ضحى عبدالرؤوف المل

نبحث عن الأسلاف في الأعمال الأدبية والفنية، لنطارد الحاضر الذي نحياه بغموضٍ لا ينحسر في رواية ما أو لوحة فنية أو حتى عبر قصة قصيرة ممزوجة بذاكرة تؤرشف لحدثٍ ما يصبح من الماضي الدي نطارده. وننظر إليه قبل كل شيء أنه ينتمي لعصرٍ لا نعيش فيه، إلا من خلال ما نقرأه أو ما نكتبه. فيصبح من الماضي، ونغلق أبواب المستقبل، لأننا نفتحه في التاريخ بحثاً عن أسلافنا الذي نجحوا في المستقبل الذي نحيا فيه.
قد يبدو كلامي غريباً. لكنني في عصر العولمة هذه أشعر أننا نمحو كل جديد، ونترك للماضي كل جمالية عاشها الفرد فيها من الصورة الفوتوغرافيَّة الى الرواية، فاللوحة وغيرها وكل ذلك يجعلنا دائماً ننظر إلى الوراء. لننتقد أنفسنا من خلال التراث الأدبي والفني، والذاكرة التي تدعم التاريخ وكفاحه في إثبات وجوده، وبتوافقٍ مع القدرة على كشف الأحداث الأكثر غموضاً بوصفها التكوين الأساسي لحاضرٍ يشكل حلقة وصل كبرى بين الماضي والمستقبل، وعبر تكوينات أدبيَّة أو فنيَّة. فهل يطاردنا الماضي الأدبي في حاضر غير مستقر؟
تبدو حقيقة الحاضر في الأعمال الأدبية معلقة في خيال الكاتب والفنان، وبشكلٍ غير مستقرٍ في حاضر القارئ أو المتلقي، وعند اللحظة المرتبطة بالنهاية أو الخلاصة بشكلٍ عام، كما في لوحات الفنان البلجيكي أنتوان وارتز أو المثل العليا وتدميرها في مدام بوفاري وغيرها، لتكون الموعظة مرتبطة بالحاضر الذي نتلقاه في شكل مختصر، وكدرسٍ من دروس الماضي في الحاضر المتشابه، وبمعادلة جمالية تسمح بإلقاء الضوء على المستقبل عندما يتكون من تصويرات يسيطر عليها الأدب من خلال التخيلات الناتجة عن تحليلات مختلفة تأتي تباعاً من جملة قد تستوقف القارئ أو الكاتب الذي يبني عليها الحدث المحاكي للحدث المستقبلي الذي نتوقعه أو نتخوف منه، كما في الحب في زمن الكوليرا، والعزلة الحالية التي فرضها فيروس كورونا، ولم يستطع حتى الآن أنْ يسيطر عليها الأدب أو أنْ يتركَ رصيداً لمستقبل نجهله، ولكننا نعيش ماضيه في عصرٍ يلقي قيمة كبرى على الماضي خاصة عندما أعادنا فيروس كورونا الى الكثير من الأعمال الأدبية والفنية. فهل يمكن إعادة تشكيل ذاكرة الحاضر لمستقبل سيجعلنا من الماضي؟ وهل نحن في ماضٍ أدبي فشل في إعادة تشكيل ذاكرته؟
ربما صدمة الحاضر المؤثرة في الأدب وضعتنا أمام الكثير من الأعمال التي كُتبت في عصورٍ سابقة وتحاكي عصرنا هذا. وكأنَّ كتاب العصور السابقة كتبوا لعصرنا بكل عيوبه الحالية، وبالتأثير ذاته الماضي في الحاضر، وربما المستقبل وبقوة الانبهار عينها، ونحن نقرأ رواية (الطاعون) التي تمثل ما فعلته البشريَّة بوباء حصد الكثير من الأرواح بعجز استشفائي يشبه عجزنا الطبي أمام الفيروس التاجي وما نعيش فيه من أزمات. فهل يمككنا الاعتزاز أدبياً بماضٍ نعيش فيه هو حاضرٌ يطوي صفحاته، ونحن معزولون عن مستقبلٍ سيتكون من إرث الأسلاف؟ أم أننا غرباءٌ أدبياً في عصرٍ نفى حاضره وعاش مع ماضيه؟
لا ينتزع الزمن من الأعمال الأدبيَّة ماضيها ولا حاضرها، ولكنْ قد ينتقد مستقبلها بالرغم من أنَّ الحداثة انتقدت نظام القيم والأعراف والتقاليد، ولكنها عجزت أمام الأوبئة وهجماتها التي مزقت حتى الخيال في نفوس الأدباء، وبتعبيرٍ أدق فتحت حساسيَّة جديدة أمام الماضي في حاضر هو مرحلة فاصلة بشكلها الزمني والوبائي، وباتصال مع روايات جسدت الأوبئة ولوحات فنية تمثل الخوف الأكبر من الموت، وتعطي للإنسان صورة كبرى لفشله في مقاومة الأمراض المجهولة، والتي نطلق عليها الأسماء بوصفها ولدت من تلك التي قرأنا عنها في الماضي أو تلك التي تنتزع منا السلسلة الزمنية وللأسباب نفسها التي عرفها الأدب في الماضي. فهل الحاضر في الأدب الحديث تشكلَ على صفحات الروايات المعاصرة؟ أم أنَّ غرابة الأدب ما بعد الحداثة تنتظر تعطيل الزمن وحذف فعل المضارع لتشكيل المستقبل عن طريق الاتصال بالماضي بعيداً عن الحاضر؟.