تنقّل الحلاج في معظم أعماله بين الأسود والأبيض والرماديات محاولاً طمس معالم الواقع المادي (مواقع التواصل)
يعتبر العديد من الفنانين في الوقت الحالي الفلسطينيَ مصطفى الحلاج، الملقب بشيخ الفنانين، أحد أهم المرجعيات التقنية والجمالية بعدما قدم أعمالاً كثيرة في الحفر والطباعة اليدوية، والتي جسدت في أغلبها قصص الكفاح والثورة الفلسطينية، بالإضافة إلى أعمال أخرى نقل من خلالها صوراً من الحضارات القديمة، مما ساهم في سهولة انتشار أعماله الفنية ليس في معظم الدول العربية.
ولد الحلاج في قرية "سلمة" على مقربة من مدينة يافا عام 1938، وكحال أغلب الفنانين، نال نصيبه من القسوة والمعاناة في سن مبكرة عندما هجرت عائلته قسراً إلى مصر خلال النكبة الفلسطينية 1948.
احتضنت مصر الحلاج، وتبنى النيل موهبته، فبدأ يصنع من طينه العديد من المنحوتات والأعمال الصغيرة التي كانت تذكرة عبوره إلى فلك الفن، فدرس النحت في كلية الفنون الجميلة في القاهرة وتخرج منها عام 1963، ثم أقام أول معرض فردي له في نقابة الصحفيين عام 1964، والتحق بقسم الدراسات العليا في مراسم "الأقصر" وتخرج منها عام 1968، وأثناء دراسته تعرف على الحضارة الفرعونية وكان من أشد المعجبين بعظمة فنونها.
جدارية ارتجالات الحياة للفنان الحلاج (مواقع التواصل)
هجرة جديدة وفن لا ينضب
أوائل السبعينيات، عقب تخرجه بفترة قصيرة، انتقل الحلاج إلى العاصمة اللبنانية بيروت، لكنه ما لبث أن خسر فيها عدداً كبيراً من أعماله الفنية أثناء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، فحمل أحزانه إلى دمشق ليستقر فيها، ويعمل مديراً لصالة "ناجي العلي" للفنون التشكيلية، واستطاع في دمشق تقديم عشرات الأعمال الفنية القيمة التي استمدها من الأساطير الفرعونية والكنعانية والفينيقية، وكان لوطنه الأم" فلسطين" حصة كبيرة منها.
لوحة التغريبة الفلسطينية للحلاج (مواقع التواصل)
خلال سنوات حياته شارك الحلاج في العديد من المعارض الفردية والجماعية في عدد من الدول العربية والأجنبية، استحق خلالها جوائز الميدالية الفضية في معرض "فلسطين" بالقاهرة عام 1961، وجائزة النحت في الإمارات عام 1995، والجائزة الذهبية في مهرجان المحرس تونس عام 1997، والجائزة الأولى في الحفر في "مهرجان المحبة" باللاذقية عام 1999، كما ساهم في تحكيم عدد من المهرجانات التشكيلية والمسرحية والسينمائية.
شخوص عن السريالية الفلسطينية
الفنان مصطفى الحلاج (مواقع التواصل)
تدور شخوص الحلاج في أغلب لوحاته حول رموز السريالية البسيطة، والتي تبدو معالمها واضحة للرائي مهما كانت ثقافته، ومهما كان عمق حسه الفني، فقد حملت بين خطوطها مشاعر الفنان المتصوفة والرافضة للمناخ الواقعي المصطنع، وطرحت نقوشه الهم الوطني والشغف الفلسطيني بكافة جوانبه السياسية والاجتماعية.
تنقّل الحلاج في معظم أعماله بين الأسود والأبيض والرماديات محاولاً طمس معالم الواقع المادي وإبراز معاناته ببساطة التعبير عن مكنوناته التي تفرد في طريقة نقلها.
ففي لوحته "الثورة والنضال والفن" تمردت شخوصه المطموسة الملامح على جلادها، ونرى في خضم اللوحة رحلة شقائها وتهجيرها بتصوير الحلاج لمجموعة مهجرة من الناس تمشي بموكب وهي تلحق طيور الحرية، ومن ثم المعركة التي راحت شخوصه تقاتل مستعبديها لتنال ما تستحقه من الكرامة والعدالة، ولعبت المرأة في هذا العمل دور البطولة خاصة وأن الحلاج جعل منها رمزاً للثورة والخصوبة، فبها تقوم الأوطان ومن رحمها تستمر الحياة.
استطاع الحلاج تكوين ما يسمى السريالية الفلسطينية البسيطة التي تجعل كل من يتعمق في تأمل أعماله يكتشف فلسفة خاصة وحسا إدراكيا عاليا لفنان لربما لو ولد في بلاد حرة لا تطال كرامتها الاحتلالات والحكومات لكان حفر اسمه بين قوائم العظماء من الفنانين.
تجلي فن الحلاج
تنقل الحلاج بين أنواع مختلفة من الفن وتقنياته، كالغرافيك والتصوير والطباعة والحفر على الخشب والمازونيت، لكن من أشهر أعماله "ارتجالات الحياة " والتي حاول من خلالها تجسيد رحلته المليئة بالتهجير واللجوء وحاول جعلها ملخصاً لخبرته الفنية كفنان وحفّار، ويعتبر هذا العمل من أطول الأعمال الجدارية في العالم، إذ بلغ طول اللوحة 98 متراً وعرضها 60 سنتيمتراً، وللأسف لم يستطع إكمالها بسبب وفاته منتصف ديسمبر/كانون الأول 2002 في مشهد تراجيدي وهو يحاول إنقاذ لوحاته أثناء نشوب حريق في صالة ناجي العلي لأسباب يظن البعض أنها قد تكون سياسية، ليوارى الثرى في مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك على أطراف العاصمة السورية دمشق.