ياسين النصير
لم تكن سفراتي لاوروبا بعد هجرتي إليها عام 1991، هي البداية لي للتعرف على العالم الغربي، انما ابتدأت المعرفة عام 1974 وكانت أول سفرة للاتحاد السوفيتي،كنت ضمن أول وفد ثقافي بعد تأسيس اتحاد الادباء ثانية، والغرابة التي لازمتني منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم أنها كانت السفرة الأولى، وإلى البلد الذي يرتبط بأفكاري وقضايا مصائر الشعوب، وهذا يعني تحقيق غرضين في آن معا، رؤية افضل مدن العالم في أول سفرة لي، ورؤية افضل مدن العالم مقترنة بالفكر الماركسي، ترى من أكون وأنا الآتي إليهما من القرية الجنوبية لا املك في خرجي المعرفي غير بعض كلمات مبهمة عن الاشتراكية وصور غير واضحة عن بلاد السوفيت والماركسية والحياة الاشتراكية. ولأنني لا املك نقودًا كثيرة بالرغم من ان كل شيء تم على حساب اتحاد الأدباء، كانت خرجيتي من النقود 60 دينارا فقط، بعد تحويلها الى دولارات اصبحت بحدود 190 دولارا، ياللثروة الهائلة التي أملكها، وحين وصلنا موسكو ليلا، وقادونا بعربة سوداء يتقدمها حرس الى فندق بكين وسط موسكو، ولزحمة المدخل وسقوط المطر تأخرنا قليلا في الاستعلامات، فخرجت للشارع لأرى كيف هي الناس والمطر والشوارع المضيئة والبنايات العالية والحياة في الشارع، كل شيء كان بالنسبة لي جديدا ومغايرا، وانا اقف على الرصيف المقابل للفندق لمحت فتاة جميلة تقف بجانبي، قلت لأتكلم معها عسى ان يصطاد الشص التائه سمكة من اسماك موسكو، وبالفعل ما أن تحركت نحوها حتى ملأت الفضاء المحيط بي بابتسامة لم أرَ مثل جمالها، سألتها بانجليزية متعثرة هل انت وحيدة، ابتسمت واشارت الى مدخل الفندق قائلة: انتظر صديقي، لحظات وقدم الصديق الافريقي الأسود نظرت إليها ثانية كانت ابتسامتها هذه المرة تتسع لكل الأمطار والاضواء الساقطة على رأسي، ومن يومها قررت ان لا اقدم على امرأة تنتظر صديقًا.
خمسة عشر يوما هي كل الرحلة التي شملت اربع مدن كبيرة، من بينها ستالين غراد واذربيجان وبطرسبورغ فضلا عن موسكو. في صباح اليوم الثاني جاءنا الروائي الكبير غائب طعمة فرمان، ومعه الشاعر خالد الخشان، لتبدأ حياة موسكو من جديد، وهي تترجم في مقاه ومطاعم في شارع ارارات، وفي بيوت ولقاءات وعربدة وصداقات، [اربعة ايام في موسكو رأينا البولشوي وسمفونية لمايكوفسكي وباليه بحيرة البجع والسيرك الكبير وتلال لينين وغابات الفولغا، اية حياة امتلأت بكل هذا النعيم الذي لم يجد له في جسدي منفذا إلا وملأه بما لم استطع استيعابه، وثلاثة ايام اخرى في بطرسبورغ وجولة في الارميتاج وزيارة بوشكين ومتحفه والتجول في شارع النيفسكي وتأمل كنيسة بطرس الهائلة، واكل السمك المملح الذي عمل لي ما لايحمد عقباه بعد قنينتين من البيرة السوداء، اي جسد هذا وقد امتلأ بما يغايره بنية وثقافة فما كان منه إلا أن يمرض ويضطرب ويسبب قلقا لمرافقنا ايغور ارماكوف المترجم الذي اصبح صديقا في زياراته اللاحقة لبغداد بعد سقوط الجبحة (كما يسميها المرحوم ابو كاطع). ويومان في ستالين غراد ورؤية ما لم اره من عظمة الجيش وهو يحررالبلاد ونصب الحرية ونصب الام الوطن تنادي، ومتحف ستالين واسماء الشهداء، ويومان في اذربيجان باكو والبحر والاربوز الرقي على الشاطئ ومن يقترب منك ليقول لك: تريد تصريف الدولار، في اذربيجان رأيت بقايا الإسلام على الأفواه بينما المدينة تتحرك باتجاهها القومي، لا أعرف معنى أن يحدس أحدنا بالغيب، قلت لايغور أن اذربيجان اشبه بالدملة في جسد الاتحاد السوفيتي، قال كيف؟ قلت لا تنسجم ثقافة السيف وثقافة الصاروخ، ربما ثمة ما ينبئ عن المستقبل، في اليومين المتبقيين كنا في موسكو والمعرض الزراعي ومئات قناني الفودكا وجيب ليل وأخذ عتابة، سكرنا وضيعنا هدف الزيارة.