الشعر يتغيّر كما تتغير الحياة، يتغير بفعل التحولات: الفكرية، الفلسفية، السياسية، الاقتصادية، العلمية، الاجتماعية..الخ ويأخذ اشكاله ومضامينه تبعاً لهذه التحولات ومديات تأثيرها في وعي الشاعر ومدركاته الحسيّة، وكذلك في لاوعيه وباطنيته، فالشاعر فرد من مجتمع وليس فرداً في مجتمع. وقصيدة النثر في الشعرية العراقية والعربية عموماً جاءت بعد الهزّة النوعية التي أحدثها الرواد: السياب، البياتي، نازك الملائكة، بلند الحيدري، في شكل القصيدة ذات الشطرين الافقيين، أي القصيدة الافقية، وهي التسمية الأدق من التسمية المعتادة – القصيدة العمودية. وقد أُطلق على هذه الهزّة ثورة الشعر العربي الحديث نظراً لجدّة وحداثة الشكل والمضمون اللذَين جاءت بهما رغم المحافظة على الوحدات (الخليلية) ذاتها ولكن بتنويع ايقاعي مغاير عددياً، اضافة الى التنويع في التقفية: التقفية الخارجية والداخلية، وغيرها من الجماليات. لقد جاء التحوّل متأصلاً وذاهباً الى التأصيل، ومع ذلك واجه التردد في القبول والتلقي..، (والكلام هنا يحتاج الى الكثير من الاستطراد).
قصيدة النثر -كشكل لاحق في الشعرية العراقية والعربية- جاءت بفعل من خارج التأصيل، جاءت بفعل تحولات شعرية أوربية، الفرنسية تحديداً، بعد أن كشفت (سوزان برنار) بتنظيراتها اللامعة عن اسلوبية وجماليات هذه القصيدة، وقد لفتت الانتباه اليها كثيراً، وتلقف تنظيراتها الكثير من الشعراء وبخاصة جماعة مجلة شعر
اللبنانية.
نعم، قصيدة النثر، وبعيداً عن التفصيل والاشارة الى جذور النثرية العربية لاسيما في شقّها الصوفي، تحقق الآن حضوراً عالياً بنماذجها النوعية المتقدمة وشعرائها المثقفين رغم كثرة مَن يستسهل كتابتها بمناخ
انشائي.
إنَّ أهم ما تواجهه قصيدة النثر في التلقي ، هو غياب الايقاع متناوب التكرار- الايقاع الموسيقي، باعتبارأنَّ الشعر يقوم اساساً على تنغيم موسيقي يُشاغل حاسة السمع وعمق الانصات. لقد اجترح منظّروها بدائل اخرى للإيقاع الموسيقي: التوازي، الفراغات، التكرار، الصورة. ومع ذلك ظلَّ الإيقاع في قصيدة النثر مفهوماًزائغاً، ما جعلها في تضاد مع قصيدة الشعر. الّا أن المهم فيها هو مراودة كمية الشعر المكتنزة في النثر وتطويعها في نصوص مركّزة وأُخرى مفتوحة...، انها في المركز الشعري حين يتحقق ثبات الموهبة والثقافة والتجربة.