بهذا الكلام يقدّم المفكر مارك مانسون- مؤلف كتاب فن اللامبالاة - إرنست بيكر في كتابه إنكار الموت، الكتاب الذي قدّم مفاهيم جديدة في فكرة الموت والحياة بتناقضاتهما التي لم تفهم حتى الآن.
الكتاب الذي صدر مؤخراً عن دار نابو في بغداد، بترجمة: سارة أزهر الجوهر وأحمد عزيز سامي، يحاول فيه مؤلفه البرهنة على أن الخوف من الموت شعور عالمي يوحّد معطيات كثيرة من التخصصات في العلوم الإنسانية، ويجعل الأفعال البشرية واضحة ومفهومة، تلك الأفعال التي دفناها تحت جبال من الحقائق، وأخفيناها بحجج لا تنضب عن الدوافع البشرية «الحقيقية». ويضيف بيكر في مقدمته للكتاب: إن الإنسان الباحث عن المعرفة في عصرنا يرزح تحت وطأة عبء لم يتخيّل مسبّقاً أنه سيعاني منه، إنه ثقل فائض الحقيقة الذي لا يمكن استنفاده، فلطالما آمن الإنسان لعدة قرون خلت أن الحقيقة ماكرة ومراوغة، وأنه ما إن يقع عليها حتى تنقضي مشكلات البشرية، وها نحن في العقود الأخيرة من القرن العشرين، تختنق حناجرنا بالحقيقة.
ويطرح بيكر مقولة الدكتور جونسون التي تشير إلى أن احتمال الموت يعمل على تكثيف الذهن على نحو يثير العجب. مبيناً أن هذه المقولة تناقش الأطروحة الرئيسة لكتابه هذا، وهي مسألة أن للموت تأثيراً أكبر من ذلك بكثير، ففكرة الموت والخوف منه تلازم الحيوان البشري أكثر من أي شيء آخر، إنه الباعث الرئيس للنشاط البشري، النشاط الذي ابتدع إلى حدٍّ كبير لدرء فاجعة الموت والتغلّب عليه، بطريقة ما، عبر إنكار حقيقة أنه المصير الحتمي للإنسان.
ضم الكتاب أحد عشر فصلاً اختلفت في دراسة زوايا الموضوع، وهي: الطبيعة البشرية والبطولة، ذعر الموت، إعادة صياغة بعض الأفكار الأساسية للتحليل النفسي، الشخصية الإنسانية بوصفها كذبة جوهرية، كيركغارد المحلل النفسي، مشكلة شخصية فرويد مرّة أخرى، إخفاقات البطولة، رماد التعاويذ، أوتو رانك وإطباق التحليل النفسي على كيركغارد، النتيجة الحالية للتحليل النفسي، علم النفس والدين: ماهية الفرد البطولي.
ويبرّر بيكر أسباب تأليفه لهذا الكتاب، موضحاً أنه بدأه بوصفه بحثاً لتوفيق الرؤى المتبلبلة عن الإنسان والوضع البشري، اعتقاداً منه أن الوقت مؤاتٍ لتأليف كتاب يشتغل على تفطية أفضل الأفكار في عدة حقول، من العلوم الإنسانية للدين.
موضحاً أنه حاول قدر الإمكان عدم التصادم مع أية وجهة نظر أو رفضها، متغاضياً عن موقفه الشخصي ونفوره من أية وجهة نظر، إذا ما كانت تنطوي على حقيقة جوهرية، بل باحتوائها في بنية نظرية أوسع. أما السبب الثاني الذي دفع بيكر لتأليف هذا الكتاب، هو أنه حظي بأكثر من نصيب من المشكلات المتعلقة بمواءمة الحقائق الصالحة في السنوات الاثنتي عشرة الماضية. وحاول فهم أفكار فرويدد ومفسريه وورثته، وتقطير علم النفس الحديث، ويعتقد بيكر أنه نجح في مسعاه. بهذا المعنى، فإن هذا الكتاب عرض يقدّمه لطمأنينة روحه العلمية، إنه قربان لطلب المغفرة الفكرية.
ويسعى بيكر في هذا الكتاب تقديم ملخص لعلم النفس بعد فرويد وربط التطور السايكولوجي بالقامة الفكرية كيركغارد، ومن ثم تقديم حجة لدمج علم النفس والمنظور الأسطوري- الديني، من خلال فهم أعمال أوتو رانك الذي حاول بيكر استيعاب أعماله التي يرى أنها هي التي أضافت قيمة لهذا الكتاب.
ويؤكّد بيكر أنه يجب على كل كتاب، حتى وإن يتناول نطاقاً واسعاً من الأفكار، أن يكون انتقائياً للغاية، في ما يخص الحقائق التي يلتقطها من جبل الحقيقة الذي نختنق تحت ثقله. وفي إجابته عن أسباب اتكائه على أوتو رانك، متناسياً العالم النفسي الأعم كارل غوستاف يونغ، يجيب بيكر: أن يونغ بارز جداً، وله مفسرون كثر، بينما يكاد رانك أن يكون مجهولاً، ولم يتحد أحد بالنيابة عنه. كما أن هناك سبباً آخر، وهو أن أعمال رانك تتسم بالصعوبة، إلا أنه دائماً ما يكون صائباً في المشكلات المركزية، بينما عمل يونغ ليس كذلك، كما أن جزءاً كبيراً من عمل يونغ يدور عن باطنية غير ضرورية، وكنتيجة فإنه يحجب بيد ما كشفته اليد الأخرى.