العالمة جينفر دودنا أسهمت بأبحاثها في تقدم الهندسة الوراثية (الأوروبية)
كتب المؤرخ الأميركي والصحفي الشهير والتر إيزاكسون 3 كتب عن مشاهير استطاعوا بصورة أو أخرى تغيير العالم عما كنا نعرفه، إذ أصدر كتابا عن ليوناردو دافنشي أبي هندسة العمارة والرسام الشهير في عصر النهضة، وآخر عن روبرت أينشتاين مكتشف نظيرة النسبية وأبي علم الفيزياء الحديثة، وثالثهم عن عملاق التكنولوجيا ستيف جوبز الذي اضطلع بدور قيادي في تطوير التكنولوجيا وإيصالها بصورة مبسطة إلى الأفراد العاديين.
دودنا وكريسبر
أما في كتابه الأخير فقد ركز إيزاكسون على تاريخ تقنية "كريسبر" (CRISPR) بعرضه أول مرة لسيرة شخصية نسائية استثنائية هي جينفر دودنا (Jennifer Doudna) العالمة والأكاديمية بجامعة بيركلي بولاية كاليفورنيا (University of California Berkeley).
ويحمل الكتاب عنوان "فك الشفرة: جينفر دودنا، تعديل الجينات، ومستقبل الجنس البشري" (The Code Breaker: Jennifer Doudna, Gene Editing, and the Future of the Human Race)، ويحاول إيزاكسون في كتابه الاقتراب من هندسة الجينات وماذا يمكن أن تفعل بالجنس البشري، من خلال عرض شائق لمسيرة دودنا العالمة الأميركية المعاصرة المتخصصة في هندسة الجينات، التي فازت بجائزة نوبل للكيمياء عام 2020 بمشاركة زميلتها الفرنسية إيمانويل شاربانتييه.
أما مصطلح (CRISPR) الذي يبحثه الكتاب فهو مختصر للتكرارات القصيرة المتفاوتة المتباعدة بنحو منتظم (Clustered Regularly Interspaced Short Palindromic Repeats)، ويتناوله إيزاكسون بعرض جذاب لمسيرة العالمة جينفر دودنا.
يتناول المؤرخ والتر إيزاكسون في كتابه الأخير تاريخ تقنية كريسبر من خلال مسيرة جينفر دودنا
حياة عالمة ومسيرة تطور علمي
وعلى مدار صفحات الكتاب الـ560 يعرض إيزاكسون لسيرة حياة بطلة ليس على غرار أفلام هوليود، بل يتطرق إلى تفاصيل حياة عادية تبرز صلة العالمة الأميركية العادية بالناس والمجتمع من حولها، وكيف أثر ذلك في علاقتها المعقدة بالعالم والمختبرات.
استكشف إيزاكسون طفولة دودنا، وتتبع حياتها الشخصية والمهنية، وقابل منافسيها والمتعاونين معها، وأظهر لنا كيف سمحت قراءات دودنا المبكرة خلال دراستها المدرسية بتوجيه اهتمامها لاكتشاف أصل الحياة، وهو ما لم يلق التشجيع من مدرّسيها، إذ أخبرها أحدهم ذات يوم أنها "لن تصبح عالمة لكنها قررت ذلك".
وانطلق الكتاب بعد ذلك إلى ما عُدّ التطور العلمي الأهم منذ توصل العالم جيمس واتسون وفريقه عام 1953 إلى اكتشاف بنية الحمض النووي البشري (DNA).
حولت دودنا ومعاونوها هندسة الجينات البشرية لما من شأنه تعديل وتشكيل الحمض النووي في ما يعرف باسم المقص الجيني "كريسبر" (CRISPR)، وهو ما فتح فصلا جديدا أمام تحقيق معجزات طبية كان من الصعب تخيلها قبل سنوات قليلة.
ويرى الكتاب أن البشرية إذا كانت قد انطلقت خلال نصف القرن الأخير في ثورة عظيمة ليصبح عالمنا رقميا بامتياز استنادا إلى استخدامات الرقائق الدقيقة والحاسوب والإنترنت إلا أنها في نصف القرن الجديد ستتغير بفعل ثورة علوم الحياة، إذ سيدرس الأطفال والتلاميذ بدلا من الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني علوم الشفرة الوراثية، والأحماض النووية.
وتناول الكتاب تركيز أبحاث دودنا على تقنية "كريسبر كاس 9" (CRISPR-Cas9) التي تجعل قص أجزاء من الحمض النووي وتغييره وتعديله ممكنا بصورة انتقائية، كما يصف مصطلح "قاطع الشفرة" (CRISPR) نفسه، الذي يخترق الخيوط المزدوجة لجزيء الحمض النووي الذي يحمل الشفرة الوراثية.
حازت الفرنسية إيمانويل شاربانتييه (يمين) والأميركية جينفر دودنا جائزة نوبل في الكيمياء عام 2020 (موقع جائزة نوبل)
كتاب علمي جذاب
ليس شرطا أن تكون دارسا للكيمياء أو علم الأحياء لفهم محتوى هذه الكتاب، فقد لجأ إيزاكسون إلى الزج بكثير من الصور في كتابة لكسر جدّية النصوص العملية، ولتعزيز الرواية القصصية للأحداث.
إذ يتناول الكتاب ارتقاء دودنا وفريقها إلى تحدي "كوفيد-19" من خلال استغلال آلية (CRISPR) لتطوير إجراءات الاختبار السريع وإستراتيجيات اللقاح، ونشروا نتائج أبحاثهم وأتاحوها في قاعدة بيانات مفتوحة لمصلحة المجتمع العلمي بأكمله في كل أركان العالم، وهو ما أسهم في سرعة التوصل إلى اللقاحات.
وعرض الكتاب لنظام تطور البكتيريا على مدى مليارات السنين لدرء الفيروسات الغازية للجسد البشري بما ينزع الفيروسات عن طريق تقطيع وتعديل الحمض النووي الخاصة بها، وكيف تم النجاح في تكييف الجينات في الكائنات الحية بما في ذلك البشر.ونشرت الورقة التي دفعت إلى شهرة الثنائي، شاربانتيه ودودنا عام 2012، وبحلول بداية عام 2020 أجريت بالفعل 24 تجربة على البشر باستخدام التطبيقات الطبية لهذه التقنية لعلاج حالات مستعصية من السرطان وتصلب الشرايين والعيوب الخلقية وفقدان البصر.
ويتناول الكتاب كيف يغير التطور في هندسة الجينات الطبيعة البشرية وتراتبية بنية الحياة، ويعرض لأسئلة على شاكلة: من لديه الحق في تقرير المدى الأخلاقي الممكن الوصول إليه؟ ومن يسيطر على الحقوق والاكتشافات الجديدة؟
وهل من الصواب التطرق إلى هذا النوع من العلم في الأساس مخافة أن يتم "تصنيع بشر بمواصفات معينة في المستقبل"؟ وهل يُسمح مثلا للآباء بتحديد شكل أولادهم قبل الولادة، أو زيادة الطول، أو العضلات أو معدل الذكاء لديهم؟ وهل يتم خلق جنود مقاتلين بمواصفات فريدة؟
أخبرها أحدهم ذات يوم أنها لن تصبح عالمة لكنها قررت ذلك (الأوروبية)
معضلة الأخلاق
ومن هنا يطرح الكتاب سؤالا محوريا يتعلق بموقف الأخلاق من تطور علم الجينات، بإثارة أسئلة على شاكلة: إذا كان لدينا القدرة على تخليص الأجيال القادمة من أمراض مثل الفصام، فهل نفعل ذلك؟
الخيار غير الأخلاقي لن يكون مؤكدا، فماذا لو تمكنا من تعزيز البشر الأصحاء بتعديل العيوب؟ إن القلق البشري مشروع، إذ إننا سوف نفقد شيئا بوجود تلك الأمراض والعيوب، من حيث الحكمة والرحمة، وبطريقة ما يصعب تعريفها، وهي الإنسانية كما نعرفها وكما هي.
وقادت العالمة دودنا وزملاؤها عملية تطوير بعض الاختراقات المحورية في تاريخ البشرية، من أجل توفير إمكانية إعطاء البشر القدرة على القضاء على خطر كثير من الأمراض عن طريق تعديل تلك الخيوط الوراثية. ولك أن تتخيل كيف كانت ستكون تجربة العالم مختلفة العام الماضي إذا كان لدينا القدرة على تكييف أنظمة المناعة البشرية لمقاومة فيروس "كوفيد-19".
استهدفت أبحاث دودنا الاقتراب من القدرة على السيطرة على الأوبئة في المستقبل، إما عن طريق التفوق على الفيروس التالي بتحسين الفحص والعلاج أو عن طريق هندسة الجينات البشرية كي يتمتع الأفراد بمقاومة أفضل للأمراض من خلال برمجة خلاياهم.
ويترك إيزاكسون نهاية الكتاب لشريكة العالمة دودنا في جائزة نوبل، العالمة الفرنسية إيمانويل شاربانتييه لتختم الكتاب بالقول إن "الاكتشافات هي ما يدوم. نحن البشر فقط نمرّ بهذا الكوكب مدة قصيرة، نقوم بعملنا، ثم نغادر ليبدأ آخرون رحلتهم بعدنا".