام كان يجلس للعامّة والخاصّة ويأتيه الناسُ من الأقطار يسألونه عن الحلال والحرام وعن تأويل القرآن وفصل الخطاب، فلا يخرج أحدٌ منهم إلّا راضياً بالجواب».
طلبُ المعيشة بحرّ الشمس
* عن أبي عمرو الشيباني قال: «رأيتُ أبا عبد الله عليه السلام وبيده مسحاة وعليه إزارٌ غليظٌ يعمل في حائطٍ له والعرقُ يتصابّ عن ظهره، فقلت: جعلتُ فداك، أعطني أكفِك.
فقال لي: إنّي أُحبّ أن يتأذّى الرجلُ بحرّ الشمس في طلب المعيشة».
* وعن محمّد بن عذافر عن أبيه، قال: «أعطی أبو عبد الله عليه السلام أبي ألفاً وسبعمائة دينار فقال له: اتّجِر لي بها.
ثمّ قال: أمّا إنّه ليس لي رغبةٌ في ربحه، وإنْ كان الربح مرغوباً فيه، ولكنّي أحببتُ أن يراني الله عزّ وجلّ متعرضاً لفوائده.
قال: فربحتُ له فيه مائة دينار ثمّ لقيته فقلت له: قد ربحتُ لك فيها مائة دينار. فقال لي: أثبِتها في رأس مالي.
قال: فمات أبي والمال عنده، فأرسل إليّ أبو عبد الله عليه السلام، وكتب: عافانا الله وإيّاك، إن لي عند أبي محمّد ألفاً وثمانمائة دينار أعطيتُه يتّجر بها، فادفعها إلى عمر بن يزيد».
خيرُ الصدقة ما أبقت غنیً
كان الإمامُ الصادق عليه السلام - مثل آبائه الكرام - يحسن إلی الفقراء والمعوزين والغارمين والمنكوبين، وينفق عليهم، ونشير فيما يأتي إلی نماذج من ذلك:
* قال هارون بن عيسی: «قال أبو عبد الله عليه السلام لمحمّدٍ ابنه: كم فضُلَ معك من تلك النفقة؟ قال: أربعون ديناراً.
قال: أُخرج وتصدّقْ بها. قال: إنه لم يبقَ معي غيرها.
قال: تصدَّق بها فإن الله عزّ وجلّ يُخلفها، أما عَلِمت أنّ لكلّ شيء مفتاحاً ومفتاح الرزق الصدقة؟ فتصدَّقْ بها.
ففعل، فما لبث أبو عبد الله عليه السلام إلّا عشرةً حتّی جاءه من موضعٍ أربعةُ آلاف دينار، فقال: يا بُنيّ، أعطينا للهِ أربعين ديناراً فأعطانا اللهُ أربعة آلاف دينار».
* وروي أن فقيراً سأل الصادق عليه السلام، فقال لعبده: ما عندك؟ قال: أربعمائة درهم. قال: أعطِه إياها. فأعطاه، فأخذها وولّی شاكراً فقال لعبده: أرجِعه.
فقال: يا سيدي سألتُك فأعطيتَ، فماذا بعد العطاء؟ فقال له: قال رسولُ الله صلّی الله عليه وآله وسلّم: خيرُ الصدقة ما أبقتْ غنیً، وإنا لم نُغنِك، فخُذْ هذا الخاتم فقد أُعطيتُ فيه عشرة آلاف درهم، فإذا احتجتَ فبِعه بهذه القيمة».
* وعن أبي حنيفة سائق الحاجّ، قال: «مرّ بنا المفضّل وأنا وخَتَني [أبو الزوجة أو أخوها] نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعةً ثمّ قال لنا: تعالوا إلی المنزل.
فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده؛ حتّی إذا استوثق كلُّ واحدٍ منّا من صاحبه، قال: أما إنها ليست من مالي. ولكنّ أبا عبد الله الصادق أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء، أن أُصلح بينهما وأفتديهما من ماله، فهذا من مالُ أبي عبد الله عليه السلام».
هذا الربحُ كثير!
* عن أبي جعفر الفزاريّ، قال: «دعا أبو عبد الله عليه السلام مولی له يُقال له مصادف فأعطاه ألف دينار، وقال له: تجهّز حتّی تخرجَ إلی مصر، فإنّ عيالي قد كثروا.
قال: فتجهَّز بمتاعٍ وخرج مع التجّار إلی مصر، فلمّا دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حالُه في المدينة - وكان متاع العامة - فأخبروهم أنّه ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا علی أن لا ينقصوا متاعهم من ربح دينارٍ ديناراً، فلمّا قبضوا أموالهم انصرفوا إلی المدينة. فدخل مصادف علی أبي عبد الله عليه السلام ومعه كيسان في كلّ واحدٍ ألف دينار، فقال: جُعلت فداك، هذا رأسُ المال وهذا الآخر ربحٌ.
فقال: إن هذا الربحُ كثير، ولكنْ ما صنعتم في المتاع؟! فحدّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا.
فقال: سبحان الله! تحلفون على قومٍ مسلمين ألا تبيعوهم إلّا بربح الدينار ديناراً؟!ثمّ أخذ أحد الكيسين فقال: هذا رأسُ مالي، ولا حاجة لنا في هذا الربح. ثمّ قال: يا مصادف، مجالدةُ السيوف أهونُ من طلب الحلال».
* وعن معتب الخادم، قال: «قال لي أبو عبد الله عليه السلام وقد تزيَّدَ السعرُ بالمدينة: كم عندنا من طعام؟ قلتُ: عندنا ما يكفينا أشهراً كثيرة.
قال: أخرِجْه وبِعه. فقلت له: وليس بالمدينة طعام.
قال: بِعْهُ. فلمّا بعتُه، قال: اشترِ مع الناس يوماً بيوم. وقال: يا معتب، اجعل قوتَ عيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حِنطة، فانّ الله يعلمُ أنّي واجدٌ أن أُطعِمَهم الحنطةَ على وجهها - أيّ خالصة - ولكنني اُحبُّ أن يراني اللهُ قد أحسنتُ تقديرَ المعيشة».
تعليمُ الصبر في المصيبة
* قال قتيبة الأعشی: «أتيتُ أبا عبد الله عليه السلام أعود ابناً له فوجدتهُ علی الباب، فإذا هو مهتمٌّ حزين. فقلت: جُعلت فداك، كيف الصبيّ؟
فقال: (واللهِ إنّه لما به)، ثمّ دخل فمكث ساعةً ثمّ خرج إلينا وقد أسفرَ وجهُه، وذهب التغيّر والحزن.
قال: فطمعتُ أن يكون قد صلح الصبيّ فقلت: كيف الصبيّ جُعلت فداك؟ فقال: لقد مضی لسبيله.
فقلت: جُعلت فداك، لقد كنتَ وهو حيّ مهتمّاً حزيناً، وقد رأيتُ حالك الساعة وقد مات غير تلك الحال، فكيف هذا؟!
فقال: إنّا أهلُ بيتٍ إنّما نجزعُ قبلَ المصيبة، فإذا وقع أمرُ الله رضِينا بقضائه وسلَّمنا لأمره».
* ودخل سفيان الثوريّ علی الصادق عليه السلام فرآه متغيّر اللون فسأله عن ذلك، فقال: «كنتُ نهيتُ أن يصعدوا فوق البيت، فدخلتُ فإذا جاريةٌ من جواريّي ممّن تُربّي بعض وُلدي قد صعدت في سُلَّمٍ والصبيّ معها، فلمّا بصُرتْ بي ارتعدتْ وتحيّرتْ وسقط الصبيّ إلی الأرض فمات، فما تغيّرَ لوني لموت الصبيّ، وإنّما تغيّر لوني لما أدخلت عليها من الرعب.
وكان عليه السلام قال لها: أنتِ حرّةٌ لوجه الله، لا بأس عليكِ، مرّتين».
المصدر: كتاب منارات الهدى