ركن من منزل الرسام الفرنسي بول سيزان


في أستوديو هادئ مضاء من الجنوب بنوافذ كبيرة ومن الشمال بسقف زجاجي سترى لوحات أهم رسام فرنسي معلقة على جدرانه وشاهدة على حياته الفنية المليئة بالتفاصيل التي أوصلته إلى العالمية، وهو المكان الذي يعكس بساطة الإنسان في حياته اليومية، وأسلوب الفنان الفرنسي في كل ركن فيه.
وأثناء القيام بجولة في منزله الريفي "البروفانسي" (نسبة إلى المنطقة التي ولد فيها بول سيزان) المدرج اليوم كنصب تاريخي، والحديقة المحيطة به ستكتشف مناظر سيزان المفضلة التي ظهرت في 50 من لوحاته الزيتية والمائية المعروضة اليوم في متاحف فرنسا والعالم.وفي قلب موقع سانت فيكتوار الكبير ستكشف محاجر بيبيموس الصخرية النقاب عن جمالها المهيب في دروب أنشئت حول أطراف المنزل الريفي.




وسيمكنك هذا المكان من التوغل أكثر في العملية الإبداعية لسيزان من خلال الزخارف والتكوينات الهندسية والألوان التي كان لها الفضل في ولادة الحركة التكعيبية، وهناك استأجر الرسام كوخا صغيرا ليحتفظ بلوحاته، وحتى النوم فيه إذا لزم الأمر.



منزل صغير مليء بالتفاصيل أوصلته إلى العالمية


من القانون إلى الفنون الجميلة

ولد الرسام الشهير بول سيزان في 18 يناير/كانون الثاني 1839 في بلدة إكس إن بروفانس جنوب فرنسا، وكان والده فيليب أوغست أحد المؤسسين لشركة مصرفية مرموقة آنذاك، مما منحه ارتياحا ماديا لم يكن متاحا لمعظم معاصريه.
وفي عالم 1852 التحق سيزان بمدرسة بوربون، حيث التقى هناك صديقه الكاتب والروائي الكبير إميل زولا، وشكلت هذه الصداقة بين الطرفين حجر الأساس في تصوراتهما المهنية لصناعة فن مزدهر في باريس، سيزان كرسام، وزولا ككاتب.
ولأن والد سيزان لم يكن مقتنعا بتوجهه الفني فقد أرغمه على مواصلة دراسته في القانون لعدة سنوات، إلا أن رغبة سيزان مكنته من الالتحاق في نفس الوقت بمدرسة الفنون الجميلة حيث بقي حتى عام 1861.



منزل ريفي بسيط لأهم رسامي فرنسا

وفي عام 1862 سافر سيزان إلى باريس والتقى هناك كلود مونيه وكاميل بيسارو وتعرف على العمل الثوري للفنان غوستاف كوربيه وإدوارد مانيه، كما أعجب الفنان الناشئ الشاب بالرومانسية النارية في رسومات يوجين ديلاكروا.
ظل سيزان متعلقا بمسقط رأسه وعاد مجددا إلى بروفانس، حيث عمل في عزلة نسبية، وابتكر هناك أهم لوحاته التي أحدثت نوعا من الصدمة وعدم القبول في صالونات مجتمع تقليدي في بروفانس الأرستقراطية.


سيزان.. عبقري الضوء والظل

يقال إن عمل الرسام الفرنسي ما بعد الانطباعية شكّل الجسر بين الانطباعية في أواخر القرن الـ19 وخط البحث الفني الجديد في أوائل القرن الـ20، أي التكعيبية، فإتقان التصميم والنغمة والتكوين واللون الذي اشتهر به طوال حياته العملية مثّل سمة مميزة لديه، ويمكن اليوم التعرف عليها بسهولة في كل متاحف العالم.
وكان أسلوبه بمثابة مرحلة انتقالية لتغيير كبير في تاريخ الفن الحديث، حيث انتقل فن التصوير بفضل تجاربه من المدرسة التي نشأت في نهاية القرن الـ19 إلى المدرسة التجريدية الحديثة التي تكونت في القرن الـ20، ويذكر أن كل من هنري ماتيس وبابلو بيكاسو تأثرا إلى حد كبير بسيزان.
ولعل أهم ما كان يميز خط سيزان الفني في ستينيات القرن الـ19 هو الشعور بالطاقة في عمله، إذ تبدو كل لوحة جاهزة للانفجار خارج حدودها وسطحها.
وعلاوة على ذلك، قد تترجم رسوماته بالمجنونة أو العبقرية، ومن المحتمل ألا يعرف العالم أبدا، لأن شخصية سيزان الحقيقة لم تكن معروفة للعديد، إن لم يكن لكل معاصريه.



الرسام الفرنسي بول سيزان اختار العزلة للإبداع


سيزان والانطباعية

وفي عام 1972 انتقل سيزان إلى مدينة بونتواز الفرنسية، حيث قضى عامين في العمل عن كثب مع الفنان كاميل بيسارو، وخلال هذه الفترة نمت قناعة لدى سيزان بأنه يجب عليه الرسم مباشرة من الطبيعة، ونتيجة لهذه الفلسفة الفنية الجديدة بدأت الموضوعات الرومانسية والدينية تختفي من لوحاته واستعاض عن الألوان الكئيبة المظلمة بأخرى أكثر حيوية.
وفسر مؤسسو هذه الحركة أسلوب سيزان الانطباعي بالبعيد عن الجمالية، واعتبر مزعجا كما لو كان يحاول بشراسة دمج الألوان وضرب الفرشاة والسطح في كيان واحد.وبعد 5 سنوات انسحب سيزان تدريجيا من زملائه الانطباعيين وعمل منعزلا في منزله في بروفانس، ويقال إنه لم يظهر علانية لما يقارب 20 عاما.
وخلال هذه الفترة أمضى الفنان معظم الثمانينيات من القرن الـ19 في تطوير "لغة" تصويرية من شأنها التوفيق بين الأشكال الأصلية والتقديمة للأسلوب التي لم يكن لها سابقة في ذلك الوقت.


فن سيزان.. إرث ولغة فنية جديدة

رسخت لوحات سيزان من العقود الثلاثة الأخيرة لحياته نماذج جديدة لتطوير الفن الحديث، ومن خلال العمل ببطء وصبر والاهتمام بأدق التفاصيل حوّل الرسام توجهه الفني إلى هيكل لغة مصورة ستستمر في التأثير على كل مرحلة من فن القرن الـ20 تقريبا.
واستخدم سيزان ضربات فرشاة قصيرة لضمان وحدة السطح في عمله، وللحفاظ على رمزية الظل والضوء فيها كما لو كانت العناصر المرسومة هي نفسها منحوتة من الطلاء، وينسب لهذه الطريقة في استعمال الفرشاة في تحليل وتشكيل الشكل التكعيبي للقرن الـ20.



أسلوب سيزان كان بمثابة مرحلة انتقالية لتغيير كبير في تاريخ الفن الحديث

وبالإضافة إلى ذلك، حقق سيزان ازدواجية المكان والتسطيح من خلال استخدام اللون لتوحيد شكل السطح وتجريد المساحة والحجم في العمل الفني، وينظر إلى هذه الخاصية في لوحاته على أنها خطوة محورية تؤدي إلى الفن التجريدي.
هذه اللغة الجديدة واضحة في العديد من أعماله، بما في ذلك "خليج مرسيليا"، و"مونت سانت فيكتوار"، و"لاعبو البطاقات" وغيرها من اللوحات التي تواجه المشاهد بهويته الفنية، ويبدو أن المناظر الطبيعية والأرواح الثابتة والأرواح الشخصية تنتشر في جميع الاتجاهات عبر سطح اللوحة.