امتدت "ثقافة قادان" ما بين 9-13 ألف عام قبل الميلاد، وفي العصر الحجري المتوسط، بمنطقة جنوب مصر الحالية وشمال السودان، إذ عاش السكان على الصيد وجمع الغذاء وتحضير واستهلاك الأعشاب البرية والحبوب والعناية بالحياة النباتية.



الهياكل العظمية بموقع جبل الصحابة بوادي النيل تكشف العديد من الإصابات الناجمة عن الأسلحة والتي لم تلتئم جميعها مما يشير لتكرار الاشتباكات المسلحة بين السكان (رويترز)


يكشف وجود رفات، في مقبرة تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، عن أحداث عنف أو صراع مسلح على ضفاف النيل. وقد أثبتت دراسة -أجراها المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي- وقوع اشتباكات متكررة باستخدام أسلحة حادة لأسباب لا تزال مجهولة.
وتظهر الهياكل العظمية المكتشفة، في جبل الصحابة بمنطقة وادي حلفا شمال السودان، آثار العديد من الجروح الناجمة عن استخدام هذه الأسلحة والتي لم تلتئم جميعها، مما يشير إلى تكرّر الاشتباكات المسلحة في وادي النيل، ويرى بعض علماء الأنثروبولوجيا أن الوفيات كانت مرتبطة بالضغوط البيئية وربما الصراع على الموارد.
وفي مقال له نشرته صحيفة "لوباريزيان" (le parisien) الفرنسية، تساءل فالنتين راكوفسكي عما إذا كان أول اختراع للإنسان العاقل هو العجلة أو الكتابة أو الحرب. إن الإجابة عن هذا السؤال قد تكون مخيّبة لآمال للكثيرين، ذلك أن تاريخ اختراع العجلة والكتابة يعود لحوالي 5 آلاف عام، في حين أن عظام مقبرة جبل الصحابة (في السودان حاليا) تشير إلى حدوث حلقات متكررة من الاشتباكات المسلحة يعود تاريخها إلى ما لا يقل عن 13 ألف عام.يعتقد الكاتب أن أصل الحرب ربما يعود إلى تاريخ أقدم، وهذه الرّفات تمثل أقدم دليل معروف عن اشتباكات ما قبل التاريخ، وتكشف عن أسرار جديدة نُشرت تفاصيلها في إطار دراسة أجراها المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، بالتعاون مع المتحف البريطاني في لندن.
وذكر أيضا أن موقع جبل الصحابة -الذي يحتوي على الأدلة الشاهدة على هذه الصراعات القديمة- لم يعد موجودا اليوم بسبب بحيرة سد أسوان التي أغرقت الموقع بالكامل في الستينيات، ولكن، قبل ذلك، تم انتشال رفات 61 شخصا.
وحسب إيزابيل كريفكور الباحثة بالمركز الوطني الفرنسي، وفي جامعة بوردو، والباحثة الأولى بالدراسة التي نشرتها مجلة "ساينتفيك ريبورتس" فإن موقع جبل الصحابة يمثل "حالة استثنائية" حيث إن العثور على رفات في مثل هذه الحالة الجيدة التي كشفت عن الكثير من المعلومات "لم يكن أمرًا سهلاً".


هجمات ضد الرجال والنساء والأطفال

عام 1968 وجدت دراسة للرفات -التي عُثر عليها في جبل الصحابة- آثار ندوب على العظام خلفتها مقذوفات حادة. وفي حين اعتبر البعض ذلك مجرد طقوس جنائزية، افترض آخرون أنها تعود لضحايا مذبحة واحدة. لكن باستخدام أساليب حديثة أثبتت الدراسة -التي أجراها المركز الفرنسي للبحث العلمي- أن بعض الجروح قد التأمت قبل الوفاة، إلى جانب اختلاف تاريخ الدفن، مما يعني أن كل واحد منهم كان ضحية اشتباكات منفصلة خلال حياته.
وأضافت كريفكور "إننا نرجح فرضية الحرب بالنظر إلى هذا العنف. لكن هذه الحرب لم تقم على تصادم مباشر بين جيشين، وإنما اقتصرت على سلسلة من الهجمات المخطط لها والغارات والكمائن". ومن خلال دراسة الرفات في هذه المقبرة، من المرجح أن الهجمات حدثت على عدة أجيال واستهدفت الرجال والنساء وحتى الأطفال. كما تشير آثار الندوب على العظام إلى أن المعتدين لم يترددوا في استهداف ضحاياهم من الخلف.
وقد اتسمت الأسلحة المستخدمة في عصور ما قبل التاريخ بحدتها، وبعضها يتضمن مقذوفات تعلق في العظام أو بينها. وتقول كريفكور "صُنعت الأسلحة بمقدمة مدببة حتى تخترق الجسد بسرعة وتتسبب في نزيف حاد".
وخلال الهجمات، يتم استهداف منطقة الحوض وأعلى الساقين والعمود الفقري، والرأس بالنسبة للضحايا الأصغر سنا. وإلى جانب معرفة كيفية صنع أسلحة فعالة، أتقن رجال ونساء عصور ما قبل التاريخ "التصويب بشكل جيد".


الصراع على الموارد

انطلاقا من طريقة نحتها، استنتج الباحثون أن الأسلحة تنتمي إلى "ثقافة قادان" التي تشترك فيها المجتمعات التي عاشت على ضفاف النيل في صعيد مصر. وبالنسبة للضحايا، من غير الممكن تحديد المجموعة العرقية التي ينتمون إليها بين مختلف المجموعات التي عاشت في تلك المنطقة.
وامتدت "ثقافة قادان" في الحقبة بين 9-13 ألف عام قبل الميلاد وفي العصر الحجري المتوسط، في منطقة جنوب مصر الحالية وشمال السودان، إذ عاش السكان على الصيد وجمع الغذاء وتحضير واستهلاك الأعشاب البرية والحبوب والعناية بالحياة النباتية المحلية.
وحسب الدراسة، فإن التنافس والاستيلاء على الموارد من الأسباب التي تقف وراء نشوب الحروب في عصور ما قبل التاريخ. وقد أوضحت كريفكور أن "المنطقة كانت صغيرة، ولم تتوفر فيها سوى القليل من الموارد الغذائية غير تلك التي وفرها نهر النيل. وقد شهد المناخ منذ حوالي 15 ألف عام تغييرات غير منتظمة، مما يعني أن وجود العديد من المجموعات البشرية بمنطقة صغيرة، مع الحاجة إلى التكيف مع نقص الموارد، أدى إلى وجود توترات".
ومن الصعب التوصل إلى استنتاجات نهائية حول الدوافع الحقيقية وراء حدوث النزاعات المسلحة في جبل الصحابة، في ظل غياب أدلة دامغة. ولا ترى كريفكور ضرورة في تعميم هذه الأمثلة على حروب ما قبل التاريخ التي عُرفت بتنوعها الشديد، مع الأخذ بعين الاعتبار العلاقات الثقافية أو السلوكية التي كانت تؤدي إلى تناحر المجموعات.