هو يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن وارتقطين، وكنيته أبو يعقوب، وهو ثاني ملوك دولة المرابطين، اتَّخذ لقب أمير المسلمين، وهو أعظم ملك مسلم في وقته، أسس أول إمبراطورية في الغرب الإسلامي من حدود تونس إلى غانا جنوبًا والأندلس شمالًا، أنقذ الأندلس من ضياع مُحَقَّق، وهو بطل معركة الزَّلَّاقَة وقائدها، كما وَحَّد وضمَّ كلَّ ملوك الطوائف في الأندلس إلى دولته بالمغرب.
نشأة يوسف بن تاشفين
ينتمي يوسف بن تاشفين إلى قبيلة لمتونة؛ وهي إحدى قبائل صنهاجة الموجودة بجبل لمتونة المشهور باسم أدرار بموريتانيا، وُلِدَ على الأرجح بصحراء موريتانيا، ونشأ في موريتانيا نشأة إيمانية جهادية، وأصله من قبائل «صنهاجة اللثام» البربرية.
عُرف يوسف بن تاشفين بالتقشُّف والزهد رغم اتساع إمبراطوريته، وقد كان شجاعًا وأسدًا جسورًا، قال الذهبي عنه في سير أعلام النبلاء: «كان ابن تاشفين كثير العفو، مقرِّبًا للعلماء، وكان أسمر نحيفًا، خفيف اللحية، دقيق الصوت، سائسًا، حازمًا، يخطب لخليفة العراق» (1).
ووصفه ابن الأثير في الكامل بقوله: «كان حليمًا كريمًا، ديِّنًا خيرًا، يُحِبُّ أهل العلم والدين، ويُحَكِّمهم في بلاده، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام» (2).
يوسف بن تاشفين وقيام دولة المرابطين في المغرب
لقد كانت شخصية يوسف بن تاشفين شخصية إسلامية متميزة؛ استجمعت من خصائل الخير وجوامع الفضيلة ما ندر أن يوجد مثلها في شخص مثله، فيوسف بن تاشفين أبو يعقوب لا يقلُّ عظمة عن يوسف بن أيوب الملقَّب بـ صلاح الدين الأيوبي، وإذا كان الأخير قد ذاع صيته في المشرق الإسلامي وهو يُقارع الصليبيين ويُوَحِّد المسلمين، فإن الأول قد انتشر أمره في المغرب الإسلامي وهو يُقارع الإسبان والمارقين من الدين وملوك الطوائف، ويُوَحِّد المسلمين في زمنٍ كان المسلمون فيه أحوج ما يكونون إلى أمثاله.
كانت الظروف السياسية السائدة في زمنه غاية في التعقيد، وغلب عليها تعدُّد الولاءات وانقسام العالم الإسلامي، وسيطرة قوى متناقضة على شعوبه؛ ففي بغداد كانت الخلافة العباسية من الضعف بمكان بحيث لا تُسيطر على معظم ولاياتها، وفي مصر ساد الحكم الفاطمي، وفي بلاد الشام بدأت بواكير الحملات الصليبية بالنزول في سواحل الشام، وفي الأندلس استعرت الخصومة والخيانة، وعمَّ الفساد بين ملوك طوائفها، وأمَّا في بلاد المغرب الإسلامي -حيث نشأ وترعرع- فكانت هناك قبائل مارقة من الدين تُسيطر على الشمال المغربي، وتُحَصِّن مواقعها في المدن الساحلية كسبتة وطنجة ومليلة؛ وهي من آثار الدولة الفاطمية التي تركت آثارًا عقيدية منحرفة؛ تمثَّلت في جزء منها بإمارة تُسَمَّى الإمارة البرغواطية؛ سيطرت على شمال المغرب، وبنت أسطولًا قويًّا لها، وحَصَّنت قوَّاتها البحرية المطلَّة على مضيق جبل طارق.
وفي عام (445هـ= 1053م) أسَّس عبد اللـه بن ياسين حركة المرابطية (الرباط في سبيل الله)، وبعد عشر سنوات تَسَلَّم قيادة الحركة يوسف بن تاشفين، فبدأ بتعمير البلاد، وحَكَمَهَا بالعدل، وكان يختار رجالًا من أهل الفقه والقضاء لتطبيق شريعة الإسلام على الناس، واهتمَّ ببناء المساجد باعتبارها مراكز دعوة وانطلاق وتوحيد للمسلمين تحت إمارته، ثم بدأ يتوسَّع شرقًا وجنوبًا وشمالًا؛ فكانت المواجهة بينه وبين الإمارة البرغواطية الضالَّة أمرًا لا مفرَّ منه؛ استعان ابن تاشفين في البداية بالمعتمد بن عباد -وهو أحد أمراء الأندلس الصالحين- لمحاربة البرغواطيين؛ فأمدَّه المعتمد بقوَّة بحرية ساعدته في القضاء على الإمارة الضالَّة، وهكذا استطاع أن يُوَحِّد كل المغرب حتى مدينة الجزائر شرقًا، وغانا جنوبًا، وكان ذلك عام (476هـ= 1083م).
جهاد يوسف بن تاشفين في الأندلس
بعد أن قوي أمر يوسف بن تاشفين واستقرَّت دولته وتوسَّعت، لجأ إليه مسلمو الأندلس طالبين الغوث والنجدة؛ حيث كانت أحوال الأندلس تسوء يومًا بعد يوم، فـ ملوك الطوائف لَقَّبُوا أنفسهم بالخلفاء، وخطبوا لأنفسهم على المنابر، وضربوا النقود بأسمائهم، وصار كل واحدٍ منهم يسعى إلى الاستيلاء على ممتلكات صاحبه، لا يضرُّه الاستعانة بالإسبان النصارى أعداء المسلمين لتحقيق أهدافه، واستنابوا الفُسَّاق، واستنجدوا بالنصارى، وتنازلوا لهم عن مداخل البلاد ومخارجها، وأدرك النصارى حقيقة ضعفهم فطلبوا منهم المزيد.
ولقد استجاب ابن تاشفين لطلب المسلمين المستضعفين، وفي ذلك يقول الفقيه ابن العربي: «فلبَّاهم أمير المسلمين ومنحه اللـه النصر، وألجم الكفار السيف، واستولى على مَنْ قدر عليه من الرؤساء من البلاد والمعاقل، وبقيت طائفة من رؤساء الثغر الشرقي للأندلس تحالفوا مع النصارى، فدعاهم أمير المسلمين إلى الجهاد والدخول في بيعة الجمهور، فقالوا: لا جهاد إلَّا مع إمام من قريش ولستَ به، أو مع نائبه وما أنت ذلك. فقال: أنا خادم الإمام العباسي. فقالوا له: أظهر لنا تقديمه إليك. فقال: أَوَلَيْست الخطبة في جميع بلادي له؟ فقالوا: ذلك احتيال. ومردوا على النفاق».
وليكون ابن تاشفين أميرًا شرعيًّا أرسل إلى الخليفة العباسي يطلب منه توليته، ويقول السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء: «وفي سنة تسع وسبعين أرسل يوسف بن تاشفين صاحب سَبْتَة ومَرَّاكُش إلى المقتدي يطلب أن يُسَلْطِنَهُ، وأن يُقَلِّده ما بيده من البلاد، فبعث إليه الـخِلَعَ والأَعلام والتقليدَ، ولَقَّبه بأمير المسلمين؛ ففرح بذلك وسُرَّ به فقهاء المغرب (3).
وبعد أن زاد ضغط النصارى الإسبان القادمين من الشمال استنجد بابن تاشفين المعتمدُ بن عَبَّاد؛ ودخل ابن تاشفين الأندلس وقاد الجيوش الإسلامية، وقاتل النصارى قتالاً شديدًا، وكانت موقعة الزلاقة عام (479هـ=1086م) من أكبر المعارك التي انتصر فيها المسلمون انتصارًا كبيرًا على الإسبان، وهُزم ملكهم ألفونسو السادس هزيمة منكرة، وقد قضت هذه المعركة على آمال الإسبان الصليبيين في احتلال الأندلس بعد أن استولوا على طُلَيْطلَة، وقد وقعت المعركة في سهلٍ في الجزء الجنوبي لبلاد الأندلس، يقال له: الزلاقة. يقال: إنَّ السهل سُمِّيَ بذلك نسبة لكثرة انزلاق المتحاربين على أرض المعركة؛ بسبب كمية الدماء التي أُريقت في ذلك اليوم وملأت أرض المعركة، وتُسَمَّى لدى المؤرخين الغربيين بالاسم العربي نفسه.
كان لمعركة الزلاقة تأثيرٌ كبيرٌ في تاريخ الأندلس الإسلامي؛ إذ إنها أوقفت زحف الصليبيين المطرد في أراضي ملوك الطوائف الإسلامية، وقد أَخَّرت سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس لمدَّة تزيد عن قرنين ونصف.
دولة يوسف بن تاشفين في المغرب والأندلس
ولقد تَبَيَّن ليوسف بن تاشفين بعد ذلك أن ملوك الطوائف هؤلاء ليسوا أهلًا للبقاء في مراكز السلطة في الأندلس، وجاءته النداءات والفتاوى من العلماء كالغزالي بوجوب الاستيلاء على الأندلس؛ فاستولى على الأندلس، وأعاد إليها وَحْدَتَهَا، وطرد هؤلاء الطائفيين الذين كانوا يخشون قدومه، ويُفَضِّل بعضهم النصارى عليه، وبذلك انتهى عهد ملوك الطوائف في الأندلس، ووَحَّد يوسف الأندلس مع المغرب في ولاية واحدة؛ لتُصْبِحَ أكبر ولاية إسلامية في دولة الخلافة.
أمير المسلمين يوسف بن تاشفين
ولمَّا كبرت مملكة يوسف بن تاشفين واتسعت عمالته، اجتمع إليه أشياع قبيلته، وأعيان دولته، وقالوا له: «أنت خليفة الله في أرضه، وحقُّكَ أكبر من أن تدعى بالأمير، بل ندعوك بأمير المؤمنين». فقال لهم: «حاشا لله أن نتسمَّى بهذا الاسم، إنما يتسمَّى به خلفاء بني العباس؛ لكونهم من تلك السلالة الكريمة، ولأنهم ملوك الحرمين مكة والمدينة، وأنا راجلهم والقائم بدعوتهم». فقالوا له: «لا بُدَّ من اسم تمتاز به». فأجاب إلى «أمير المسلمين وناصر الدين»، وخطب لهم بذلك في المنابر، وخوطب به من العُدْوَتَيْن (أي المغرب والأندلس).
ومن علامات التقوى والتمسُّك بأهداب الدين تمسَّك الأمراء والحكام بالنقد الشرعي، وفي ذلك يقول ابن الخطيب في كتابه الإحاطة: «كان درهمه فضَّةً، وديناره تبرًا محضًا، في إحدى صفحتيه «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وتحت ذلك «أمير المسلمين يوسف بن تاشفين»، وفي الدائر: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وفي الصفحة الأخرى «الإمام عبد الله أمير المؤمنين»، وفي الدائرة: تاريخ ضربه وموضع سكِّه». وعبد الله اصطلاحًا هو كنية يصلح لاسم كل خليفة عباسي.
واتخذ يوسف السواد شعارًا للمرابطين، وهو شعار الدولة العباسية نفسه، ورَفْعُ شعارِ السواد يدلُّ على التمسُّك بالسُّنَّة، والتمسُّك بالوَحْدَة، وعدم شقِّ جماعة المسلمين، إضافة إلى أن راية رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كانت سوداء.
لقد ذاع صيتُ يوسف بن بن تاشفين بين العلماء والقضاة بشكل خاصٍّ، وبين الناس بشكل عامٍّ؛ فتناقلوا أخباره وصفاته، وتواتر عنهم نقلُ صفات الجهاد والعدل والزهد والإخلاص والتمسُّك بالإسلام وبدولة المسلمين الشرعية؛ حتى أثنى عليه معظم العلماء والفقهاء.
وفاة يوسف بن تاشفين
تُوُفِّيَ يوسف بن تاشفين في شهر المحرم عام (500هـ= 1107م) عن عمر يقارب المائة عام، لقد كان يوسف بن تاشفين واحدًا من عظماء المسلمين المغاربة، الذين جدَّدُوا للأُمَّةِ أمر دينها ولم يأخذ حقَّه من الاهتمام التاريخي إلَّا قليلًا.
1- الذهبي: سير أعلام النبلاء، 19/253.
2- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 8/531.
3- السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص302.
تامر بدر