في حديثِهِ عن أوجهِ المشابهة بين إيسوبَ في الأدب اليونانيِّ ولقمان في الأدب العربيِّ، كتب المرحوم د. إحسان عبّاس قائلاً: «إذا كانتْ شخصيَّةُ لقمانَ تقتربُ من شخصيَّة إيسوبَ، فإنَّ حكمة لقمان جاءتْ أقربَ إلى حكمةِ أحيقارَ، الحكيمِ البابليِّ... ولا ريبَ في أنَّ هؤلاءِ الثَّلاثة يمثِّلون جوانبَ مهمَّة من الأدب الحكميِّ في الشَّرق والغرب، ويقفُ لقمانُ حلقةَ وصلٍ بين الحكيمين الآخرين. وحين نقرأ أنَّ بعضَ أهلِ الجاهليَّة كان يحملُ مجلَّة لقمان يثور لدينا هذا السُّؤال: أترى مجلَّة لقمان هذه كانت شيئاً شبيهاً بأقوال أحيقار أو بخرافات إيسوب؟».

والواقع أنَّ الباحثين لاحظوا تعدُّد الصُّور المختلفة التي يظهرُ فيها لقمان في الأدب العربيِّ منذ وقتٍ مبكِّرٍ، وأشاروا إلى ذلك. بل إنَّ الدكتور إحسان عبّاس نفسه كان في مقدَّمة كتاب «أمثال العرب» للمفضَّل الضَّبِّيِّ، الذي قدَّمَ صورةً مختلفةً تماماً عن الصُّور الأخرى للقمان، قد أشار إلى الصُّور المتناقضة التي تُعزى له: «إنَّ هذا الرَّجل العملاق تصوِّرُهُ إحدى القصص عاجزاً، في شبابِهِ، عن رفعِ دلوٍ من بئر. هذا هو لقمان في قصص المفضَّل، ولو درسنا القصص الأخرى التي لم يوردْها المفضَّل لزاد التَّناقض والاضطراب في عناصر تلك الشَّخصيَّة، وإنَّه لا يمنح لقمان التَّفوُّق الذي تريد أن ترسمَهُ الأمثال التي تصوِّر جبروتَهُ وتفرُّدَهُ. وهكذا يشعر دارس أمثال لقمان أنَّه إزاء عدَّة أشخاص كلٌّ منهم اسمُهُ لقمان (وليس من بينهم لقمان الذي ورد ذكرُهُ في القرآن الكريم، أو حتّى لقمان صاحب النُّسور)».
لقد أشرنا إلى أسطورة النُّسور عند بحث استعارة الأجنحة الطائرة في هذا الكتاب. ونريد أن نُعنى هنا بعلاقة لقمان بأحيقار في هذه الفقرة، وعلاقتِهِ بإيسوب في الفقرة التالية. ولا نريد أن نحصرَ هذه العلاقة بالتَّفريق بين الشَّخصيَّة والحكمة وحسب على النَّحو الذي قدَّمَهُ د. إحسان عباس. بل نلاحظ أنَّ بإمكاننا تصنيف المرويّات المنسوبة للقمان إلى نوعين من المرويّات هما؛ الحكاية الأُمثوليَّة، وفي هذه الحكاية تتطابقُ صورة لقمان إلى حدٍّ كبيرٍّ مع صورة إيسوب. ومن جهةٍ أخرى فهناك الحكم والأمثال المنسوبة له، وهي تشابهُ الحكمَ والأمثالَ المعروفة عن أحيقار. وسوف نعمل على تحاشي الخلط بين الشَّخصيّات استناداً إلى المشابهات السَّطحيَّة، ونحاول تجاوز عزوها إلى السِّمات الصِّنفيَّة بقدر ما نستطيع.
وبالرَّغم من هذا الخلط في صورة لقمان في التُّراث العربيِّ، كما سنبيِّن لاحقاً، فإنَّ أغلب آراء العُلَماء القُدَماء كانت ترى فيه حكيماً وحسبُ، وليس نبيّاً. نقل الثَّعلبيُّ: «اتَّفق العلماء أنَّه كان حكيماً، ولم يكن نبيّاً، إلّا عكرمة، فإنَّه كان يقول إنَّ لقمانَ كان نبيّاً، تفرَّدَ بهذا القول. حدَّثَنا أبو منصور الخمشاويُّ عنه بإسناده أنَّه قال: كان نبيّاً. وقال بعضُهم: خُيِّرَ لقمان بين النُّبوَّةِ والحكمةِ، فاختارَ الحكمةَ. وروى نافع عن عبد الله بن عمر قال: سمعتُ رسولَ اللهِ يقولُ: حقّاً أقولُ لم يكنْ لقمانُ نبيّاً، ولكنْ عبداً عصمَهُ اللهُ تعالى، كثيرَ التَّفكُّر، حسنَ اليقينِ، أحبَّ اللهَ، فأحبَّهُ اللهُ، فمنَّ عليهِ بالحكمةِ». ولسنا نعرف مدى صحَّة هذا الحديث المزعوم، لكنَّنا لن نُعنى بالتَّأكيد بكونه نبيّاً، أو بالصُّورة القرآنيَّة عنه، بل يقتصرُ اهتمامُنا على البحث في علاقتِهِ بأحيقار في هذه الفقرة.

أدب غزير
وقبل كلِّ شيءٍ يجب أنْ نلاحظ أنَّ هناك أدباً غزيراً وصلَ إلينا يتعلَّق بالوصايا التي كان يوجِّهُها لقمانُ لابنه. ولكنْ يجب عدم اعتبار المشابهات الصِّنفيَّة مشابهاتٍ بين نصوص أحيقار ونصوص لقمان، لأنَّ أدب الوصيَّة بطبعِهِ هو خطابٌ يوجِّهُهُ الكبير إلى الصَّغير، أي من الأب إلى الابن، أو من الأستاذ إلى التِّلميذ. ولذلك فهذا التَّشابه ليس بين النُّصوص، بل بين الخصائص الصِّنفيَّة للوصيَّة. ولكنْ بمعزلٍ عن المشابهة الصِّنفيَّة، هناك عددٌ من النُّصوص المنقولة عن لقمان تشبه بعض النُّصوص المنقولة عن أحيقار. يقول د. فريحة: «في الأدب العربيِّ أقوالٌ عديدةٌ تُعزى إلى لقمانَ تتَّفق مع أقوالِ أحيقارَ وتعاليمِهِ. وقد اختبرنا منها نماذجَ قليلةً، وبمقابلتها مع تعاليم أحيقار لابنه يظهر مبلغ الشَّبَه بين التَّعليمين».
ولعلَّ من المستحسن أن نوردَ هنا بعض الأمثلة على نقل بعض نصوص لقمان من أمثال أحيقار. ويجب أن نضع في حسباننا أنَّ هذه النُّصوص كان يجري تداولُها شفاهاً. ولعلَّ الجاحظ كان من أوائلِ مَن نقلوا هذه النُّصوص كتابيّاً، ثمَّ نقلها عنه ابن قتيبة وابن عبد ربِّه وغيرهما.
قال لقمان: أي بُنَيَّ، إنِّي قد ندمتُ على الكلامِ، ولم أندمْ على السُّكوت.
وقال أحيقار: يا بُنَيَّ، احفظِ الكلامَ في قلبِكَ أفضلَ. فإنَّكَ عندما تُفضي بما في صدرِكَ تخسر صديقَكَ.
قال لقمان: إنَّ العالمَ الحكيمَ يدعو الناسَ إلى علمِهِ بالصَّمت والوقارِ، وإنَّ العالمَ الأخرقَ يطردُ الناسَ عن علمِهِ بالهذرِ والإكثارِ.
وقال أحيقار: يا بُنَيَّ، اقضِ في شبابِكَ قضاءً عادلاً كي تنالَ وقاراً في شبيتِكَ.
وقالَ: يا بُنَيَّ، مَن كانتْ يدُهُ ملآنةً سمّاه الناسُ حكيماً ووقوراً، ومَن كانتْ يدُهُ فارغةً سمّاه الناسُ مذنباً وسافلاً.
قالَ لقمانُ: ضربُ الوالدِ ولدَهُ كالسَّمادِ للزَّرْعِ.
وقال أحيقار: يا بُنَيَّ، لا تضنَّ على ابنِكَ بالتَّأديب، لأنَّ ضربَ الولدِ كالزِّبلِ للحديقة، وكالرَّسَنِ للحمارِ، أو لأيِّ حيوانٍ آخر، وكالقيدِ في رجلِ الحمارِ.
وقال أحيقار: يا بُنَيَّ، إذا أردتَ أن تكونَ حكيماً فاكففْ لسانَكَ عن الكذبِ، ويدَكَ عن السَّرِقةِ، بذا تصبحُ حكيماً.
وقد ورد في السِّيرة النَّبويَّة أنَّ سويد بن الصامت، وهو من زُعَماء المدينة قبل الهجرة، جاءَ إلى مكَّةَ حاجاً أو معتمراً، «فتصدَّى له رسولُ اللهِ حين سمعَ به، فدعاهُ إلى اللهِ وإلى الإسلامِ، فقالَ له سويد: فلعلَّ الذي عندَكَ مثلُ الذي معي، فقالَ له رسولُ اللهِ: وما الذي معَكَ؟ قالَ: مجلَّةُ لقمانَ، يعني حكمةَ لقمانَ، فقالَ له رسولُ اللهِ: اعرضْها عليَّ، فعرضَها عليه، فقالَ له: إنَّ هذا الكلامَ حَسَنٌ، والذي معي أفضلُ من هذا، قرآن أنزلَهُ اللهُ تعالى عليَّ هو هدىً ونورٌ. فتلا عليه رسولُ اللهِ القرآنَ، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعدْ منه، وقالَ: إنَّ هذا لقولٌ حَسَنٌ، ثمَّ انصرفَ عنه، فقدمَ المدينةَ على قومِهِ، فلم يلبثْ أن قتلَهُ الخزرجُ».

كتابٌ غنوصيٌّ
ولا يستبعد بعض الباحثين أن تكونَ «مجلَّة لقمان»، أو «حكمة لقمان» المذكورة هنا عملاً مشابهاً لـ»أمثال أحيقار». لكنَّنا نعتقد أنَّ هذا الاستنتاج غير ضروريٍّ، بل هو مجرَّد احتمال، ويمكن الافتراض أيضاً أنَّه كتابٌ غنوصيٌّ مشابهٌ للأعمال الغنوصيَّة، التي تنطوي على وصايا مماثلة. غير أنَّ بعض مَن كتبوا السِّيرة النَّبويَّة أخذوه مأخذَ التَّسليم، فخلطوا بين أحيقار ولقمان خلطاً صريحاً، حين نسبوا للقمان ابناً سمَّوه «ثاران»، وهو في الحقيقة تصحيفُ «نادان» اسم ابن أحيقار في الرِّواية المشهورة. قال السُّهيليُّ: «ابنُهُ الذي ذُكِرَ في القرآن هو ثاران، فيما ذكر الزَّجّاج وغيرُهُ، وقد قيلَ في اسمِهِ غير ذلك».
من ناحيةٍ أخرى، فقد أُعطِيَ لقمان نسباً يقرِّبُهُ من الشَّخصيّات الكبرى قبل الإسلام. نقلَ الثَّعلبيُّ عن ابن إسحاق أنَّه جعلَهُ حفيد أخي إبراهيم. قال: «قال محمَّد بن إسحاق بن يسار: هو لقمانُ بنُ باعورَ بن ناحورَ بن تارخ، وهو آزر أبو إبراهيمَ عليه السَّلام. وقالَ وهب: كانَ ابنَ أختِ أيُّوبَ عليه السَّلام. وقال مقاتل: كانَ ابنَ خالةِ أيُّوبَ». وهنا ينبغي أن نعرف أنَّ الهدف من هذا النَّسب هو استيعاب حكمة لقمان وتوظيفها في سياقٍ ثقافيٍّ مناسبٍ. وقد رأينا هذه الظاهرة بعينِها حين استوعب «سفر طوبيا» أمثالَ أحيقارَ، وجعلَهُ ابنَ أخيه الذي يخلِّصُهُ من المآزق.