من زمن الكبار.. الكثير من الفنانين العرب رحلوا، بعد أن نال الفقر والمرض والعوز من أجسادهم التي كانت يوماً تفيض بالحركة والنشاط الفني تحت أضواء خشبات المسارح وأمام كاميرات السينما والتلفزيون، ودائماً نطالب دولة ونقابة الفنانين التي ينتمي إليها باحتضان مبدعيها الذين يصارعون المرض وتحمل تكاليف علاجهم.
جميعنا يعرف حكاية الفنان العراقي سليم البصري الذي اشتهر بين جمهورهِ بـ «حجي راضي» من خلال مسلسل (تحت موسى الحلاق)، لكن رغم تاريخه الفني الكبير رحل فقيراً ووحيداً وقد تم دفنه من دون رعاية الدولة باستثناء مساعدة صديقه الفنان حمودي الحارثي.
وفي مصر كُثر هم الفنانون الذين ماتوا فقراء منهم اسماعيل ياسين وعبد السلام النابلسي، ولا يمكن استعراض جميع أسماء النجوم الذين رحلوا من دون أنْ تكون دولتهم أو نقابتهم على قدر تحمّل المسؤولية؟ ومن يقوم بمساعدة هذا الفنان أو ذاك، يتم فضح أمره ونشر الخبر عبر مواقع مختلفة من وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة.
ألا يمكن حفظ كرامات وماء وجوه من نساعدهم؟
ما زلتُ أتذكر الكثير من رجالات الدولة والفن زاروا الفنانة الكوميدية الراحلة أمل طه في دار المسنين ولا أشك في حسن نوايا وطيبة قلوب من زاروها، لكن كنت أشعر بالخجل من رؤيتها بثيابٍ رثة وهي تبكي تطالب الدولة بعلاجها خارج العراق لتعود إلى فنها ومحبيها ولكنَّ النتيجة حصدوا لفت الأنظار وسط جمهورها بينما هي ماتت وحيدة، وفي ثلاجتها لا يوجد سوى طبق البطاطا المسلوقة.
اليوم في ظل وجود برامج التطبيقات من «الفيسبوك» و«التويتر» تتصدر الكثير من حكايا وخفايا معاناة النجوم الذين يحاربون مرض السرطان أو عدة أمراض مزمنة مثل الفنان والأكاديمي الدكتور خالد أحمد مصطفى وزوجته آن خالد والفنانة فاتن الورد، والحق يقال حاول البعض تقديم المساعدة لهم ولكنْ أيضاً تم تقديمها تحت الأضواء والتقاط الصور والفيديوهات، ألا يكفي أنَّ الله سبحانه وتعالى يعرف بكرم وعطايا من يعطي؟ أم يجب أنْ يعرف الجميع في مشارق الأرض ومغاربها؟ لأنَّ الهدف الشهرة والدعاية وتلميع المناصب.
يا سادة ما هكذا تورد الابل، سأبوحُ لكم بسرٍ عن مدرسة للإنسانية اسمها إلياس الرحباني، لعلَّ وعسى أنْ تنهلوا شيئاً من دروسها في الصدقة من دون علم اليدُ الشمال ما تعطي به اليدُ اليمين، ولست بصدد تقييم موسيقى الراحل فأنا لستُ بناقدة موسيقيَّة وحتى من يقيّم فنه فهو أصغر من تقييم أسطورة بحجم وتاريخ الرحابنة.
سأتحدث لكم عن إنسانيته التي عرفتها عن قرب عندما بدأت بمكالمة هاتفيَّة مني في شهر آب من العام 2015، لأجل تحديد موعدٍ لإجراء لقاء صحافي، وبعيداً عن تواضعهِ، عفويته وشخصيته المحبة للمرح والفرح وجدته رجلاً كريماً، دمث الخُلق ولأبعد الحدود.
تكررت اتصالاتي به كصديق وأخٍ عزيز، وفي أحد مساءات صيف عام 2016 اتصل بي وقال بلهجته الأنطلياسية: «غفو إبتعرفي شي حدا من اللاجئين والمغتربين بمنطقتك بحاجة للمساعدة».
وبعد أيام توصلت لأكثر من أرملة وبجنسيات عربية مختلفة قرر أنْ يعطيهن معاشاً شهرياً يسد الحد الأدنى من احتياجاتهن.
وبعد رحيله عُدن لمرارة الفقر والعوز والفاقة التي كانت من الماضي في حياة وزمن الرحباني.
كان إلياس يسهمُ في علاج أكثر من فنان لبناني ولو كان هؤلاء الفنانون يوافقون على البوح بأسمائهم لكشفت أسماءهم في هذا المقال.
عذراً يا عازف الليل لأني نثرت بعضاً من قطرات بحر كرمك وصدقاتك التي كنت تحرص ألا يعرف بها أحد.
حفظ ماء الوجوه وعدم إذلال من نساعدهم على الملأ لا يكلفنا شيئاً، ولكنها إنسانيَّة حقيقيَّة غير معجونة في طين جميع البشر.