من هو فنان القرن العشرين الكبير الذي كان الأكثر تأثيرا في القرن الحالي؟، ليس بيكاسو ولا ماتيس؛ إذ ليس لهما خليفة (في الفن). ولا ثالثهما “مارسيل دوشامب”؛ مهما استوقفت غرابة أعماله الجمهور.. كلا.. فنان القرن الماضي الذي تنتشر أفكاره اليوم في كل مكان كان تاجر نبيذ، والذي أخذ فن الشارع وصاغه بشكل مدهش قبل أكثر من 75 سنة. كان مبتكر {الفن الوحشي-art brut}متمردا ضد والديه ومدرسيه، ثم تمرد ضد الفن ذاته.لكن لا يزال من الممكن رؤية تأثير لوحاته الاستفزازية الجامحة (التي غالباً ما يتم تشبيهها بفن الرسم على الجدران {غرافيتي-graffiti}) حتى اليوم.
كل جدارية شارع أو نصب تذكاري عفوي ظهر منذ الجائحة أو استجابة لمقتل (الاميركي الأسود) جورج فلويد يُدين بشيء لأعمال دوبوفيه، كما يدين له فنانون معاصرون مثل {جان ميشيل باسكيت} و{كيث هارينغ} و{بانسكي}.. انه ببساطة أحد كبار مُحرري الفن الحديث.

وحشية الجنون والعدم
بعد أربع سنوات من الاحتلال النازي قد يظن البعض أن لا شيء سيصدم الباريسيين؛ لكن المدينة حديثة التحرير سنة 1944 شعرت باستفزاز شديد من أعمال {جان دوبوفيه-Jean Dubuffet}. حتى مع آخر طلقات المقاومة كان دوبوفيه يصنع فن اللصق من ورق الجرائد {كولاج-collages} يحمل رسائل غرافيتي متشظية رآها في الشارع. وخلال السنتين التاليتين قدم رسومات مبهمة الاشكال تشبه رسوم الاطفال فارقت كل تصنّعٍ للمهارة؛ كان منها لوحة لصديقه الشاعر التأملي {هنري ميشو} سنة 1946 بعنوان {مسيو بلوم (أو- السيد بين)}.
صوّرَ دوبوفيه الكاتب القوي بشكل كاريكاتيري رسم بعجالة، رأس كبير غضوب فوق جسم كاريكاتيري هزيل، على خلفية بنية كئيبة. لكنها كانت لوحة مهمة مليئة بالقوة والحياة، وتعبيرا وحشيا عن الوجود والعدم. وهذا لم يمنع ناقدا غير مكترث من الشكوى أن الدادائية كانت شيئا، لكن عمل دوبوفيه كان محض {جنون}. لكن الفنان أطلق شيئا جديدا مدهشا بامتياز. وما زال يبدو جديدا اليوم. كانت الدادائية (كما يعرف الناقد المتذمر تماما) حركة {ضد الفن} رفضت القيم الحضارية في أعقاب مذابح الحرب العالمية الأولى. لكن تلك الحركة لم تهدد الفن الراقي فعليا، إذ لم يتابعها سوى عدد قليل من الناس، وفي تلك الدائرة الانتقائية سرعان ما أفسحت المجال للسريالية. بالمقابل شن دوبوفيه حربا أكثر جدية بكثير على الثقافة الرسمية، وشرع بتدمير فكرة أن الفنان المتدرّب خير من غير المتدرب، وأن الفن تحصيل خاص ينتمي إلى الأكاديميات والمتاحف والنخب.

المتمرد الرسمي للمؤسسة الفرنسية
تحدى دوبوفيه أواخر الاربعينات والخمسينات بمهارة الذوق السليم، وأنتج (قبل داميان هيرست بعقود) سلسلة لوحات باستخدام الفراشات المجففة؛ منها {حديقة مع ميليتيا} سنة 1955، التي تبدو عن بُعد مشهدا طبيعيا مكتظا كالفسيفساء، لكن ورقاته كانت أجنحة فراشات مجففة.. وهم للحياة مبني من بقايا عضوية. لكنه أصبح بعد ذلك تدريجيا جزءا من ماكنة الثقافة الرسمية التي يحتقرها. وحينما أفتتح مركز بومبيدو للفنون عام 1977 في باريس، امتلأ بأعماله، لكنه كان حينها المتمرد الرسمي للمؤسسة الفرنسية.
كان ذلك استعراضا قاسيا، فقد كان دوبوفيه حقا متهكما متشددا عن طبيعة الفن والغرض منه. ولفهم ذلك يجب مراجعة قصته غير المألوفة.. لم يكن دوبوفيه صغيرا حينما نال الشهرة، بل بسن الرابعة والأربعين سنة 1945. كانت بدايته نمطية مثل فنان فرنسي معاصر، ولد في {لي هافر} سنة 1901 (حيث نشأ ماتيس)، ومثله كان ابنا لرجل أعمال من أسرة تتاجر بالنبيذ.
تمرد دوبوفيه (نمطيا) وفر الى باريس ليدرس الفن ضد رغبة أبيه. وكما فعل خيرة فناني باريس في العقدين الاخيرين من القرن التاسع عشر؛ هجر الدراسة التقليدية وانضم لفناني مونتمارتر، ومنهم صديقه رسام مناظر المدينة {موريس أوتيرلو} والسريالي {أندريه
ماسون}. ثم هجر الفن (للسنوات 1925-1944) وعمل بمهنة الاسرة، ثم استقل عنهم بشركته الخاصة. ولعل ذلك دفعه لإعادة التفكير بالفن، ليجد أن الفن يمكن أن يكون جزءا من العالم الحقيقي، متعة ومهربا، كقدح نبيذ.
شكك دوبوفيه بفكرة أن الفن شيء حصري، ينتمي للمعارض والمتاحف؛ وأذهله كتاب بعنوان {فن المرضى عقليا} للطبيب النفسي الألماني {هانز برينزهورن} 1922، الذي طرح امكانية أن الفنانين الحقيقيين في هذا العالم لم يتجادلوا بصخب في مقاهي الحي اللاتيني، بل رسموا رؤاهم المبدعة في ردهات مقفلة. واستغرق منه الامر عشرين عاما لاستيعاب هذا بمفهومه الخاص، شيء أوسع وأكثر قابلية للنقل: الفن الوحشي، أو الفن الخام. جسدت لوحات دوبوفيه الجامحة هذا الاتجاه الجديد، ففي لوحة {المسرف- The Extravagant One} حول البقع واللطخ الى خلطة من الأخضر اللزج والأصفر الداكن والبني القذر، ليشكل منها هلوسة مجنونة لشخصية بشرية. ولم يتوقف عند فن المصحات، بل تبنى فن الغرافيتي ورسوم الاطفال، ورسوم الكهوف القديمة (حديثة الاكتشاف)، ونتاج منبوذي المجتمع. وبمعنى آخر: أي نوعٍ من الخلق البصري يمتلك طاقة وحياة، لكن يُنظر إليه تقليديا على أنه قمامة لا قيمة لها.. نتاج غير المتعلمين، الواقع خارج الفلك النبيل {للثقافة}.

إعادة الاعتبار
وضع دوبوفيه أفكاره قيد التطبيق، متبنيا وجهة نظر فنان دخيل، في لوحات مثل {باريس- مونتبارناس}، 1961، بانوراما للمدينة جميع الشخصيات المخططة فيها بالحجم نفسه وتنتشر في كل زاوية، الجوهر المهووس للحشد الحديث.. عمل نابع من براءة حقيقية، وليس ساذجا زائفا. كان هجوم دوبوفيه على الثقافة منظورا فرنسيا خالصا، إذ لا تحمل دولة أوروبية أخرى ذات الاعتقاد أن الثقافة والحضارة تمثلان قيمها التعريفية التي تحميها الدولة. وبالنسبة له كانت هذه المثالية للفنون العالية قاتلة للخلق الحقيقي.. قال في محاضرة عنوانها {المواقف المعادية للثقافة} عام 1951: {ثقافتنا معطف رديء القياس، أو على الاقل لم يعد يناسبنا؛ كأنه لغة ميتة لا علاقة لها بما يتحدث به الشارع الآن. وهي تبتعد شيئا فشيئا عن حياتنا اليومية، مقتصرة على النخب الميتة، مثل ثقافة لم يعد لها جذور حية}. لكن مقاومة دوبوفيه لثقافة النخبة كانت فرنسية بقدر المؤسسة الاكاديمية التي يحتقرها.. لقد تطورت أفكاره في باريس العشرينات والثلاثينات، ورغم أنه هجر الفن لصالح التجارة، لكنه لم يستطع مقاومة الحياة البوهيمية، فاستثمر أرباح تجارته لتمويل استوديو، وانهمك في ثقافة النخبة حتى هجرته زوجته.
عبَّدت السريالية الطريق لفنون الغرافيتي ونواحٍ أخرى للفن الوحشي، وحينما خرج دوبوفيه من شرنقته ليقدم لوحات الغرافيتي وصور {الجنون} البشعة، بدت الحركة السريالية قديمة، ولم يخدمها رحيل شخوصها البارزين الى نيويورك أثناء الحرب. كانت أوروبا بعد الحرب بحاجة لشيء أكثر صلابة وقوة، فقدم الفن الوحشي رؤية مختزلة وخائبة الأمل لعصر أقل تعلقا بالحلم.
عند نهاية القرن الماضي وبعد وفاة دوبوفيه (1985)، بدت أعماله أقل لفتا للانتباه حتى في فرنسا، وبات الفن الوحشي هامشيا من جديد.. لكن ذلك تغير اليوم، إذ صار فنانو الشوارع نجوما وسعى الفنانون ليكونوا خارجين عن المألوف.. وعادت العواطف الوحشية للظهور، فليس من لحظة أفضل لإعادة الاعتبار لدوبوفيه؛ رغم أنه قد لا يكترث لوصفه {بالبارع الحديث}.. توفي دوبوفيه على منضدة رسمه؛ ولعله كان سيجد من المضحك أن أعماله باتت تقدّر
بالملايين.