تكاد القصة القصيرة أن تغيب بعد طغيان وهيمنة الكتابة الروائية التي صار يكتبها الجميع شيوخا وشبابا، وهذا غريب جدا بحيث وصلت أعداد الروايات المكتوبة في سنة من السنين الأخيرة إلى ما يقرب من الألف رواية ...
ما هذا!
وكيف تم ذلك؟ هذا غير معقول!
لقد استولى الاحساس بأهمية كتابة الرواية على الكثير من الأقلام وصارت القصة القصيرة في آخر الركب مع تاريخها وأهميتها ومكانتها في السرد العالمي ...
لهذا انبرى بعض الكتاب العراقيين في العودة الجادة إلى القصة القصيرة واعادة الاعتبار لها ومن هؤلاء الكتاب الراحل (حميد الربيعي) ومجموعته (غيمة عطر) والراحل (محمد علوان جبر) ومجموعته (الرحلة العجيبة للسيد ميم)...
وعدت أنا أيضا إلى تراثي القصصي الذي امتد إلى أكثر من أربعين سنة وأكملت مجموعتين الأولى (طائر الوحشة) وهي مختارات قصصية من مجمل أعمالي السردية في القصة القصيرة ومجموعة (العشيقات وقصص أخرى) وهي قصص جديدة لم تنشر من
قبل...
بعد ذلك بدأَت مسيرة العودة الاحيائية لشعائر الكتابة القصصية في مجال القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا (ق.ق.ج) والاقصوصة والنص الومضة أو الشذرة الذي صار يمتزج مع الشعر، وخرجت النصوص المفتوحة التي لا تنتمي إلى جنس كتابي معين ...
نعم هذا الزمن هو زمن الرواية بامتياز ولكن لم ولن تغيب تاريخية القصة القصيرة أبدا لأنها أيضا صارت تتلبّس بلبوسات مختلفة حتى تخرج إلى القرّاء بأشكال مغايرة ومتنوعة، بمعنى أن زمن التجريب القصصي الذي بدأه القاص الكبير (جمعة اللامي) ومجايلوه لم ولن يتوقف لا في العراق ولا في العالم، ولأن القصة القصيرة اهتمت كثيرًا بالواقع واهتمت أيضا بالخيال الجامح للسارد ستخلّد حتماً في أذهان القراء والمتابعين لأزمنة طويلة ...
لذلك لا بد من عين تراقب الحياة اليومية وعين تتمتع برؤية خيال طافح بالرؤى والأحلام ...
ومن هنا تبدأ نواة النص السردي القصير في التبصر والنمو المضطرد صوب الكمال ...
وقد حاول البعض كتابة نصوص واقعية صرفة فخرجت قصص مستنسخة كالصور الفوتوغرافية خالية من الفن والتفرد والرؤية الاسلوبية القريبة من النفس ...
من هنا لا بد من السير على قدمين فالنص أيضا يحتاج إلى السير المتوازن بين رؤية الواقع بعقلانية وبين توظيف الخيال بأناة ودقة وجمال بحيث لا تختل الموازين وبالنتيجة يخرج النص إلى الوجود وهو يحمل كمًا معقولاً من الخيال الممزوج بالوقائع اليومية التي لا تستطيع أن تراها كل يوم لأنها مكتوبة بطريقة نسجت الواقع بخيوط الخيال الملونة، ومن هذا النسج يأتي النص الرصين والمتين المليء بالرؤى والرؤية الحالمة للتأويلات والقدرة الايحائية على سبر أغوار النص.