يشتبك الضوءُ والحرارة في الطبيعة على نحو أصيل وجدليّ على الرغم من أنّ كلا منهما له وظيفة خاصة ونوعيّة، وإذا كانت الحرارة ذات فائدة للبشر في أحوال معيّنة ليست قليلة فإنّ حاجتهم للضوء تفوق ذلك بكثير، فثمة من يبحث عن الضوء لا الحرارة على مستوى الفعل الطبيعيّ والفعل الرمزيّ معاً، فمعنى الضوء ودلالته المتشظيّة على أكثر من طبقة تتفوّق كثيراً على معنى الحرارة التي تقتصر دلالتها على أنموذج إجرائيّ حسيّ ضعيف الترميز، ولو أجرينا إحصاءً معجمياً لتكرار مفردة الضوء في الشعر على سبيل المثال قياساً بمفردة الحرارة، لوجدنا أنّ الفرق هائل لا محالة بسبب الخصب والثراء والتعدد والتنوّع الذي تتمتع به مفردة الضوء، وقدرتها على بعث شبكات لا حدود لها من المعاني والدلالات والعلامات والقيم والرموز التي تشتغل عليها لغة الشعر، في حين تكتفي الحرارة بمحدوديّة دلاليّة لا تجذب اللغة الشعريّة كثيراً، ولا تحرّضها على التوجّه نحوها لاستثمار إمكاناتها في هذا
السياق.
لا ضوء بلا حرارة فهي مصدر الضوء وسببه وإشارته، وهو ابنها البارّ الظاهر للعلن؛ ينطلق في الآفاق ويؤدي وظائفه الكبرى في الحياة بعيداً عن وصايا أمه «الحرارة»، ويقترن الضوء على هذا الأساس بالحياة فهو يرتبط بالشمس التي تفتح الحياة على النشاط والعمل والمعرفة والرؤية، وحين تغيب هذه الشمس بوصفها المصدر الأوّل للضوء في الحياة فقد اخترع الإنسان الضوء البديل بعد اكتشاف الكهرباء، على النحو الذي ظلّ فيه الضوء مستمرّاً ليلا ونهاراً بلا توقف ولا انقطاع في مديح «وليام جلبرت» و»بنجامين فرانكلين» و«أليساندرو فولتا» الذين قد لا يعرفهم كثيرون، وقد لا يتذكرهم حتى من يعرفهم على سبيل الامتنان العميق لنعمة الضوء المستمرّ الذي لا ينقطع.
يؤدّي الضوء دور «العلامة» في حين تقوم الحرارة بدور «المرجع» في هذه التفاعليّة التي تشتغل عليها ثنائيّة الضوء والحرارة، وهناك من يبحث عن الضوء في حين يبحث آخر عن الحرارة في ضوء سياسة العمل وستراتيجيّته، والضوء يحتاج إلى سلامة حاسة البصر حين تعمل بكفاءة طبيعيّة تمكنها من رؤية الضوء، وتحتاج الحرارة إلى سلامة حاسة اللمس ليشعرَ الإنسان بالسخونة تتسلّل إلى مناطق الجسد، ولعل الحواس الأخرى قادرة على نحو أو آخر استثمار طاقاتها الكامنة للإحساس بالحرارة أو الضوء بطريقة ما، ففي الشعر توجد تقانة أسلوبيّة تسمى «تراسل الحواس» تقوم فيها حاسة بوظيفة حاسة أخرى شعرياً، من أين تفطّن الشاعر العربيّ إلى هذه التقانة لو لم تكن لها مرجعيّة في أرض الواقع تحقّق الصداقة الجدليّة بين الضوء والحرارة.
الإحساس بالضوء لا يتطّلب القرب المكانيّ الوجوديّ؛ إذ يمكن للضوء أن يصل من مسافات بعيدة جداً تقدّر بالسنين الضوئيّة إلى مرأى العين، كما هي الحال في النجوم التي نحسب أنّنا نراها في حين نحن لا نرى سوى هذا الضوء المنبعث منها قبل سنين ضوئيّة لا نعلم عددها، بينما الإحساس بالحرارة يقتضي أقرب مسافة ممكنة حدّ الالتصاق بها كي نعرف بوجودها ونحسّه، مع أنّهما في أصل التكوين ينتميان لفضاء واحد لكنّهما يختلفان في آليّة التلقّي والشعور، وهذه المسافة التي يقطعها الضوء للوصول إلى العين تبقى مُنارةً ببركات الضوء حتّى تحقّق مبتغاها، أما الحرارة فليس بحاجة لمزيد من المسافات كي تصل إلى الجسد، حسبها أقصر مسافة ممكنة تتناسب طردياً مع ارتفاع نسبة السخونة فيها، وقد تكون على تماس مباشر تجعل الجسد يستجيب لها استجابة انفعاليّة فوريّة لا تتوفّر عليها استجابة العين للضوء.
يمكن في هذا السبيل أن نشبّه التجربة الأدبيّة بالحرارة ووسيلة التعبير بالضوء، بحيث يتسنّى لنا القول بحرارة التجربة وضوء الأسلوب مثلاً، وحتى يشرق الأسلوب بضوء النصّ لا بد من الاستناد إلى تجربة مكتظّة بالحرارة كي ينطلق الضوء بسرعة وامتلاء وكفاية، لذا لن يكون بوسع التجارب الإبداعيّة الباردة أن تنتج نصوصاً مشحونة بالضوء الباهر، فضوء قصيدة «أنشودة المطر» للشاعر بدر شاكر السيّاب المنهمر أبداً قادم من حرارة التجربة السيابيّة الملتهبة، مثلما لا يمكن فهم رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للروائيّ الطيّب صالح بقّوة ضوئها البانوراميّ الساطع كلّ هذه السنين، من غير إدراك المرجعيّة الساخنة التي تنتمي لها شخصيّة «مصطفى سعيد» في تجربتها الإشكاليّة التثاقفيّة على أرض الواقع، وهو ما ينطبق على التجارب الإبداعيّة برمّتها لأنّ الصورة الإبداعيّة من دون تجربة ساخنة لا تستطيع صنع ضوء واضح وعميق وأصيل.
تبدو تجربة ثنائيّة الحرارة والضوء في الفنّ التشكيليّ أوضح بحكم أنّ عبقريّة اللون تقدّم هذه التجربة بصرياً على وفق آليّة أكثر وضوحاً وتجلّياً، ممّا يقرّب المسافة المفهوميّة بين طرَفَي المعادلة على نحوٍ لا يكلّف أدوات النظريّة الاستغراق العميق في فلسفة القضيّة، فللون في اللوحة التشكيليّة على يد رسّام بارع قدرة هائلة على بعث الضوء في سياق لونيّ معيّن، وبعث الحرارة في سياق لونيّ آخر، وبحسب طبيعة الموضوع التشكيليّ وحراكه الجماليّ ودرجة كثافة اللون وزخمه وحيويّته وانبعاثه الفنيّ، إذ يعي الفنّان التشكيليّ قدرة اللون على التحكّم بكميّة الضوء أو الحرارة التي يجب تحريكها في هذا المضمار