صافينا نابي
ترجمة: مي اسماعيل
على طريق يحاذي ساحل بحيرة «دال -Dal} الجميلة، التي توفر منظرا ساحرا لجبال الهملايا؛ يقع منزل خشبي من طابقين، وهو موقع مكتبة أسسها «محمد لطيف أواتا» الذي لا يكاد يستطيع القراءة والكتابة. تستقبل زوجته «زينب» (وهي أصلا من شيناي) القادمين بالترحاب عند البوابة، وبعد صعود سلم خشبي يصل المرء «مكتبة الرحالة»؛ التي طليت جدرانها باللون الابيض وفتحت شبابيكها على ثلاث جهات.
تطل واجهة المكتبة على قوارب البحيرة، والى جانب اريكة خضراء قديمة توجد طاولة منسوجة من الخوص، والى يمينها كتب السيد «أواتا». قد لا تبدو مكتبة كبيرة، إذ تضم نحو ستمئة كتاب فقط؛ لكنها كانت (بالنسبة لكشمير) ولعدة سنوات مكانا يلامس فيه الاقليم (ذو الغالبية المسلمة المتنازع عليه طويلا) العالم الواسع. وهي واحة للزوار والقراء؛ والأهم- واحة لمحب للكتب لا يستطيع القراءة! تقول السيدة زينب ضاحكة: «اطرحوا ما طاب لكم من أسئلة لتحصلوا على المعلومات التي ترغبون؛ فهو (زوجها) لن يشرح شيئا من تلقاء نفسه».
تبادلات تُغيّر الحياة
يصطحب أواتا ضيوفه الى المكتبة، التي تضم كتبا مثل «الزمن وحده كفيل بالاثبات» و»خطايا الآباء» للروائي البريطاني «جيفري آرتشر»، بجانب كتب «باولو كويلو» من البرازيل. هناك أيضا كتب «جين أوستن» و»دان براون» والصحفية السويدية «ماغيل آكسيلسون». يتحدث أواتا بتردد وصوت خافت؛ لكنه حينما يبدأ بالحديث عن الكتب ينساب صوته مليئا بالحماس. ولد أواتا في كشمير، وهو الابن الأكبر لعامل سباكة وربة منزل، وقد غادر المنزل بسن السادسة عشرة بحثا عن عمل لإعالة اسرته. وتنقل عبر الهند من وجهة سياحية الى اخرى، وعمل بائعا للفنون والحرف الكشميرية؛ وما زال آسفا لأنه لم يكمل تعليمه الاساسي. كان يلاحظ بين الحين والآخر وهو في كشك عمله مرور سياح يحملون كتبا، وذات يوم أعطاه رجل كتابا؛ فطلب منه أواتا أن يلخص له محتواه. ومنذ ذلك الحين اعتاد أن يطلب من القراء التبادل بالكتب وأن يقصوا عليه عم تدور الرواية.. «وكانوا يفعلون ذلك عن طيب خاطر».
انتقل أواتا طيلة سنوات من جنوب شرق الهند الى كارناتاكا غربا، بائعا للحلي والشالات والسجاد والحقائب المطرزة يدويا. وجمع مئات من الكتب؛ غالبا لمؤلفين عالميين، وأسس مكتبته الصغيرة الاولى. لكنه بقي يحن للعودة الى وادي كشمير؛ لذا، وبعد الكثير من التأمل، جمع كتبه وعاد لموطنه سنة 2007. يقول أواتا: «اشعر أن الكُتّاب يبقون دائما على قيد الحياة وإلى الأبد من خلال كتبهم، حتى بعد الموت. وبالنسبة لي هذا جانب مثيرٌ للاهتمام»، مضيفا أن كتبه بالنسبة له.. «أثمن الممتلكات». ويمضي قائلا: «رغم أنني لا استطيع القراءة؛ يمكنني أن أتذكر أغلب الكتب؛ موضوعها واسم المؤلف والبلد الذي ينتمي له. استطيع أن اتذكر ذلك كله باستذكار لون الكتاب وغلافه ورموزه». خذوا مثلا الكتاب الاول الذي تلقاه: «اله الاشياء الصغيرة- The God of Small Things» للكاتبة الهندية « أرونداتي روي»؛ إذ ما زال أواتا يتذكر بوضوح القصة المعقدة لعائلة متشابكة على مدى عقود. يلتقط أواتا كتابا آخر قائلا: «هذا كتاب عن رجل شجاع يشن حربا على الظلم؛ ذكرتني فكرة الكتاب بمسقط رأسي كشمير؛ لذا بقيت مطبوعة في ذاكرتي». ذلك الكتاب هو «البحث عن المتاعب: السيرة الذاتية لصحفي محظور» للكاتب «دونالد وودز» من جنوب أفريقيا؛ وهو مُطارد من حكومتها التي كانت تدعم التمييز العنصري.
الانتظار الطويل
بعد عودته الى سرنجار أكبر مدن كشمير؛ افتتح أواتا وكالة للسفريات ومتجر للحرف اليدوية. كانت المساحة المتاحة منزليا ضيقة؛ لذا اشتكت اسرته من الكتب الكثيرة. وذات يوم عرضتها والدته للبيع الى تاجر خردة؛ فاسرع أواتا عائدا لايقافها. هنا أدرك أنه اذا أراد الاحتفاظ بها فعليه توفير موقع دائم لها؛ فصنع رفوفا مكتبية في متجره وافتتحها للزوار. لاقت المكتبة نجاحا، وباتت محطة توقف شعبية في المنطقة للسياح؛ الذين كانوا يقرؤون أو يتركون هدية، أو يستبدلون كتابا بآخر. وساعده سائح فرنسي بتنظيم الكتب وفق الحروف الابجدية. لكن التحديات تحصل دائما؛ فقد غرق وادي كشمير سنة 2014 وغمرت المياه الرفوف. يقول أواتا: «عندما رأيتُ مكتبتي بكيتُ كالطفل»؛ ولعدة أشهر جففت الاسرة بأكملها الكتب ونظفتها، ثم نقلت المكتبة الى الطابق الثاني. ثم جاء تحدي يوم الخامس من آب 2019 حينما ألغت الحكومة الهندية الوضع الخاص لجامو وكشمير وفرضت عليها الحكم المباشر من نيودلهي.. وفرضت السلطات تعتيما اعلاميا، وعزلت الاقليم عن باقي اجزاء العالم. ومن دون السياح لم يعد أواتا يستقبل زوارا. وبينما تحملت كشمير فترات من حظر التجوال والاغلاق وانقطاع التيار الكهربائي؛ أنفق أواتا من مدخراته، ليواجه في نهاية المطاف القيود التي فرضتها جائحة كوفيد- 19 منذ الربيع الماضي. ولأجل تغطية النفقات اشتغل أواتا عاملا بإجور يومية؛ وعملت زوجته أيضا كلما كان العمل متوفرا. يطمح الاثنان لتوفير التعليم والفرص المستقبلية لاطفالهما؛ واليوم باتت ابنتهما في السنة الاولى من كلية الطب، ويكاد ابنهما ينهي الدراسة الثانوية.
حينما يعمل أواتا بعيدا عن المكتبة؛ تعتني زوجته.. «بها خير اعتناء»؛ كما يقول مبتسما. ويمضي قائلا: «ولكن كلما امتلكت الوقتُ للحضور هنا، ألمس كتبي وأتحسسها وأشمها؛ ولي أمل دائم أن الامور ستصبح طبيعية ثانية؛ وستزدهر مكتبتي بالزوار من جديد».
كرستيان ساينس مونيتور