غالبا ما كان فام شوان آن يقضي أيامه بالتدخين المتواصل لسكائر أميركية الصنع في مقهى غيفرال، وهو مكان شعبي معروف داخل سايغون، عاصمة لما كان آنذاك يعرف بفيتنام
الجنوبية. ولكونه مصدرا موثوقا للمعلومات خلال الحرب الفيتنامية، حظى المراسل المحلي على الثناء والإعجاب من الصحفيين الأجانب، حيث أبدوا دهشتهم لقدرته الفائقة على تذكر أحداث الصراع بتفاصيل خالية من العيوب والأخطاء.
لم يعلم الكثيرون أن زميلهم المتقد نشاطا لم يكن سوى عميل تجسس بمستوى رفيع لصالح النظام الشيوعي في فيتنام الشمالية، فقد تم تجنيده بداية كجاسوس
سنة 1952.
بعد خمس سنوات، أرسلته وحدته الاستخباراتية لدراسة الصحافة بولاية كاليفورنيا، معتقدة أن تنكره كمراسل سيمثل تغطية ممتازة. وخلال سنتي تواجده في أميركا، عمل في صحيفة جامعة دراسته، اورانج كوست، وتدرّب بصحيفة أخرى. ومع جعل الصحافة غطاءه، تلقى فام أوامر بالعودة إلى فيتنام سنة 1960 لمهمة التغلغل داخل الصحافة الأميركية. وأصبحت لديه علاقات صداقة كثيرة، “لكنه كان ملتزما بشكل قاطع بضمان خسارة الأميركان للحرب”، بحسب لوك هانت، مؤلف كتاب “فخ عصي البنجي: فام شوان آن: الجاسوس الذي لم يحب الولايات المتّحدة”.
عمل فام مراسلا لدى وكالة رويترز، ومن ثم لمجلة تايم، وهو أول فيتنامي يعمل هناك لتغطية الحرب؛ وبعد حفظ إرسالياته كل ليلة، يقوم بتصوير وثائق سرية استخلصها من جيش فيتنام الجنوبية والوحدات الاستخباراتية والشرطة السرية. واكتسب ثقة هذه الجهات الأمنية، خاصة في: المعلومات، والتوّسط بين قوات فيتنام الجنوبية والقوات الأميركية.
الجزء المعقّد من مهمة فام كان ارسال الدليل الذي يجمعه إلى هانوي. ولأجل ذلك، أخفى صورا داخل علب الشاي ملفوفة بورق رز ولحم خنزير مشوي. بعد ذلك، يقوم بتأمين الصور داخل عش فوق إحدى الأشجار، أو تحت شاخص قبر ليتم التقاطها لاحقا. ومثل آخرين يعملون بشكل سري، عاش فام وسط قلق دائم، مدركا احتمالات الإمساك به وتعرّضه للتعذيب. يقول هانت: “كان يسعى فقط للنجاة، مثل أي إنسان آخر”.
عين محترفة
ويعتقد الأشخاص الذين عرفوا فان خلال الحرب أنه لم يرد مطلقا إلحاق الأذى بأرواح الأبرياء، ولكنه بوصفه وطنيا وشيوعي التوجه، لم تكن لديه مشكلة في استهداف القوات الأميركية. وكانت المعلومات الاستخباراتية التي جمعها حاسمة للغاية بمساعدة قوات تحرير جنوب فيتنام، والمعروفة باسم “فيت كونغ”، بشن أكبر الهجومات خلال النزاع، وهو هجوم “تيت” سنة 1968؛ فقد ساعد باختيار الأهداف، وبضمنها السفارة الأميركية والقصر الرئاسي ودار القضاء، حيث خزنّت أكداس من الذهب هناك.
عندما شن الهجوم يوم 30 كانون الثاني، تمت مباغتة القوات الأميركية، لكنها استعادت توازنها بسرعة، مسترجعة الأرض، ومبيدة أكثر من نصف المهاجمين البالغ عددهم 84 ألف.
مع ذلك، أقنع فام صحفيي سايغون بأن المعركة مثّلت ضربة كبرى لجهود أميركا الحربية، رغم أن العكس كان هو الصحيح. يقول هانت: “أدرك فام عدم قدرة الشيوعيين على كسب الحرب عسكريا، بالتالي كان عليه هزم أميركا سياسيا”.
كانت الخطة تعمل بنجاح، فقد تعرّضت واشنطن لضغط هائل لسحب جنودها، مع مواجهة الرئيس ليندون جونسون لاحتجاجات أينما ذهب؛ واجترّت الصحافة الأميركية كلها أكذوبة أثارها فام. حتى أن والتر كرونكيت، مراسل سي بي أس ظهر متحدثا بأن أميركا عالقة في طريق مسدود. ومع قيام فام بتضليل زملائه، لكنه لم يتخل عنهم، فخلال سنة 1970، اختطف مراسل مجلة تايم “روبرت انسون” من قبل قوات كوريا الشمالية في كمبوديا، حيث سقط أكثر من 25 مراسلا قتلى هناك. توسلت زوجة المختطف بفام للمساعدة، فاستغل علاقاته لتأمين إطلاق سراح زميله. يقول هانت: “كانت لفام مبادئ إنسانية، وكان كريم الأخلاق جدا”.
مكافأة مهينة
وبمجرّد استيلاء قوات “فيت كونغ” على سايغون سنة 1975، خشي فام من إنزلاق بلاده مرة أخرى الى الحرب. ولأجل إنقاذ أصدقائه من الانتقام، توسل فام بالمسؤولين الأميركيين لنقلهم جوا إلى الولايات
المتحدة.
كما غادرت زوجته وأبناؤه الأربعة إلى واشنطن، بانتظار التحاق الأب بهم. غير أن هانوي منعته من قضاء بقية حياته في أميركا، مرغمة أسرته على العودة بعد سنة. آنذاك، ساورت هانوي شكوك حول تولّع فام بالأميركان، فأرسلته إلى معسكر لإعادة التثقيف.
بعد أكثر من عقد، بدأ ويليام دويل، وهو مراسل غطى الحرب الفيتنامية أيضا كصحفي إذاعي، بمقابلة فام كمراسل لمجلة تايم في جنوب شرق آسيا خلال التسعينيات.
وكانت هانوي قد أعلنت مسبقا بأن فام هو أحد أهم جواسيسها، وعاش بقية حياته على راتب تقاعدي متواضع، ولجأ إلى الكتب لقضاء وقته. وخضع لمراقبة حكومية مشددة حتى أيامه الأخيرة، رغم سماح السلطات لزملائه القدامى بزيارته مع كبره بالسن. يقول دويل: “وصف فام مهمته بترجمة سلوكيات الأميركان، فقد كانت الولايات المتحدة تفعل أمورا غاية في الجنون جعلت الفيتناميين الشماليين يرون صعوبة بالغة في فهم دوافعها”.
وبينما يوجد احتمال بصحة هذا الأمر، قام فام بصياغة الرأي العام الأميركي أكثر من أي صحفي آخر غطى الحرب. ولا يزال بعض زملائه القدامى يحملون ضغينة عليه، لكن الآخرين أعجبوا بكفاحه لما يعتقدونه كان قضية مقدّسة لتحرير بلاده من احتلال أجنبي. وخلال النعي والثناء الذي اجتاح الصحافة الأميركية بعد وفاته سنة 2006، كان غالبا ما يصوّر كجاسوس أحب اميركا. وربما يطغي تأطير صورته لحقيقة أقل رومانسية: كيف كان فام ببساطة يبقي أصدقاءه قريبين منه، وأعداءه أكثر قربا خلال الحرب؟ لن يعرف أي أحد الجواب مطلقا!
مجلة اوزي ألاميركية